الجمعة 10 مايو 2024

سينــاء عنــوان المــؤامــرة (٢)

1-3-2017 | 10:22

بقلم: خالد عكاشة

تناولنا فى الحلقة السابقة ما اصطلح على تسميته إسرائيليا بمشروع (غزة الكبرى)، الذى وضعه الجنرال الإسرائيلى المتقاعد «إيجورا آيلاند»، وبدأ تسويقه فى الأوساط السياسية الإسرائيلية، التى نظرت إلى المشروع فى صيغته المبدئية كأحد التخريجات المهمة التى يمكنها من خلاله دفن القضية الفلسطينية إلى الأبد، عبر التهام معظم أراضى الضفة الغربية عبر الاستيطان وغيره ودفع غزة تجاه أراضى سيناء، باعتبار إمكانية توسيع الحدود الجغرافية الضيقة للقطاع على حساب مساحة ملاصقة له من أرض سيناء، وفى هذا يمكن إطلاق اسم فلسطين على تلك المساحة المتخيلة فى المشروع لاستيعاب الفلسطينيين المنتظرين تطبيق «حق العودة».

 

فضلا عن الانقضاض النهائى على مدينة القدس التى تسعى إسرائيل بكل الوسائل منذ وضع هذا المشروع إلى تكريس كونها «العاصمة الأبدية» للدولة المحتلة، وضع بالمشروع مجموعة من الأثمان يمكن دفعها للطرف المصرى ونظيره الأردنى باعتبارهما شركاء الحدود، تراوح ما بين تعويض مصر بأراضٍ بديلة عن التى سيتم اقتطاعها من سيناء دخولا فى مشاريع مشتركة إقليمية تحقق طفرة اقتصادية للأردن وبالتبعية مصر أيضا. ونستكمل فى هذه الحلقة مسار هذا المشروع خاصة والقيادات الإسرائيلية تعاملت عليه بجد ودأب شديد فى خطوات محسوبة حتى تصل القضية فى النهاية إلى ما يشبه «الخيار الحتمي»، باعتبار الأمر الواقع وتعقيد المشهد وأطراف المعادلة الإقليمية التى تحظى فيه إسرائيل بميزة نوعية هائلة تتمثل فى الدعم الأمريكى الهائل المتطابق مع طموحاتها الاستعمارية.

حركة حماس والإخوان المسلمون:

