السبت 7 سبتمبر 2024

جرجي زيدان وريادة المسرح العربي في مصر

مقالات7-9-2024 | 00:49

جميع الكتب والمراجع والمصادر والرسائل الجامعية في العالم كله - وبكافة اللغات - منذ عام 1953 وحتى عام 2001، تُجمع على أن رائد المسرح العربي في مصر هو «يعقوب صنوع»!! والسبب في ذلك أن الدكتور «إبراهيم عبده» قام عام 1953 بنشر مذكرات صنوع في كتابه «أبو نظارة إمام الصحافة الفكاهية المصورة وزعيم المسرح في مصر»! وبسبب هذا الكتاب وهذه المذكرات ظلت ريادة صنوع للمسرح المصري راسخة في أذهان الجميع حتى عام 2001، عندما صدر كتاب «محاكمة مسرح يعقوب صنوع»، الذي زلزل ريادة صنوع - ومازال يزلزلها حتى الآن - وكاد الجميع - بسبب كتاب المحاكمة - يقرّ بعدم ريادة صنوع للمسرح العربي في مصر، ومازال الجميع في بحث دؤوب منذ ربع قرن لعل وعسى يعود صنوع إلى عرش الريادة المسرحية في مصر!!

سبب الزلزال الذي أحدثه كتاب «محاكمة مسرح يعقوب صنوع» - وما نشره مؤلفه من كتابات أخرى - أنه أثبت أن يعقوب صنوع ليس مصرياً بل «إيطالياً/إنجليزياً»! أما ريادته للمسرح، فالزلزال الذي أحدثه كتاب المحاكمة تمثل في هذا السؤال: هل يستطيع أي باحث في العالم أن يأتي بأدلة تثبت ريادة صنوع للمسرح، تتوافق وتتسق وتتناسب مع ما ذكره صنوع في مذكراته عن ريادته للمسرح العربي في مصر، دون أن يعتمد هذا الباحث على كتابات صنوع عن ريادته المسرحية في مذكراته وصحفه وكتاباته عموماً؟! هذا السؤال هو الإشكالية!! فكتاب المحاكمة أثبت أن «جميع» من كتبوا عن ريادة صنوع للمسرح – من مصريين وعرب وأجانب ومستشرقين - نقلوا ما كتبوه من كتابات صنوع نفسه!! وبمعنى آخر: أن يعقوب صنوع كتب بنفسه عن نفسه فيما يتعلق بريادته للمسرح!!

هذا الكلام يمكن الرد عليه بسهولة إذا وجدنا معاصراً لصنوع، تحدث عن ريادة المسرح، أو مرجعاً تحدث عن ريادة المسرح العربي في مصر أثناء حياة صنوع!! ولن نجد معاصراً مؤرخاً أفضل من «جرجي زيدان»، ولن نجد مرجعاً معاصراً لحياة صنوع أهم من «مجلة الهلال»!!

في ديسمبر 1896 نشرت مجلة «الهلال» في باب «السؤال والاقتراح» سؤالاً أرسله «مينا راغب»، قال فيه: "متى أُدخل فن تشخيص الروايات إلى القطر المصري؟ وما هي أول رواية مُثلت به؟" .. فأجاب جرجي زيدان قائلاً: "لم يدخل فن التمثيل العربي إلى هذه الديار إلا في أواخر حُكم المغفور له الخديو إسماعيل باشا، وأول مَنْ مثّل رواية تشخيصية فيها المرحومان «أديب إسحاق، وسليم النقاش»، أما أول رواية مثلاها فرواية «أندروماك» أو رواية «شرلمان». وبمناسبة ذلك نقول إن أول من أدخل فن التمثيل إلى الشرق المرحوم «مارون نقاش» البيروتي المتوفى سنة 1855 وعنه أخذ كل من جاء بعده من الممثلين".

