نشأت في بيت لا ظل فيه لكلمة ثقافة، بالمعنى العميق، اللهم إلا من خلال ما كان يبثه الأخ الأكبر من شذرات، في حوارات لست طرفا فيها، كأن يقال إنه استخرج شهادة ميلاد أخي الأصغر باسم «أنيس» تيمنا باسم أنيس منصور، وهو ما وجد مقاومة لدى الجميع فأطلقوا عليه اسما آخر، ربما تناثر اسم زكي نجيب محمود، هنا أو هناك (لماذا؟ لا أعرف) ربما يأتي ذلك بسبب مداومة أخي الأكبر على قراءة «الأهرام» لكنني لا أتذكر أني رأيت، أو طالعت «الأهرام» في البيت.
بدأت علاقتي بالكتاب من بيت أحد أخوالي، كانت ابنته الكبرى زميلتي في المدرسة، وكنت أتردد على بيته صغيرا، واستعرت منها كتابا عن "حمزة بن عبدالمطلب.. أسد الله" ضاع الكتاب، ومنعا للحرج انقطعت عن زيارة بيت خالي، هكذا تفعل بنا الكتب، أم أنها حساسية زائدة لم يكن لها داع، كانت هناك كتب أخرى تخص الأخ الأكبر، وفضلها الأول أنها صنعت حاجزا منيعا بيني وبين تجارب "الإسلام السياسي".
لم يكن "الكتاب" هو اللبنة الأولى في تشكيل ثقافتي ومعارفي، كنت صبيا في المرحلة الإعدادية، وكانت المدرسة تبعد عن قريتي بحوالي أربعة كيلومترات، كنا نقطعها مشيا على الأقدام في عز البرد والحر، ويوميا كنا نغير طريقنا حتى نمر على كشك بائع الصحف، كانت الكتب والمجلات والصحف بالنسبة لأمثالنا، للفرجة فقط، فنحن ننتمي إلى جيل لم يعرف أن هناك اختراعا اسمه "المصروف" إلا عندما تزوجنا وأنجبنا أبناء، يطالبون بحقوقهم كاملة.
لما أتيحت لنا فرصة أن نمد أيدينا إلى جيوبنا، فتخرج منها قروش، كانت مجلة "الدوحة" القطرية أول ما اشتريناه، وبالتزامن عرفنا مجلة "العربي" الكويتية، فيما بعد عندما نتأمل الأمر، نكتشف أن هجرة معاكسة قد حدثت، فقبل هذا التاريخ (بداية ثمانينيات القرن العشرين) كنا ننتظر مثل هذه المجلات العربية، بينما كان مثقفو العالم العربي، قبل هذا التاريخ بزمن بعيد، ينتظرون المجلات المصرية، تحديدا "الرسالة" لصاحبها أحمد حسن الزيات، و"الهلال" لمنشئها جرجي زيدان، ومن صفحاتها تشكلت معارفهم وثقافتهم، وربما إنسانيتهم.
صدر العدد الأول من الهلال في سبتمبر 1892 وعلى غلافها: "الهلال مجلة علمية تاريخية صحية أدبية، سنتها عشرة أشهر، وتعوض عن الشهرين الباقيين بكتاب هدية للمشتركين، في آخر السنة، تصدر مرة في الشهر، لمنشئها جرجي زيدان" صدر هذا العدد في 32 صفحة، ولم تتعطل، أو تغلق أبوابها طوال ما يزيد على قرن من الزمان.
تحولت إلى مؤسسة كبرى تصدر عنها مجلات متنوعة، وسلاسل كتب هي الأبرز والأشهر في الوطن العربي، كان الكتاب العرب يسعون بكل ما يملكون من رغبة، لنشر رواياتهم وكتبهم فيها، وكأن من لم ينشر روايته في سلسلة "روايات الهلال" لم يكتب رواية.
لنا أن نفخر بهذا الإصدار التاريخي، الذي أسس أجيالا من الكتاب المصريين والعرب، وصمد في وجه التحولات الثقافية والسياسية والاقتصادية العاصفة، فحين حاصرتها الأزمات المالية، التي ضربت العالم كله، جراء الحرب العالمية الثانية، وأزمة الورق والكساد الاقتصادي، لم تتوقف "الهلال" أو تحتجب، فما بين عامي 1940 و1947 كانت تصدر كل شهرين.
ما شأني أنا بهذا كله؟ جانب من فخري واعتدادي بنفسي أني أنا من اكتشف أن هناك مجلة تستحق القراءة اسمها "الهلال" لم يدلني أحد عليها، لكنني اهتديت إليها في كشك عمي حسن بمنية النصر، البلد المجاور لقريتي، كنت في المرحلة الثانوية، وكان الهروب من الدرس الخصوصي متاحا، وشراء المجلات متاحا أيضا، وكانت الهلال مكافأتي الشهرية لنفسي، أنتظرها في الأول من كل شهر، ولم تخذلني أبدا، دائما كانت تأتي في الموعد المضروب بيننا.
حين كبرت في السن، وصرت شاعرا، كما يطلقون علي، كان ضمن أحلامي أن تنشر لي قصيدة في "الهلال" كانت تلك المجلة أشبه بفندق خمسة نجوم، تمر من أمامه، دون أن تعرف ما يدور بداخله، وكان عليك أن تسعى للنشر في مجلة، شهدت خطوتك الأولى، حين كنت لا تملك سوى ورقة وقلم وطابع بريد، كتبت ما تسميه شعرا، وأرسلته في مظروف، كتبت عليه عنوان مجلة "الهلال" وكانت المفاجأة أن القصيدة نشرت في باب بريد القراء.
