السبت 7 سبتمبر 2024

مسيرة قرون لا عقود


علاء عبدالهادي كاتب صحفى رئيس تحرير أخبار الأدب السابق

مقالات7-9-2024 | 00:51

علاء عبدالهادي

عندما تتجول فى شوارع القاهرة التاريخية سوف تقع فى هوى مبانيها العريقة، وستجد نفسك تتحدث عنها بكثير من الفخر، مع أى زائر، وكيف أنها لا تفرق عن مثيلاتها فى باريس، وستجد من يقول لك أنها قاومت الزمن وبقيت، إلى يومنا هذا ولم تفقد بريقها، وأنها ربما تمتلك أسباب بقائها لعقود وربما قرون قادمة، لسبب جوهرى بسيط هو أنها تأسست على أسس سليمة، فما بالنا بمجلة تأسست أواخر القرن التاسع عشر بكل تحدياته وظروفه السياسية والاجتماعية والثقافية، ثم خاضت غمار القرن العشرين كاملا بكل تقلباته الحادة حيث وقع العالم ضحية لحربين عالميتين غيرتا وجه الحياة على الكرة الأرضية وتبدلت الخرائط وولدت دولًا وقوى واختفت أخرى، وتحول الأعداء إلى حلفاء وأصبح حلفاء الأمس أعداء اليوم، ثم تجاوزت كل ذلك ودخلت القرن الحادى والعشرين الذى يختلف هو الآخر اختلافًا كليًا عن سابقيه، بالتأكيد لم يكن استمرار مجلة «الهلال» لنحتفل اليوم ب132 عامًا على صدورها وليد الصدفة، أو ضربة حظ. بالتأكيد هناك العديد من الأسباب التى جعلت هذه المجلة تنجو من عشرات المحن التى مرت بها، ليست عشرات بل مئات المجلات والإصدارات الثقافية التى صدرت فى مصر، وفى المنطقة العربية، وكانت سببًا فى قتل الحلم وعدم الاستمرار، الفارق بين كل تلك التجارب التى لم يكتب لها الاستمرار كان عادة فى المدة التى تصمد خلالها المطبوعة الثقافية، تقاوم  لمدة سنة أو اثنتين، أو عشر سنوات، ثم تختفى، وللأمانة لم يكن تدنى المستوى أو ضعف المحتوى وراء اختفاء كثير منها، فبعض تلك المجلات، كانت جيدة المستوى، الرسالة مثلا، كانت إحدى أفضل المجلات الثقافية التى صدرت فى مصر بل والمنطقة العربية، وكان دورها مؤثرًا بصورة إيجابية، ولكنها توقفت ليس لتدنى المستوى، أوحتى لانتفاء الحاجة الى الدور الذى تلعبه، ولكن لأن وزارة المعارف ألغت الاشتراك فيها، لضغط الإنفاق !

لا يمكن لباحث، أو لكاتب صحفى عمل فى مجال الصحافة الثقافية أن يتجاهل تجربة مجلة "الهلال" ومحاولة تقصى أسباب استمرارها عبر هذه العقود الطويلة، فأى منصف لابد أن يقرأ ويتمعن فى الأسباب، فتجربة "الهلال" تمثل جزءًا أصيلًا من تاريخ مصر الثقافى على امتداد  132 عامًا هى عمر المجلة منذ أن أصدرها جرجى زيدان فى الأول من سبتمبر من عام 1892م، لست فى حاجة إلى تكرار ما هو معروف بالضرورة عن هذه التجربة التى يتجاوز عمرها، عمر الكثير من الدول المجاورة، وحتى الأوروبية منها، يكفى أن "الهلال" استظلت فى أعدادها الأولى بظل الدولة العثمانية، قبل أن يأفل نجمها، وعايشت الاحتلال البريطانى لمصر، وكانت على مرمى حجر من تبعات فشل الثورة العرابية، ثم عايشت ثورة 1919م، ثم ثورة 23 يوليو وانتهاء الملكية وتأسيس الجمهورية ثم نقفز قفزة واسعة لنجد أن "الهلال" شاهدة على تدشين الجمهورية الثالثة على يد أحد أفضل من أنجبتت العسكرية المصرية: الرئيس عبد الفتاح السيسى، خريج مدرسة الشرف والنزاهة والقوة والصلابة، "الهلال" مستمرة لتكون شاهدُا على صلابة وأصالة ونبل الموقف المصرى، تجاه صراع لا يكاد يهدأ حتى يشتعل، لعدم الأخذ بالرؤية المصرية التى تتبلور فى أن حل كل مشاكل الإقليم يبدأ من حل المشكلة الفلسطينية المرتكزة على حل الدولتين، شاهدة على إقليم ملتهب عبر حدود مصر الغربية والجنوبية والشرقية، ربما يأتى يوم بعد قرن آخر ليقرأ الأحفاد فى "الهلال"، كيف حمى جيش مصر، سفينة الوطن، وحافظ على رايتها خفاقه، تمامًا كما نتصفح الهلال الآن قبل قرن من الزمان، لنرى كيف كانت مصر وقت ثورة 1919، ومن باع الوطن ووقف فى صف أعدائه، ومن دفع الثمن غاليًا ولم يقايض على شرف الوطن أو يمسك العصا من المنتصف، كل ذلك عبر رؤية ثقافية، وما أصدق رؤى المثقفين، وما أنبلها، وكيف كان حال مصر بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى التى كان فيها للإنجليز، دولة الاحتلال، الدور الفاعل، ثم تصريح 22 فبراير، وكيف تحولت مصر الى قِبلة وملجأ للآلاف من الأرمن ووجدوا فيها الملاذ الآمن.