هذا القول يُعدّ صدمة، لأن «جرجي زيدان» بوصفه مؤرخاً للآداب والفنون لم يذكر اسم «يعقوب صنوع» بوصفه رائداً للمسرح العربي في مصر، ولم يذكر أي نشاط له، وكأنه سراب، علماً بأن صنوعاً كان حيّاً في عام 1896!! وفي المقابل يذكر زيدان اسما «سليم النقاش» و«أديب إسحاق» بوصفهما رواداً للمسرح العربي في مصر، ويذكر أيضاً عرضهما المسرحي الأول!! بل ولم ينس زيدان أن يذكر «مارون النقاش» بوصفه رائداً للمسرح العربي بصفة عامة، وأن كل من جاء بعده أخذ منه!! علماً بأن ذكر مارون لم يكن مطلوباً في الإجابة، لأن السؤال كان عن رائد المسرح العربي في مصر!! ولكن «جرجي زيدان» أراد أن يثبت للقراء قدرته في التأريخ وامتلاكه لجميع المعلومات الصحيحة المتعلقة بريادة المسرح مصرياً وعربياً!! ورغم ذلك يظل السؤال قائماً: لماذا أنكر جرجي زيدان صنوعاً، ولم يذكره بوصفه رائداً للمسرح العربي في مصر؟! 

الاحتمال الوحيد أن «جرجي زيدان» تسرّع في الإجابة فأخطأ في التاريخ ولم يكن يعلم شيئاً عن صنوع بوصفه رائداً مسرحياً، ولو جاءت لزيدان الفرصة مرّة أخرى سيصوب الأمر ويستعد جيداً بعد دراسة متأنية لكافة المعلومات المتعلقة بريادة المسرح العربي في مصر!! ولحُسن الحظ جاءت لزيدان الفرصة مرة أخرى بعد تسع سنوات، وأظنها فترة كافية كي يدرس زيدان كل المعلومات المتعلقة بريادة المسرح المصري ونشاط صنوع وأحقيته في هذه الريادة!!

في عدد «مجلة الهلال» الصادر في ديسمبر 1905، كتب «جرجي زيدان» مقالة عنوانها «التمثيل العربي .. أصل التمثيل وتاريخه»!! وهذا يعني أن جرجي زيدان درس وفحص ومحص كل ما يتعلق بالريادة المسرحية، كي يكتب موضوعاً هذا عنوانه!! وبالفعل كتب زيدان موضوعاً كبيراً في ثماني صفحات تناول فيها ريادة المسرح عالمياً وعربياً ومصرياً، ويهمنا ما ذكره عن ريادة المسرح العربي في مصر، لأنه من المؤكد سيصحح معلوماته ويذكر صنوعاً بوصفه رائداً للمسرح .. وللأسف وجدنا زيدان يقول الآتي: ".. قدم مصر جماعة من أدباء السوريين وكُتابهم وشعرائهم. ومن جملتهم المرحومان «سليم النقاش، وأديب إسحق» وجوقهما فنزلوا الإسكندرية سنة 1876 ومثلوا فيها عدة روايات بمسرح زيزينيا، فسليم النقاش أول من مثّل الروايات العربية في القطر المصري، وعمُّه مارون أول من مثلها في سوريا".

هذا القول يُعدّ صدمة أخرى لنا، ويجعلنا نتساءل: لماذا أنكر زيدان ريادة صنوع للمسرح العربي في مصر مرة ثانية عام 1905، بعد أن أنكرها سابقاً عام 1896، وبين المرتين تسع سنوات، وصنوع على قيد الحياة طوال هذه السنوات التسع، ورغم ذلك يصرّ زيدان على إثبات الريادة لسليم النقاش وأديب إسحاق؟! أما المفاجأة فتمثلت في أن جرجي زيدان قال هذا في ديسمبر 1905، وقبلها بستة أشهر وجدنا صنوعاً ينشر في جريدته «أبو نظارة» كلمة بعنوان «المجلات والجرائد في وادي النيل» ذكر فيها مجلة الهلال وصاحبها، قائلاً: ".. ومجلة «الهلال» لأستاذنا جورج زيدان، جليلة الأفكار فصيحة اللسان. قرأت رواية من رواياته التاريخية، وثنيت على تآليفه البهية". إذن فصنوع يعرف جرجي زيدان ومجلته وقرأ لزيدان رواية من رواياته، وكتب عنها أو مدحها!! فلماذا أنكر زيدان على صنوع ريادته للمسرح؟؟ ولماذا لم يصوب صنوع لزيدان معلوماته؟ ولماذا لم ينشر صنوع تصويباً في مجلته «أبو نظارة» لما نشره زيدان خطأ في مجلته «الهلال»؟ ولماذا لم يعترض صنوع على كتابات زيدان الخاطئة فيما يتعلق بريادة المسرح، لا سيما وأن الخطأ تكرر مرتين، وصنوع على قيد الحياة ومجلته «أبو نظارة» تصدر منذ عام 1879 حتى عام 1906!!