هذا المشروع يحقق لـ «حركة حماس” كل ما تتمناه من توسع غربا على حساب الأراضى المصرية فى سيناء، ويوسع من (إمارتها) فى غزة ويحقق لها الاعتراف الدولى الذى تنشده، حيث يلغى سياسيا وماديا خصما لدودا لها يتمثل فى السلطة الفلسطينية و”حركة فتح”، كان من اللافت للنظر توالى تصريحات الغزل ما بين الطرفين إسرائيل وحركة حماس وخاصة بعد الانقلاب ٢٠٠٦م الذى نفذته حماس داخل قطاع غزة ضد سلطة فتح، طردت حينها جميع أجهزتها بما فيها الأمنية من القطاع، وبدأت حماس حينئذ تنازع منظمة التحرير الفلسطينية فى مسألة تمثيل الشعب الفلسطينى والقضية بكاملها. مع مرور الوقت فى هذا الوضع الشاذ وصفت خطوة حماس الانقلابية بأنها تتماهى مع ما تطرحه إسرائيل، من فصل كامل ونهائى لقطاع غزة عن الضفة الغربية، وأثناء شهور العسل الإسرائيلى الحمساوى صرح “خالد مشعل، رئيس المكتب السياسى لحركة حماس”بتصريح لخص ما يدور على الأرض وخلف كواليس الانقسام الفلسطينى الحاد، كان ذلك عندما تحدث لصحيفة (لاربليكاـ الإيطالية) فى العام ٢٠٠٧م بأن اعتراف واشنطن بحماس ممثلا وحيدا عن الفلسطينيين سيكون قريبا، وهو ما يعنى أن الخطوط بين حماس وواشنطن قد وصلت إلى طريق مفتوح فعلا، وفى هذا التوقيت تحديدا بدأ الحديث يدور همساً عن اتصالات أمريكية مع شخصيات من «التنظيم الدولى للإخوان المسلمين» للتباحث حول هذا المشروع المزمع تسويقه، وأن الردود الإخوانية جاءت إيجابية للغاية بأكثر مما كان يتوقع الأمريكيون.
ومن اللافت أيضا أن هذا المشروع الإسرائيلى يرتبط مع المخطط الأمريكى الهادف إلى خلق صراع حتمى وطويل الأمد، ما بين دول «القوس السني» فى المنطقة والذى يضم دول “شمال إفريقيا، مصر، السودان، الأردن، دول الخليج»، وبين دول «الهلال الشيعي» الذى يضم “إيران، العراق، سوريا، لبنان”، وبصنع هذه المحاور الجديدة وتحريك الصراع السنى الشيعي، يمكن تفريغ الصراع (العربى الإسرائيلي) من محتواه ودفن القضية الفلسطينية إلى الأبد كما يطمح المشروع.
كما يجب حتما الإشارة إلى أن هذا المشروع سيؤدى إلى تفاقم النزاع بين السلطة الفلسطينية فى رام الله باعتبارها الممثل الشرعى للشعب الفلسطيني، وبين حركة حماس التى تسيطر على غزة حاليا، وهو طرح بدأت فصوله بالفعل منذ العام ٢٠٠٦م وحتى الآن، وجرت أنهار من الدماء بين الطرفين قد يصعب ترميمها مستقبلا وغير مطلوب إسرائيليا ترميمها على الإطلاق، كل خطوات إسرائيل المرصودة منذ هذا التاريخ قبل كلا الطرفين تسير فى طريق تعميق الهوة بينهما، والملحوظ أيضا تعضيدها لإحكام سلطة وقبضة حماس على القطاع بطريقة غير مباشرة، ففى هذا السياق يمكن ملاحظة أن حماس قادرة على تغيير ولاءاتها سريعا دون خجل، فهى بتعليمات من التنظيم الدولى تخلت عن النظام السورى الذى احتضنها على مدى سنوات طويلة، بالإضافة إلى محاولات قيادات الحركة للضغط على مصر لتختار ما بين إقامة المنطقة الحرة أو فتح الأنفاق، وهذه المنطقة الحرة التى تتطابق مع “مشروع جيورا آيلاند” سوف تعتمد على خدمات البنية التحتية والطرق الرئيسية المقامة فى سيناء سلفا، خصوصا ميناء ومطار “العريش” فى عمليات التبادل التجارى الذى سيتم بين غزة بزعامة حماس والدولة المصرية.

سيناء .. والحل السحرى

أرض شبه جزيرة سيناء ستظل دائما عنوانا ورقما مهما فى الحدث المصرى الذى تقلب على أوجه عديدة ما بين المد والجزر، فما بين التقلب والهدوء الخادع المصطنع تحفر سيناء لنفسها موقع الصدارة، وتشكل وحدها مشهدها الخاص القديم الجديد، فالأرض التى ظلت لعقود عنوانا للأزمة والعداء ما بين مصر والاحتلال الإسرائيلى ولم تنفك عقود تلك الأزمة إلا بعد أربعة حروب طاحنة ( ١٩٥٦ ـ ١٩٦٧ ـ ١٩٦٩ ـ ١٩٧٣م )، بذلت مصر فيها عبر قواتها المسلحة من الجهد والدماء ما لا يمكن تقديره بحسابات محدودة، بل ورهنت الدولة جميع مقدراتها وتحركاتها طوال ستة أعوام من عمر هذا الصراع، خاضت خلالها ثلاث جولات من الحروب الأربعة حتى تعود كامل أرض سيناء إلى جسد الوطن، ومن بعد تلك الحقبة الزمنية الثقيلة المعبأة بالتحديات، استمرت سيناء فى صدارة المشهد المصرى حتى توقيع اتفاقية كامب ديفيد واكتمال تحريرها فى العام ١٩٨٢م. ومن مفارقات الأحداث القدرية أن الكثيرين يرجعون اغتيال الرئيس السادات بسبب توقيعه تلك المعاهدة، وأنه دفع حياته ثمنا لتحرير تلك الأرض خاصة فيما شاب عملية اغتياله من ملابسات عديدة، وهذه المرجعية بالفعل لها جانب من الصحة بالنظر إلى مجموعة كبيرة من التفاصيل والتعقيدات التى شابت فترة ما بعد حرب أكتوبر ١٩٧٣م وحتى إتمام تحرير الأرض، لكن مما لا يمكن إغفاله أنه منذ قيام تنظيمى «الجهاد والجماعة الإسلامية» بتنفيذ عملية الاغتيال، لم يرصد للتنظيمات الإرهابية التى تدعى خلفياتها الإسلامية أى نوع من أعمال المقاومة أو أشكال التعدى على إسرائيل إن لم يكن هناك كثير من أشكال الخدمات المتبادلة فيما بينهما، فى الإجمال ظلت سيناء لها ارتباط وثيق بالرجل «أنور السادات» ولم تكن بعيدة تماما عن نهايته المأساوية.