البدايات تحكى لنا عن جُرجى زيدان الذى جاء إلى مصر، مثل غيره من كثيرين من الشوام الذين وجدوا فى مصر ضالتهم، ووجدوا فيها مناخًا رأوه أكثر رحابة من ذلك الذين يعيشونه فى الشام ، جاء الى الإسكندرية فى أكتوبر عام 1883 وليس فى جيبه سوى بقايا جنيهات ست اقترضها من جارٍ للأسرة، سدد جزءًا منها مصاريف المركب، جاء وفى نيته دراسة الطب، ولكنه قرر أن يعمل محررًا فى صحيفة الزمان، الصحيفة الوحيدة التى أبقى عليها الاحتلال البريطانى لمصر، وربما تكون هذه الواقعه، واختيار الإنجليز له، فيما بعد ليصاحب حملتهم لاحتلال السودان سببًا فى وضع علامات استفهام على مشروع زيدان، وحجم ودرجة علاقته مع الإنجليز !

لم يتحرك جرجى زيدان بصورة عشوائية، ولكن كان لديه ما يمكن اعتباره مشروعًا فكريًا متكاملًا، اتفقت أو اختلفت معه، ولكن لكى نتعرف على هذا المشروع، لابد أن نتعرف على البيئة والمناخ، والأوضاع الثقافية والاجتماعية والسياسية لمصر والمنطقة، ثم نحكم على مشروع زيدان بمعايير زمانه وليس بمعايير اليوم .

تعالو نعود للوراء؛ تحديدًا إلى الربع الأخير من القرن التاسع عشر، حيث مصر إبان حكم الخديو إسماعيل، حفيد المؤسس للدولة العلوية، محمد على باشا الكبير، وحيث مصر مازالت تعيش فى أجواء مرحلة محاولة استيعاب تبعات الزلزال الذى أحدثته الحملة الفرنسية، وكشفها لدرجة التخلف والرجعية التى وصل إليها الحال فى مصر، ثم مشروع محمد على لبناء دولة حديثة على النموذج الغربى، يكون فى القلب منها بناء جيش قوى قادر، ثم مصر التى كانت تعانى من فشل الثورة العرابية وما استتبع ذلك بوقوع مصر فريسة  للاحتلال البريطانى .

عندما أسس جرجي زيدان مجلة الهلال في عام 1892، كان المناخ الثقافي والاجتماعي والسياسي في مصر والعالم العربي فى طريقه لأن يشهد تحولات كبيرة، حيث كان هناك ما يمكن أن نعتبره إرهاصات لحركة أدبية وثقافية، ترجمت فى ظهورالعديد من الصحف والمجلات التي تهتم بالأدب والفكر، وعزز من ذلك أنه كانت هناك حركة نشطة لترجمة الأعمال الأدبية والعلمية من اللغات الأوروبية إلى العربية، كما بدأ التعليم وفقًا للنموذج الغربى  ينتشر فى مصر شيئًا فشىء، مع تأسيس المدارس والجامعات التي تعتمد على المناهج الغربية. كل هذا ما كان يمكن أن يكون له أى تأثير لولا  بدايات ظهور طبقة وسطى جديدة ترتكز فى تطلعاتها الى التعليم والثقافة. كانت هناك أيضًا بدايات لحركة نسائية ناشئة تطالب بحقوق المرأة وتعليمها.