هذه الأسئلة بكل أسف لا أملك الإجابة عليها، لا سيما وأن جرجي زيدان لم يكن في مصر عندما دخل المسرح العربي إلى مصر سواء على يد صنوع أو على يد سليم النقاش!! وظلت الأسئلة حائرة لمدة سنة تبحث عن إجابة، حتى ظهر من عاصر بداية ظهور المسرح العربي في مصر، وكان مشاركاً فيه، وهو «بطرس شلفون»، الذي صوّب معلومات زيدان التي جاءت في مقالته «التمثيل العربي .. أصل التمثيل وتاريخه»، حيث نشر بطرس هذا التصويب في كلمة له بعنوان «التمثيل العربي» في مجلة «الهلال» بتاريخ نوفمبر 1906، قائلاً:

"حضرة صاحب الهلال: قرأت مقالتكم في التمثيل العربي المنشورة في الهلال الثالث من السنة الماضية، فرأيت في كلامكم عن انتقاله إلى مصر أموراً تحتاج إلى تعديل. وبما إني معاصر لأكثر تلك الحوادث وصديق لأكثر أصحاب التمثيل في ذلك العهد، رأيت أن أكتب إليكم كلمة بهذا الشأن فأقول: جاء «سليم النقاش وأديب إسحاق» إلى الإسكندرية سنة 1876، وكنت يومئذ فيها فدعاني النقاش إلى تعليم الجوق فن التلحين على الأنغام المصرية، فأجبت طلبه مجاناً، فعلمتهم ثلاثة أشهر. ولم يفلح النقاش وأديب في التمثيل فتركا الجوق ليوسف الخياط، وكان من جملة الممثلين وانصرفا إلى الصحافة، فأنشآ جريدة التجارة، ثم جعلا اسمها «المحروسة» وهي التي اشتراها عزيز بك الزند بعد ذلك. وفي سنة 1878 انتقل «يوسف الخياط» بجوقه إلى القاهرة وتوسط له بعض الوجهاء لدى إسماعيل باشا الخديو، فأصدر أمره أن تفتح له الأوبرا يمثل فيها رواياته وأن يشهد الخديو التمثيل بنفسه. وأوَّل رواية مثلها الخياط رواية «الظلوم» حضرها إسماعيل فغضب لما فيها من ذكر الظلم والظالمين، فتوهم أنهم يعرّضون به وبأحكامه. فأمر بإخراج الخياط وجوقه من مصر فسافروا إلى سوريا وظلت الأوبرا الخديوية مقفلة في وجه التمثيل العربي إلى سنة 1882، وكان قد أُنزل إسماعيل وخلفهُ المغفور لهُ توفيق باشا الخديو السابق. وجاء في تلك السنة «سليمان أفندي القرداحي» بجوقه وفيه الشيخ سلامة حجازي فأذنت له الحكومة بالتمثيل في الأوبرا.

واتفق ظهور الثورة العرابية في ذلك العام فهاجر وكفّ عن التمثيل ولم يرجع في العام التالي بسبب الكوليرا ولكنه رجع سنة 1884 ومعه الشيخ سلامة وليلى اليهودية فكانت الأوبرا تضيق بالمتفرجين لكثرة الزحام رغبة في سماع سلامة وليلى ثم كان من تاريخ كما ذكرتم والسلام. [توقيع] «بطرس شلفون بالمالية - مصر»".

هذا الكلام ينطبق عليه مقولة: "وشهد شاهد من أهلها"!! فإن كان جرجي زيدان لم يعاصر صنوعاً ولم يحضر بدايات ظهور المسرح العربي في مصر، واتهمناه بأنه لم يدرس الموضوع جيداً وأخطأ تاريخياً عندما لم يذكر صنوعاً رائداً للمسرح في مصر، فها هو «بطرس شلفون» عاصر وشاهد وشارك وعلّم ودرّب أول فرقة أدخلت التمثيل العربي إلى مصر، بل وكان مؤرخاً لظهور المسرح العربي في مصر!! وكل ما ذكره يخلو تماماً من ذكر «يعقوب صنوع»، وكأنه لم يشاهده أو يشاهد نشاطه المسرحي، مما يعني أن بطرس شلفون – مثله مثل زيدان – أخطأ تاريخياً في عدم ذكره لريادة صنوع المسرحية!!

