الفقر لا يقتل الطموح ولا يمنع الإنسان من أن يكون فاعلا ومؤثرا ورائدا للتنوير.. فإن الإصرار والمثابرة والجد والاجتهاد يحقق الأحلام.. هذا هو ملخص حياة جرجى زيدان مؤسس واحدة من أكبر مؤسسات التنوير فى منطقتنا العربية وهى دار الهلال.
فقد نشأ فى أسرة فقيرة أراد أبوه أن يساعده فى عمله وهو تشغيل إدارة المطعم الصغير الذى كان يملكه فقرر أن يعلمه القراءة والكتابة والحساب فى إحدى المدارس المتواضعة، لكن الطفل الصغير قرر أن يتعلم ما هو أكثر من مجرد مبادئ القراءة والكتابة والحساب مع العمل أيضا فى صناعة الأحذية. فأتقن العربية والفرنسية والإنجليزية وتعلم العبرية والسريانية وشرع فى دراسة الطب لكنه لم يكملها سواء فى لبنان بلد المنشأ أو مصر التى اقترض بضعة جنيهات للسفر إليها والعيش فيها. ودرس بعد الطب الصيدلة بعض الوقت ولم يكمل هذه الدراسة أيضا.. والأهم تعلم حب القراءة والبحث من رواد مطعم والده البسيط الذين كان بعضهم من المثقفين والكتاب والاُدباء.. ولذلك عندما جاء إلى القاهرة من بيروت لم يجد صعوبة فى التعرف على مثقفيها وكتابها وأدبائها وشعرائها، بل والعمل فى مجال الكتابة عندما التحق بالعمل فى جريدة الزمان التى كان مالكها رجل أرمنى.
ورغم أنه عاود دراسة الطب فى القاهرة الذى درسه لنحو العام فى بيروت إلا أنه لم يستمر فى دراسته واتجه للعمل فى الكتابة والثقافة والأدب، وإن كان قد اتجه للعمل فى الترجمة للإنجليزية التى جعلته يسافر مع الحملة البريطانية للسودان.. ثم بعد عودته للقاهرة أدار مجلة المقتطف لنحو ثمانية عشر شهرا، واشترك مع نجيب متري فى ملكية مطبعة لمدة عام، وعندما انفضت الشراكة احتفظ بالمطبعة التى طبع فيها مجلة الهلال التى أصدرها في عام ١٨٩٢ منذ العدد الثانى لها، أما العدد الأول للمجلة الذى صدر فى ٣٢ صفحة فقد طبعه خارجها.. وكانت مجلة الهلال هى نواة مدرسة الهلال المميزة والبارزة للتنوير التى حفلت بالمطبوعات العديدة والمتنوعة فيما بعد، وهى المدرسة التى شملت إصدارات سياسية وإصدارات طبية وإصدارات للفن والفنانين وللمرأة وأيضاً للطفل.. لذلك يعد صدور مجلة الهلال حدثا ثقافيا مهما فى تاريخ الصحافة المصرية والعربية.
وعندما أصدر جرجى زيدان مجلة الهلال حرص على أن يضع لها دستورها المهنى والقيمى والفكري، خاصة وأنه تقدم بها للقراء بوصفها مجلة علمية، تاريخية، صحية، أدبية، أى مجلة ثقافية شاملة وجامعة.. واعتمد هذا الدستور المهنى والقيمى على احترام القارئ ومخاطبة عقله من خلال تقديم المعلومات الصحيحة والصادقة والمدققة والسليمة له فى المجلة التى صدرت فى البداية فى خمسة أبواب أو أقسام، وأيضاً الإخلاص. فى العمل، أى حسن انتقاء ما يقدم للقارئ وايضاً ما أسماه فى افتتاحيتها بفصل الخطاب أو أفضله وأحسنه، مع دعم الكتاب فيها، الذين أسماهـم أصحاب الأقلام، ولعل ذلك يرجع إلى مخالطته فى طفولته للكُتاب الذين كانوا يترددون على مطعم والده البسيط.
وبسبب هذا الدستور المهنى والأخلاقي اجتذبت مجلة الهلال مبكرا كبار وأشهر الكتاب والشعراء والاُدباء للكتابة فيها، ولاقت لذلك مبكرا أيضا رواجا وانتشارا كبيرا وواسعا لدى القراء الذين استقبلوها بترحاب وإقبال على شراءها واقتنائها كل شهر.
ورغم أن جرجى زيدان كان يعكف بنفسه على أعداد مجلة الهلال، وفيما بعد ساعده ابنه إميل إلا أنه أنجز عدة كتب مهمة فى مجالات شتى منها ما هو تاريخى، ومنها ما هو أدبى وروائى، ومنها ما هو فى أدب اللغات، ومنها ما هو فى أدب الرحلات، ومنها ما هو فى العلوم الطبيعية.. وقد كان له سلسلة روايات مهمة وبارزة عن تاريخ الإسلام.
وقد التزم الرجل فى كل ما كتب بهذا الدستور الذى اهتدى به فى مجلة الهلال، والذى كان عنوانه احترام للقارئ والكاتب معا.. لذلك صارت مجلة الهلال أوسع المجلات الثقافية انتشارا فى المنطقة العربية، وهى تعد أقدم مجلة ثقافية من حيث الانتظام فى الصدور منذ صدورها قبل أكثر من قرن ونصف القرن وحتى الآن، فهى لم تتوقف عن الصدور شهرا واحدا وتوالى على رئاسة تحريرها أشهر وابرز الكتاب والمثقفين فى البلاد.. بل إنها كانت اللبنة الأولى فى مدرسة التنوير التى افتتحها الرجل فى المؤسسة أو الدار التى سميت باسم الهلال أيضا التى تعد ثانى أعرق المؤسسات الصحفية فى مصر بعد الأهرام.
أما سبب اختيار جرجى زيدان لاسم الهلال لمجلته الأولى فقد أوضح ثلاثة أسباب لاختياره فى افتتاحية العدد الأول للمجلة، وهى أولا تبركا بالهلال العثماني، وثانيا لأنها تصدر كل شهر، وثالثا تفاؤلا بمستقبلها.. وكان هذا التفاؤل فى محله.. فرغم تعدد الإصدارات الثقافية فى مصر والمنطقة العربية تظل مجلة الهلال هى الأبرز والأشهر والأهم وأيضاً الأكثر عراقة.