الخميس 5 سبتمبر 2024

رحلة في الذاكرة

مقالات5-9-2024 | 19:54

بمجرد أن يذكر اسم مؤسسة دار الهلال، أجد عقلي وبتلقائية سريعة يعود بي إلى سنوات بعيدة، فأراني وقد عدت طفلة في العاشرة بضفائرها الطويلة وشرائطها البيضاء، والتي لتوها عادت من يوم دراسي مرهق، شاعرة بالملل، وعليها الانتظار ببيت جدتها حتى مجيء والدها بعد ساعتين أو أكثر لاصطحابها عائدين للمنزل.

في هذا اليوم جاءتني فكرة متمردة، ضاربة بأي خوف عرض الحائط، ومتناسية تماماً تنبيهات أمي المشددة بأن لا تتسخ مريلة المدرسة أو الحذاء، وقررت أن أدخل الغرفة المنسية في بيت جدتي، تلك الغرفة التي لم يكن أحد يدخلها على الإطلاق، غرفة مظلمة دوماً بابها مفتوح، تقع في آخر منطقة من البيت الكبير، والتي باتت تستعمل كمخزن يضم الكثير من الأشياء القديمة التي لا حاجه لجدتي بها ولا تريد في نفس الوقت التخلي عنها.

تلك الغرفة التي ستكون هي البوابة التي سوف أعبر من خلالها نحو عالم مبهر، والتي ستكتشف فيها هذه الطفلة المحملة بالشغف والفضول كنزا سيصبح لها وحدها.. 

على ضوء المصباح  الصغير للممر الذي سرى نوره الخافت لمساحة صغيرة من الغرفة، فرأيت من بين كل تلك الأشياء القديمة والصناديق المتراكمة فوق بعضها البعض، أكوام كبيرة من الكتب والجرائد والمجلات موضوعة في زاوية مستقلة على أرضية الغرفة، فضولي نحو الكتب القديمة ذات الصفحات الصفراء، هو ما جعلني أنبش بشغف وتطلع، فأخذت أسحب من بين تلك الأكوام قدر ما يمكنني من الكتب التي تطولها يدي، حتى صار أمامي عشرات من الكتب القديمة.

لفت نظري كتاب من بينهم غلافه بدى كلوحة فنية رسمت لامرأة ورجل ينظر كل منهما للآخر بنظرات رومانسية مرهفة، لا أذكر عنوان تلك الرواية الآن ولكن وفي أعلى يسار الصفحة وجدت شعار على شكل مربع أبيض يتوسطه هلال أحمر، ومن تحته كتب بكلمات كبيرة روايات الهلال، وفهمت أنه مترجم عن رواية أجنبية، بالطبع لم أكن وقتها أعرف عن ماهية هذا الشعار ولا أين هي تلك الدار ولا أي فكرة عن قيمتها الثقافية والتنويرية في الحركة الثقافية بمصر والوطن العربي. كل ما رأيته هو شعار دار الهلال، وأنها رواية مترجمة.. جذبتني صفحاتها الصفراء، فرحت أقلبها صفحة تلو الأخرى، ودون أن أشعر بمرور الوقت وكأنني دخلت لتوي عالم من السحر والغياب بعيداً عن الواقع. أخذتني الكلمات والجمل السلسة الواضحة، فلم أشعر مع الترجمة بأي غرابة ولا صعوبة، فظهر أسلوب المترجم في غاية البراعة كإبداع موازي لا يقل جمالاً عن العمل الأصلي.. حيث التعامل مع النصوص المترجمة بشكل احترافي متقن.

 لم أستفق من تلك الغيبة اللذيذة إلا على صوت جدتي تناديني أن علي الذهاب، فلقد حضر أبي لاصطحابي.. إذن مرت ساعتين أو أكثر وأنا لا أشعر..!  أخذت الكتاب بعد أن أذنت لي جدتي، وظللت ممسكة به طوال الطريق وأنا جالسة بجوار أبي بالسيارة، أسترجع كل ما قرأت منذ قليل.. وفي تلك الليلة لم أنم حتى أنهيت قراءته..

في اليوم التالي قررت أن لابد أن تكون كل تلك الكتب ملك لي بدلاً من تركها وحيدة للأتربة والاهتراء.. ومرة أخرى أذنت لي الجدة بأخذها، فهي ليست بحاجه لها، وخير لها أن تكون في حوزتي فهي تعرف مدى حبي للقراءة واقتناء الكتب.. 

في الأيام التالية عمدت على نقلها على دفعات إلى منزلنا رغم اعتراض أمي بحجة أن لا مكان لكل هذه الكتب، لكني صممت ووعدتها أنني سأحتفظ بها في صندوق تحت سريري، فوافقت. 