وسط هذه الأجواء كان هناك مشروعان فكريان إصلاحيان لدى كل منهما تصور ورؤية لمسارالنهضة والحداثة المصرية، كانت أفكار شريحة من المثقفين المصريين،متأثرين بأفكار وتعاليم جمال الدين الأفغانى، والتى وضع لبناتها الإصلاحية رفاعة رافع الطهطاوى، تتمحور حول ضرورة الوحدة الإسلامية فى مواجهة التدخل الأوروبى الذى بدأ مع الحملة الفرنسية على مصر، وهذا التيار كان يؤمن بالإصلاح السياسى التدريجى لأنظمة الحكم المستبدة، عن طريق تطهير الدين من الخرافات، وتحرير العقل من الاستبداد، ولم يتبن هذا التيار، التمرد أو الثورة كوسيلة للتغيير المنشود، لذلك لم يتبنوا ما فعلته الثورة العرابية، بل آمنوا بالإصلاح التدريجى، وكان على رأس هذا التيار الإمام المجدد الشيخ محد عبده، وعبد الله النديم. فى مواجهة هذا التيار، كان هناك تيار آخر قادم من الشرق من الشام ممثلا فى المهاجرين الشوام الذين وفدوا إلى مصر بأعداد كبيرة هربا من مذابح دامية اندلعت بين المسيحيين والدروز، إضافة إلى الاستبداد التركى الذى كانت يده أكثر غلظة فى الشام عنها فى مصر، جاء هؤلاء إلى مصر متسلحين بثقافة غربية، تعلموها وتشربوها على يد الإرساليات  المسيحية التى غزت المنطقة، فكان أغلبهم يعرف لغة أخرى على الأقل إضافة إلى العربية وهو ما أتاح لهم الإطلاع على الإنتاج الفكرى الغربى، والانفتاح على التجارب الغربية، وعمل أغلب هؤلاء فى مجالى الصحافة، والمسرح، وكان جُرجى زيدان أحد هؤلاء المهاجرين من مسيحى الشام، وهذه اللفظة (مسيحى) لاتحمل هنا مرجعية دينية، بقدر ما  تحمل من مرجعية ثقافية وفكرية، حيث تمحور مشروع هؤلاء الشوام فى التركيز على مفهوم الوطن بديلًا عن مفهوم الوحدة ذات المرجعية الإسلامية الذى كانت تروج له الدولة العثمانية، حفاظًا على مكاسبها، واتخذوا من مبادىء الثورة الفرنسية سبيًلا للنهضة وطريقًا للحداثة، وأكدوا عبر الصحف التى أصدروها، والمسارح التى أنتجوها كراهيتهم للاستبداد وإيمانهم بالحكم النيابى.

وسط هذا المناخ وهذه الأحداث فى الداخل المصرى، وفى المنطقة برمتها، وكذلك وسط السياق التاريخى لمسار النهضة والحداثة فى مصر، ظهر مشروع  جرجى زيدان الثقافى ودشنه بإصداره لمجلة الهلال، وراح من خلالها، ومن خلال أعماله الروائية التاريخية، ينشر مشروعه الثقافى التنويرى، حسب رؤيته وقناعاته، فقدم الثقافة الغربية الأوروبية على المستوى العلمى والفكرى، وقدم فنونًا وآدابًا لم نعتدها فى مصر وفى عالمنا العربى مثل المسرح والرواية بمفهومها وضوابضها الغربية، وكان مثله مثل قاسم أمين الذى توافق مع الشوام الذين استقروا فى مصر، فى نظرتهم لمسألة النهضة مع الأخذ بالنموذج الغربى، ولم ير فيها، مثله مثل غيره من الإصلاحيين، عامل تهديد أو خطر كما رآها الإصلاحيون ذوو المرجعية الإسلامية.

المراقب للتجربة يستطيع أن يدرك ببساطة كيف سعى جرجي زيدان لتوظيف مجلة الهلال فى نشر ثقافة التنوير في العالم العربي وأن تكون حاضنة لمختلف المجالات الثقافية والعلمية والأدبية.

لذلك قام بنشر مقالات فى مشارب متنوعة ما بين التاريخ، والآداب، والفنون بأشكالها ، كما استقطب زيدان العديد من الكتاب والمفكرين البارزين للمساهمة في المجلة، مما أضاف قيمة كبيرة للمحتوى المنشور، وحولتها مع الأيام إلى منبر ثقافي لايستهان به، وكان من بين هؤلاء الذين تم استكتابهم عبر صفحات "الهلال"  طه حسين، عباس محمود العقاد، أحمد لطفي السيد، محمد حسين هيكل.

