السبت 7 سبتمبر 2024

عندما تتحول المجلة إلى مكتبة


محمد جبريل كاتب مصري

مقالات7-9-2024 | 00:48

محمد جبريل

كانت مكتبة أبي أول علاقتي بالهلال. النسخة ذات الحجم الكبير، المطبوعة بالروتوغرافور، والمواد التي يسهم في تحريرها رموز الثقافة العربية، بالإضافة إلى العددين الخاصين، يصدران في الإجازة السنوية، بما يتيح لقراءة الصيف وقتًا، وتأملًا، في موضوع محدد يحسن اختياره تحرير المجلة.

حرصت الهلال بتوالي إصداراتها -  وهنا أكتفي بالتحدث عن المجلة الأم، التي أنجبت، فيما بعد، العديد من الإصدارات - أن تكون مرآة حقيقية لتطورات أحوالنا الثقافية.

أحزن لاحتجاب مشروع ثقافي ما، يبدأ فكرة، حلمًا وامضًا، نبادر بمحاولة تحقيقه. دراسة الجدوى تتيح للمشروع انتظام الأنفاس، وطول العمر، أو إنه يعاني - في غلبة الحماسة العفوية، وغياب التدبر، واستشراف الآفاق الصحيحة، ثم يأخذنا التحسر على احتجابه.

كم تكرر حزني لمصير مشروعات ثقافية واعدة.      

إذا راجعت الهلال منذ أعدادها الأولى - راجع الإنترنت - فستطالعك منهجية حرصت الهلال عليها. رفض صداقة سلطة الاحتلال الإنجليزي، والعمل في خدمتها، وهو ما اتبعته المقطم ووليدتها المقتطف، وعني بأن يتحرك في هامش الأحداث السياسية، مجاله قضايا التراث والتاريخ والفلسفة والأدب والتراجم وغيرها من الإنسانيات التي أتاحت له دورًا تنويريًا، ينأى عن العمالة، وينأي كذلك عن ملاحظات - ومؤاخذات - سلطة الاحتلال. حتى في عدده عن الديمقراطية، شرقت فيه آراء كبار الكتاب وغربت، وبعضها لساسة معاصرين، لكنها اقتصرت - إلّا قليلًا - على الجوانب التنظيرية، وهو ما أشار إليه جرجي زيدان في تقديمه للعدد الأول: " لابد للمرء في ما يشرع فيه من فاتحة يستهل بها، وخطة يسير عليها، وغاية يسعى إليها. أما فاتحتنا فحمد الله على ما أسبغ من نعمه، وأفاض من كرمه، والتوسل إلى الله أن يلهمنا الصواب وفصل الخطاب. أما خطتنا فالإخلاص في غايتنا، والصدق في لهجتنا، والاجتهاد في إيفاء حق خدمتنا، ولا غنى لنا في ذلك عن معاضدة أصحاب الأقلام من كتبة هذا العصر في كل صقع ومصر. أما الغاية التي نرجو الوصول إليها فإقبال السواد على مطالعة ما نكتبه، ورضاؤهم بما نحتسبه، وإغضاؤهم عما نرتكبه. فإذا أتيح لنا ذلك، إن كنا قد استوفينا أجورنا، فننشط لما هو أقرب إلى الواجب علينا".

ولعلنا نجد في بقية التقديم ما يشير إلى إصدارات الهلال اللاحقة. فمن أبواب المجلة" باب الروايات"، و" باب أشهر الحوادث وأعظم الرجال"، و"باب المقالات"، بالإضافة إلى مجريات الأحداث ما بين عددين، في مصر والعالم. 

أدين للهلال بزيادة حصيلتي المعرفية، وبصقل ما أتصوره في نفسي من حب للإبداع، بل وتلافي الأخطاء الأسلوبية واللغوية. أذكر رأي أستاذنا طه حسين عن الكتابات التي قد يتأثر القارئ بنضجها، أو العكس، بحيث يضيف النص إلى سلامة لغته وجمالها، أو يسمها بالضعف. أذكر بالتالي نصيحة العميد للأدباء الشباب أن يعنوا بقراءة الكتابات التي يطمئنوا إلى قيمتها، لأنها ستثري محاولاتهم، بداية من الأسلوب، وحتى المفردة اللغوية.

بالإضافة إلى إفادتي من مواد الهلال التي تشكل - في توالي أعدادها - مكتبة متكاملة، فإن إبداعات كتابها كنز للمبدع، تثري رؤاه، وتضيف إلى خبراته، وتحفزه إلى محاولة التحقق في مجاوزة لإبداعات الآخرين.

من واجبي، ومن حق الهلال، أن أشير إلى العدد الخاص بأبي الطيب المتنبي. مثل تفرده عونًا لي في روايتي" من أوراق أبي الطيب المتنبي". قلبت في الكتب والدوريات، تأملت المساجلة القلمية بين طه حسين والشيخ محمود شاكر، وقراءات أخرى كثيرة. أردت أن أتخيل - في تعدد الكتابات - سنوات إقامة أبي الطيب المتنبي في مصر زمن كافور الإخشيدي، سعيه للإمارة في الشام، أو مدينة بالصعيد. وجدت في مواد الهلال ما أفاد تخيلي للأحداث.

