السبت 7 سبتمبر 2024

عابرة للزمان

مقالات5-9-2024 | 21:14

بعض الأفكار تسقط وتتلاشى سريعا لأنها لا هدف لها ولا إبداع فيها ولا رؤية تحكمها، فلا تصل إلى الناس، ولا تمكث فى الأرض طويلا، وبعض الأفكار على قلتها قادرة على الاستمرار والبقاء والصمود والنجاح لعقود وربما قرون، لأنها سابقة لعصرها مختلفة فى رسالتها، ولهذا فكلما مر بها الزمان تزايدت ثمارها وتضاعفت قيمتها ورسخت مكانتها وشعر الناس بأهميتها.

قد تكون الفكرة مشروع وطنى كما فعل رجل الاقتصاد طلعت حرب، زرع شجرة مصرية خالصة لم تتوقف عن إنتاج الثمار حتى الآن لتحفر اسمه فى ذاكرة الأمة طوال الزمان، وقد تكون الفكرة مشروع ثقافى مثلما فعل المبدع جرجى زيدان الذى أسس الهلال لتكون مصنعا للإبداع الثقافى ومنارة للتنوير ومصباحا للعقول، لم يؤسس جرجى زيدان القادم من لبنان مجلته بحثا عن ربح مالى، رغم أن هذا ليس ممنوعا ولا حراما، وإنما كانت الفكرة عن عقيدة سيطرت عليه وقناعة تمسك بتحقيقها، وفكرة آمن بها، وعمل من أجل نجاحها، ولذلك بقيت وقويت وحققت أكثر مما كان متوقعا لها، وارتبطت بها أجيال مختلفة تربوا عليها وتثقفوا من صفحاتها، ونحن نحتفل الآن بمرور ١٣٢ عاما على ميلاد الهلال فلابد أن نعرف أن هذا ليس مجرد رقم نقرأه وإنما هو عمر فى تاريخ الصحافة كبير لا تصل إليه إلا كبريات الصحف والتى تقف وراءها مؤسسات عملاقة وكيانات ضخمة أو لها أهداف بعينها، لكن الهلال كانت على العكس تماما فلم تكن وراءها مؤسسات تدعمها ولا أجندات تنفذها ولكنها بقيت بكيانها الشخصى وتأثيرها الأدبى والثقافى، وإيمان مؤسسيها ثم الدولة بعد ذلك برسالتها، خلقت الهلال لنفسها منذ البداية مساحة التفرد وسر البقاء، وصنعت روادها بقدرتها على أن تحافظ دوما على تميزها الصحفى وحالة التجديد المستمرة التى كانت فى بعض الفترات تتحقق بشكل ذاتى، فهى مجلة ذاتية التطور، بل قادرة على استيعاب كل الأفكار الجديدة والمتطورة فى كل عصر، ولهذا ورغم مرور مصر بفترات تعثر وتراجع ثقافى، كانت الهلال جزءا من التجديد فى المجتمع بل دافعة له وصانعة لرواده وواحدة من أسباب العودة من خلال أقلام المبدعين الذين ارتبطوا بصفحاتها وأفكارهم الحداثية وصيحاتهم التى كثيرا ما أيقظت الضمير الثقافى المصرى بل والعربى. 

لن اتحدث عن أسماء فكلهم أعلام تركوا بصمات لا تمحى وتأثير لا ينتهى، أجيال من المبدعين تعاقبوا على الكتابة فى الهلال أو رئاسة تحريرها وعندما تقلب صفحات المجلة العريقة عبر الزمان لا تجد إلا كبار المثقفين والمفكرين والمبدعين، والأدباء، وفى كل مقال تجد الرسالة الواضحة، والفكرة المختلفة عن غيرها من المجلات و الإصدارات الصحفية، كما تجد الإطلالات الجديدة لأقلام ولدت على صفحات الهلال ومن خلالها انطلقت إلى العالم الثقافى الرحب، شعراء وروائيون وباحثون فى مجالات الثقافة وأبوابها المتسعة، بل تجاوزت المجلة هذه المساحة مبكرا لتفتح آفاقا جديدة لعلاقة الثقافة والأدب بالعلم والتكنولوجيا والذكاء الاصطناعى، ولم يكن هذا ابتعادا عن رسالتها بل من صميمها وترجمة لما كتب على غلافها الأول بأنها مجلة علمية تاريخية أدبية صحية، فكان ما كتب على صفحاتها عن مستقبل العلوم بأقلام علماء ومفكرين  قبل عقود هو ما يتحقق الآن. 

الخلاصة التاريخية لتلك المجلة العريقة العابرة للزمان أنها صاحبة رسالة منذ العدد الأول لها، ولم تتخلَّ عن هذه الرسالة ولم تهادن فى الدفاع عنها، وإذا كان المؤسس جرجى زيدان طلب من الله فى افتتاحية العدد الأول أن يلهمه فى مجلته الصواب وفصل الخطاب، فقد ظلت المجلة تمتلك الخطاب الثقافى المستنير والدينى المعتدل والتاريخى المتعمق، وجعلت صفحاتها جامعة لكل حادب على الهوية المصرية والعربية، وكل باحث عن الفكر البناء وكل منقب فى كنوز الأمة العامرة، وكل متطلع لفائدة المجتمع وصناعة الوعى وكل متحمس ومؤمن لمواجهة الفكر الظلامى والتطرف الدينى والثقافى، وخلال السنوات الأخيرة كان إدراك الدولة ممثلة فى الهيئة الوطنية للصحافة لأهمية ودور وتأثير الصحافة الثقافية سببا فى دعمها الذى لا يتوقف للمجلة حرصا على استمراريتها واستكمال رسالتها تحت رئاسة تحرير صديق محب للثقافة مستمتع برحابها مدرك لقيمة الوعى وخطورة قضية الدفاع عن ثوابت الأمة  فى مواجهة تيارات جانحة جامحة تسعى لاختطاف العقول وسرقة التاريخ وغربنة الفكر.