دخلت سيناء مرة أخرى لنفس عنوانها القديم والرئيس مبارك يقف فى مدينة العريش يوم ٢٥ إبريل عام ١٩٨٢م، ليستهل فترة حكمه برفع العلم المصرى عليها، ويبقى كيلو متر مربع واحد ( طابا ) تنازع مصر إسرائيل عليه باعتباره يكمل حقها التاريخى فى تلك الأرض، وتسترده مصر بعد ذلك بجهد دبلوماسى وماراثون قانونى ناجح بالتحكيم الدولي. لتبدأ أرض سيناء هذه المرة رحلتها مع عصر مبارك وهى تبدو بصورتها ـ الخادعة دوما ـ لكل من ينظر إليها من بعيد، وقد انتهت أزمتها من دون رجعة، وبعيدا عن الخداع البصرى تمر سيناء بمشاهد فارقة لا تترك تلك الحقبة ( ١٩٨١ ـ ٢٠١١م ) من دون أن تشتبك معها، فى مشاهد أكثر عمقا وتعقيدا ربما من كل ما سبق من محطات، الطرح الإسرائيلى الذى سمى ( بمشروع غزة الكبرى ) لم يترك حبيس القاعات البحثية لمركز (السادات ـ بيجن لدراسات السلام والأمن)، بل خرج سريعا ليكون حاضرا أمام صناع القرار الإسرائيليين ليبدأوا فى العمل عليه، وكان مفهوما لديهم بأنه لن يمر كصفقة سريعة متعجلة، لكنه سيحتاج إلى عمل دءوب على مدار سنوات يتحقق فيها الأمر بطريقة الخطوة خطوة، وأن المشروع يحتاج إلى العمل على أكثر من مسار إقليمى ودولى لضمان نجاحه، واستخدام الأسلحة الإسرائيلية كافة الخفى منها قبل الظاهر. وتحركت بالفعل منذ هذا التوقيت الخطوات الإسرائيلية فى أكثر من اتجاه ... وبدا ما كان بعيدا يكسوه دوما غبار المعارك العسكرية ومخضبا بالدم، يظهر فى صورة نظيفة وأنيقة يمكن تلمس ملامحه وشم رائحته مخلوطا برائحة البحر فى مدن الشمال النائية على الحدود الشرقية.

قطع هذا المشروع مشوارا طويلا ومتقلبا طوال الأعوام الثلاثين هى عمر حكم نظام الرئيس الأسبق حسنى مبارك، وكانت له محطات ومنحنيات غاية فى الإثارة ومعبأة بالقدر الأكبر من المخاطر .. عن تلك المسارات وما دار فيها نتناول تلك المشاهد تفصيليا فى الحلقة القادمة، الأسبوع المقبل إن شاء الله تعالى.

 

    Dr.Radwa
    Egypt Air