تواصلت علاقتي بالهلال في تعاقب رؤساء تحريرها، بداية من العلامة الدكتور أحمد زكي، واستمرارًا في على أمين وطاهر الطناحي وأحمد بهاء الدين وكامل زهيري وعلى الراعي ومصطفى نبيل وغيرهم - وأعتذر لأني أنقل عن الذاكرة- حتى رئيس التحرير الحالي.

كما ترى، فإن رؤساء تحرير الهلال رموز ثقافية، تجاوزت تأثيراتها المجلة الثقافية الشهرية إلى المحيط العربي الواسع.

مع وفرة المجلات الثقافية التي تعاقب صدورها منذ مطالع القرن الماضي، فإن الهلال حافظت على قرائها، من خلال استكتاب كبار الأدباء والمفكرين، إلى جانب الحفاظ على الأسماء التي رافقتها في مراحل سابقة. ثمة طه حسين، على الجارم، العقاد، ميخائيل نعيمة، المازني، أحمد زكي باشا، مصطفى الرافعي، أحمد أمين، زكي مبارك، فريد أبو حديد، سلامة موسى، جمال حمدان، محمود تيمور، أمير بقطر، بنت الشاطئ، سهير القلماوي، زكي نجيب محمود، غنيمي هلال، أحمد بهاء الدين، على الراعي، كامل زهيري، وعشرات غيرهم أضافت معطياتهم إلي الوجدان المصري، والعربي عمومًا - في مجالات الثقافة.


أول علاقتي بالهلال كاتبًا حين طلب مني الشاعر الكبير الراحل كامل الشناوي - فترة إشرافه على الهلال - أن أكتب دراسة عن الروائي عبد الحميد السحار.
أضاف لملامحي المتسائلة: 

- إبداع السحار بعد رئيس في كتابك "مصر في قصص كتابها المعاصرين". أكتب عن تجربته في رواية الأجيال.

كنت قد تناولت رواية السحار "في قافلة الزمان" باعتبارها أولى روايات الأجيال، أو الروايات النهر، في الرواية المصرية. عرضت ما كتبته على أستاذنا نجيب محفوظ في لقائنا اليومي بغرفته المطلة على نيل الزمالك، في قصر عائشة فهمي.

أشار محفوظ أن أعيد قراءة شجرة البؤس لطه حسين، وعودة الروح لتوفيق الحكيم. لاحظ صمتي الشارد، فقال في نبرة أقرب إلى الهمس: 
- سأتكلم في شيء لم أكن أحب أن أتطرق إليه. 

وذكرني بتقنية الرواية النهر في ثلاثية بين القصرين، قصر الشوق، السكرية. كان قد تحدث -في لقاءات كازينو أوبرا- عن انشغاله بالرواية، وأنها ابتلعت وقته. رجح أن عبد الحميد السحار التقط الفكرة، حين غاب عن الندوة وقتًا، ثم عاد وفي يده نسخة مطبوعة من " في قافلة الزمان".

أعدت للثلاثية وضعها - كقيمة روائية - في النسخة المعدة للطبع من كتابي، وإن احتفظت لقافلة الزمان بموضع مهم في الرواية المصرية الحديثة.
قال لي كامل الشناوي: 

- لتكن أسرة قافلة الزمان مثلًا للأسرة المصرية. 

وكتبت دراسة قصيرة عن الأسرة في أدب السحار.

كانت تلك أول علاقتي بالهلال كاتبًا. تنوعت إسهاماتي بعدها في القصة القصيرة والرؤى الفنية، بالإضافة إلى مشاركات - أعتز بها - في الإصدارين التابعين لها: كتاب الهلال وروايات الهلال. نشر لي كتاب الهلال " الحنين إلى بحري"، وهو الحي السكندري الذي استلهمت منه غالبية كتاباتي، ونشرت لي روايات الهلال: قلعة الجبل، اعترافات سيد القرية، ما ذكره رواة الأخبار عن سيرة أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله، غواية الإسكندر، البحر أمامها، صخرة في الأنفوشي، أحمد أنيس ظلي الضائع. 

كما ترى، فإن معظم هذه الروايات محاولات لاستلهام مراحل التاريخ المصري في تعاقب عصوره. لك أن تعتبرها - على نحو ما - امتدادًا لروايات الرائد جرجي زيدان في توظيف التاريخ.

لقد كان لي - منذ مرحلة باكرة - ناشري الخاص، لكن النشر في إصدارات الهلال ظل حلمًا أتوق لتحقيقه، حتي قرأ الصديق النبيل الراحل مصطفى نبيل روايتي"قلعة الجبل" منجمة في "الجمهورية"، فدعاني إلي نشرها في روايات الهلال، أضاف إلى سعادتي حصولها على مكانة متقدمة بين كتب العام الذي صدرت فيه، وهو ما ينبغي أن أحسبه على طباعتها الأنيقة، وإخراجها اللافت، وقدرتها التوزيعية من خلال منافذ البيع في مصر والعديد من مدن العالم.