خصصت صفحات الأعداد الأولى لمجلة الهلال لمناقشة العديد من القضايا التى كانت تستهدف فى مجملها نشر التنوير وتعزيز الوعي الثقافي والفكري. وكان على رأس هذه القضايا قضية التعليم وأهمية العلم، حيث نشرت المجلة مقالات عديدة حول أهمية التعليم ودوره في تقدم المجتمع، بما في ذلك تعليم الفتيات، وهو ما كان يعتبر خطوة جريئة في ذلك الوقت.. على سبيل المثال، في إحدى المقالات التي كتبها جرجي زيدان، تناولت المجلة أهمية تعليم الفتيات وأثره الإيجابي على المجتمع، أكدت المقالة "أن تعليم المرأة ليس فقط حقًا أساسيًا، بل هو ضرورة لتقدم المجتمع.

وأشارت إلى أن المرأة المتعلمة تستطيع تربية جيل واعٍ ومتعلم، مما يساهم في نهضة الأمة. ، كما تناولت المقالة التحديات التي تواجه تعليم المرأة، مثل التقاليد الاجتماعية التي تعيق تعليم الفتيات.

ودعت إلى تغيير هذه التقاليد من خلال التوعية والتثقيف و قدمت المقالة أمثلة عن نساء بارزات في التاريخ العربي والإسلامي، مثل السيدة خديجة بنت خويلد وعائشة بنت أبي بكر، اللواتي كنّ متعلمات ولعبن دورًا هامًا في المجتمع، كما أكدت المقالة أن تعليم المرأة يمكن أن يساهم في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، حيث يمكن للمرأة المتعلمة أن تشارك بفعالية في سوق العمل وتساهم في تحسين الوضع الاقتصادي للأسرة والمجتمع.. لكى تدرك أهمية مثل هذه المقالة، لابد أن تعيد قراءتها وأنت مستحضر للسياق الزمنى وكيف كان واقع المرأة الصعب على أرض الواقع فى الربع الأخير من القرن التاسع عشر.

اكتمل مشروع جُرجى زيدان الثقافى أو كاد عندما أصدر كتابه " رحلة جرجى زيدان إلى أوروبا، وفيه كشف عن إعجابه واختياره للنموذج الفرنسى للنهضة الحديثة، وأسسها الإجتماعية والأخلاقية والروحية، وفيه تلمس إعجابه بتجربة المرأة الفرنسية ومزاحمتها للرجال فى شتى أنواع العمل، خلاصة الكلام أن زيدان أكد إعجابه بالتمدن الغربى، معتبرًا إياه نموذجًا يحتذى به.

كما ظهر المشروع الحداثى فى أعماله الروائية وتحديدًا فى روايته " الانقلاب العثمانى " و" أسير المتمهدى " وفيها يتضح بجلاء عدم انفصال أعمال زيدان الروائية عن مشروع النهضة والحداثة وفقًا لمفهوم الشوام المهاجرين إلى الكنانة.

يرى بعض النقاد أن مشروع جرجى زيدان الروائى لم يكن بريئا على طول الخط، وأنه وظف أدواته السردية فى روايات التاريخية وتحديدًا من خلال الدور الذى يَضطلِع به عادة الراوي فى الأعمال السردية، ليجرى على لسانه ويمرر مواقفه الثقافية والأيديولوجية وتصوراته لمشروع النهضة والحداثة على المستوى السياسي والاجتماعي في تلك اللحظة التاريخية المُضطربة من تاريخ مصر والمنطقة أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، والتى كان ينحاز فيها عادة للرؤية الغربية.

فى مرات كثيرة دُعيت فيها للحديث عن أزمة المجلات الأدبية وتزايد تحديات وصعوبات بقائها، كانت "الهلال" حاضرة، لا يمكن القفز عليها، أو تجاهل مسيرتها الممتدة، أوعدم التعرض لأسباب البقاء والاستمرار طوال كل هذه السنوات، باعتبارها النموذج الإيجابى الذى نجا من تقلبات السنين والسياسة وتغيرات الجغرافيا الحادة. 

ونحن نتحدث الآن عن هذه المجلة العريقة، التى لا تعد ملكا فقط للدار التى تحمل نفس اسمها، ولا حتى ملكا للهيئة الوطنية للصحافة، ولكنها أصبحت ملكًا للتاريخ الثقافى للمنطقة، بما لها وبما عليها، فنحن نتحدث عن تجربة تجاوزت 13 عقدًا من الزمان، ومن المستحيل عمليًا أن يكون هناك ثبات أو استقرار فى الرؤى. أنتهز الفرصة، وأؤكد انحيازى المطلق، وغير المحدود للتعامل مع الهلال باعتبارها أداة من أدوات قوة مصر الناعمة، وذراعًا قويًا ونافذَا من أذرعها الثقافية، وهو ما يستتبع تفقد أسباب استمرارها وبقائها لعقود قادمة.