بعد مرور أربع سنوات جاءت الفرصة مرة ثالثة لجرجي زيدان كي يتراجع عنه خطأه، ويذكر صنوعاً بوصفه رائداً مسرحياً، عندما نشر في عدد الهلال مايو 1910، مقالة عن النهضة المصرية في عهد الخديوي إسماعيل، حيث قال فيما يتعلق بالنهضة المسرحية: "جاء مصر جماعة من أدباء السوريين وكُتابهم وشعرائهم. ومن جملتهم المرحومان «سليم النقاش وأديب إسحاق»، ومعهما جوق من جملة الممثلين فيه المرحوم يوسف خياط فنزلا الإسكندرية سنة 1876 فمثلا عدة روايات في مرسح زيزينيا فلم يلقيا إقبالاً فتخليا عن الجوق ليوسف خياط وانصرفا إلى الصحافة".

وهذا الكلام يعني أن جرجي زيدان مازال متمسكاً برأيه التاريخي، المتمثل في عدم ذكره لريادة يعقوب صنوع للمسرح العربي في مصر!! وعندما نشر زيدان كتابه «تاريخ آداب اللغة العربية»، أثبت كلامه السابق دون تغيير، وأصرّ على عدم ذكر صنوع بوصفه رائداً للمسرح المصري!!

وإذا نحينا جرجي زيدان جانباً، ونظرنا إلى غيره ممن نشروا في مجلة "الهلال" كلاماً يتعلق بالريادة المسرحية في مصر: هل قالوا ما قاله زيدان أم قالوا قولاً مختلفاً!! ومن أمثله هؤلاء «خليل مطران» الذي ألقى خطبة عن هذه الريادة في افتتاح «مسرح حديقة الأزبكية» بعد تجديده يوم 30/12/1920، ونشرت مجلة «الهلال» هذه الخطبة! فماذا قال مطران .. قال:

"أول من خطر له إدخال هذا الفن في لغة الناطقين بالضاد، هو المرحوم مارون النقاش لخمسين سنة مضت .... أعقب مارون قريب له معروف بين أدباء المحروسة في زمانه، هو المرحوم «سليم النقاش»، وسليم هذا أول من أنشأ فرقة للتمثيل بمصر باتفاق بينه وبين الحكومة أوجبت على نفسها بمقتضاه إمداده بمال والترخيص له في استخدام الأوبرا زمناً معلوماً لتمثيل رواياته وأشهر تلك الروايات ميّ والمقامر وعائدة ثم أندروماك وهذه بقلم أقدر أدباء وقته وأشهر خطبائه المرحوم أديب إسحق". 

هذا الكلام ذكره خليل مطران في افتتاح مسرح حديقة الأزبكية، وفي حضور وزراء وأعيان وأدباء ومؤرخين ومثقفين وموسيقين وممثلين وصحافيين وكُتّاب .. ألم ينتفض أحدهم ويوقف مطران ويقول له: "ويحك يا رجل .. لماذا لم تذكر يعقوب صنوع رائد المسرح المصري"! ولكن هذا لم يحدث، لأن الجميع على علم تام بأن رائد المسرح العربي في مصر هو «سليم النقاش»!!
الخاتمة

وبناء على ما سبق يجب على قارئ هذا الموضوع اختيار أحد أمرين، وفقاً لمهاراته في التفكير وقدراته البحثية: الأول الاعتقاد بأن «جرجي زيدان» و«بطرس شلفون» و«خليل مطران» ليست لديهم معلومات صحيحة بخصوص ريادة يعقوب صنوع للمسرح العربي في مصر! والرأي الآخر الاعتقاد بأن «جرجي زيدان» وكل ما نشرته مجلة «الهلال» بخصوص ريادة سليم النقاش صحيح مائة بالمائة، وأن «يعقوب صنوع» ليس مصرياً بل إنجليزى إيطالى، ولا يُعدّ رائداً للمسرح العربي في مصر، وفقاً لأدلة مؤلف كتاب «محاكمة مسرح يعقوب صنوع» - وما أضافه من كتابات أخرى - تثبت أن «جميع» الباحثين في العالم نقلوا ريادة صنوع للمسرح من كتابات صنوع نفسه، لذلك لم يذكر جرجي زيدان ولا كُتّاب مجلة الهلال أي شيء يتعلق بصنوع وريادته المسرحية!!