كان علي أن أنتظر لسنوات حتى أكون ضمن متن المجلة، لا هامشها، واحتفلت بيني وبين نفسي، حين نشرت لي "الهلال" إحدى قصائدي، على أربع صفحات، مع رسوم مصاحبة، كان ما أطالعه لوحة تشكيلية، تعلوها صورة لي، ينقصها فقط أن يحملها أحد الأصدقاء إلى أمي، لتقبل اسمي، كانت أمي قد ماتت، ولم يعد أحد في هذا العالم يحتفي بما أفعله، ويفرح بي، فأجتهد أكثر، حتى أرى الفرحة على وجهه، الذي حفرت الأيام تجاعيدها على صفحته المضيئة، أنا حزين لموتك يا أمي!
أذكر أنني حين ثقلت مكتبتي على جدران بيتي، وصار التخلص من بعض الكتب ضرورة، تحتمها حياتنا الفقيرة، التي لم تعتد أن تكون فيها مكتبة، تخلصت من أغلب المجلات باستثناء "الهلال" تحديدا في الفترة التي تولى فيها كامل زهيري ورجاء النقاش مسئوليتها، تلك الفترة الذهبية للهلال.
هل يمكن التفريط في أعداد "الهلال" وبينها عدد خاص (من الجلدة للجلدة) عن توفيق الحكيم، طه حسين، العقاد، الشاعر الروسي يفتوشينكو الذي زار القاهرة آنذاك، كذلك سيمون دو بوفوار وسارتر، وغير ذلك من أسماء وأحداث، واكبتها المجلة العريقة، هل هناك مطبوعة مصرية، أصدرت عددا خاصا عن حرب أكتوبر، يقارب ذلك العدد الذي أصدرته "الهلال"؟
مر على المقعد الذي احتله "منشئ الهلال" كثيرون، قليل منهم من سجل اسمه في الذاكرة الثقافية لهذا الوطن، وترك علامات لدى أجيال، تقول إنه مر من هنا، وهناك من أدارها لصالح رؤية ضيقة، فلم يترك أثرا، وذهب شأن غيره ممن لا يرون في العالم سوى أنفسهم، لكن ما الذي حافظت عليه "الهلال" لسنوات ونفتقده الآن في مطبوعاتنا؟!
إنها رسائل القراء، التي صنعت فيما بعد كتابا ومبدعين، فقد احتلت مراسلات القراء في "الهلال" مساحة كبيرة، لفتت انتباه باحثين كثر منهم "شريف إمام" الذي نشر في موقع "المرايا" دراسة من خمسة أجزاء عن "مراسلات القراء كمصدر للمعرفة التاريخية باب مراسلات مجلة الهلال نموذجا تحليل للشكل" كان باب بريد القراء يحتفي برسائل لكتاب كبار آنذاك.
خلاصة الدراسة أن تحليل رسائل القراء، يؤكد عمق التنوع في الموضوعات، ومقدار الاختلاف في الصور، التي جاءت عليها تلك المراسلات، كما أن جنسيات المرسلين اتسمت بنفس القدر من التنوع، وإن استأثر الشوام بالأغلبية، ولعل ظاهرة التنوع ووضوح هوية المرسلين، تعزز من مصداقية تلك الرسائل، باعتبارها إحدى النوافذ، لرصد الحالة المجتمعية والثقافية في تلك الفترة.
يستشهد شريف بمقولة أحد المؤرخين: "إن كتابة تاريخ شعب ما في فترة زمنية معينة، لابد أن تبدأ بشهادة الشعب نفسه، فينبغي للمؤرخين أن يسمحوا للناس العاديين بالتحدث عن أنفسهم" من هنا تكمن أهمية رسائل القراء للصحف والمجلات، باعتبارها أداة للبحث عن شهادة للناس، عن الفترة التي عاشوها.
يعود شريف إلى مراسلات القراء في التجربة الغربية، فقد عرفت الرسائل طريقها إلى الصحف منذ أوائل القرن الثامن عشر، وأفرد لها بابا في القرن التاسع عشر، نال هذا الباب اهتمام فريق من المؤرخين، فعملوا على استنطاقه، وهناك دراسة بعنوان "الصحف والسلطة والجمهور في إنجلترا في القرن التاسع عشر" تؤكد على هشاشة الروايات التاريخية القديمة، التي تعاملت مع رسائل القراء، باعتبارها مجرد مساحة من الحشو، الذي يكتب بشكل انفعالي، واصفا إياها بالعنصر الصحي في الصحف الإنجليزية، والمعبر عن النبض الشعبي.
يؤرخ شريف إمام لباب المراسلة في الصحف المصرية، من خلال ظهوره في مجلة "المقتطف" فقد أفردت بابا للمراسلة في العدد الأول لظهورها الثاني في يونيو 1882 وفي 1892 خصصت مجلة "الهلال" بابا للمراسلات، محاكاة لـ"المقتطف" ولم يأت التبويب على ذكر باب للمراسلات، خلال العددين الأوليين، وفي العدد الثالث الصادر في نوفمبر 1892 ظهر باب "المراسلات" وظل موجودا حتى العدد السابع للسنة الرابعة عشرة من صدور الهلال، كما يقول شريف إمام في دراسته المهمة.
لست أعرف لمن نتوجه بالشكر والعرفان، لأن مجلة "الهلال" لا تزال تصدر دون انقطاع حتى اليوم!