 كانت أغلبها روايات عالمية مترجمة لدار الهلال من مختلف حدائق الأدب العالمي، كانت جواهر حقيقية من الترجمات الإبداعية، وأخرى لكتاب مصريين منهم على ما أذكر الكاتب فتحي رضوان وروايته السارق والمسروق صدرت العام 1967، وسلسلة مجموعة الشياطين الـ 13 للشباب والتي كانت تترأس تحريرها الأستاذة أمينة السعيد. ولا أنسى كذلك تلك الأعداد الرائعة من مجلة ميكي المدهشة التي كانت بين المجموعة، فلطالما أحببت أن أقرأ الحوارات الممتعة والمضحكة بين شخصياتها بصوت عالي وكأنني واحدة من بين الأبطال وأشاركهم في الأحداث، فأغير صوتي من شخصية لأخرى، فأنال بذلك متعة مضاعفة. كم أتمنى أن تعود مجلة ميكي إلى بيتها الأول وتنال الاهتمام السابق وكذلك الانتشار بين الأطفال ليتربى عليها أجيال جديدة..

 تلك إذن هي المجموعة الأولى من الكتب التي كانت أحد العوامل التي شكلت بدايات قراءاتي الأدبية واطلاعي على أقلام أجنبية ربما لم يذكرها الأجيال الجديدة الآن وكذلك كانت النواة الأولى لمكتبتي.. والتي لا تزال أحتفظ بهم فيها إلى الآن، وأهتم بترميم ما يهترء منهم، فهي تراث معرفي قيم..

شجعني ذلك فيما بعد على اقتناء ما تقدمه من مؤلفات عربية ومصرية لكبار الكتاب، فقرأت إصداراتها ليوسف إدريس، يوسف السباعي، توفيق الحكيم، جمال حمدان، وفكري أباظة. 

 إن مؤسسة دار الهلال هي رائدة من رواد التنوير والثقافة لأكثر من مائة وخمس وثلاثون عامًا بدأت أولى أنوارها الثقافية والتنويرية مذ أن أسسها جرجي زيدان صاحب العلامات المضيئة في الأدب، فأصبحت منذ ذاك الوقت من أهم دور الثقافة والترجمة في مصر والوطن العربي، إضافة إلى أنها سلطت الضوء على كثير من الكُتاب الذين أصبحوا فيما بعد عمالقة ورواد من رواد الفكر والأدب، فكان أول ظهور لهم من خلال مؤسسة دار الهلال أمثال يوسف إدريس، فكري أباظة، أمينة السعيد، يوسف السباعي، رجاء النقاش، وغيرهم الكثيرين.

دار الهلال هي طاقة عطاء مستمرة ساهمت ولا تزال تساهم فيها قامات محبة من كبار الصحافيين والأدباء والخبراء في مجالات الأدب على اختلافها، فتجدهم يبذلون كل جهد ممكن في سبيل التطوير والإبقاء على ذاك الصرح العريق والمهم، إنهم تلك القوة الناعمة الفاعلة والمؤثرة في مصر والوطن العربي..

أراني أدين لترجمات وإصدارات مؤسسة دار الهلال بأن كانت لي بمثابة الأجنحة السحرية التي حلقت بها في سماء الأدب العالمي، فجعلتني أنهل بكرم بالغ من جماليته وروائعه، مما كان له بالغ الأثر في تكوين ذائقتي الفكرية والأدبية. ومن تلك الخبرة في قراءة الإصدارات المنتقاة للقارئ المصري والعربي، واكتشفت فيما بعد أنها صنعت كذلك قدرتي على الانتقاء بين ما هو ثمين وما هو مزيف، فاستطعت من خلال تلك القراءات المختلفة أن أتلمس قيمة الكتاب من الصفحات الأولى، فإما أكملت القراءة أو تركته بلا رجعة ولا ندم.. جعلتني أثق في رأيي وذائقتي وخبرتي.. 

وحين بدأت أولى كتاباتي، كنت محملة بجمال الكلمة وعمق الرؤية التي لطالما لمستها في قراءاتي تلك، فخطوت أولى خطواتي بما لدي من مخزون ثقافي وقراءات متعددة في جميع ألوان الأدب والمعرفة، وكأن كل من ارتبط بدار الهلال وبإصداراتها، أراه وكأنه بورك بها، فلمسته الريشة السحرية للآداب والثقافة والإبداع.

وها هي مؤسسة دار الهلال رغم المعوقات والأزمات الاقتصادية والثقافية لا تزال تحمل راية التنوير والثقافة ونشر الآداب العالمية والعربية والمصرية من خلال الإصدارات والترجمات المختلفة والمنتقاة والتي استحقت أن تكون علامة فارقة في عالم الأدب.. وفي هذه الأيام نحتفل بذكرى تأسيسها متمنين أن تستمر مؤسسة دار الهلال على تلك الخطى المباركة في طريق التنوير، وأن تظل حاملة لشعلة المعرفة، مساهمة في تشكيل وعي وثقافة الشباب في مصر والوطن العربي.