بقلم – طارق الحريرى
تشهد القضية الفلسطينية فى الوقت الحالى تطورات لافتة فى ظل الإدارة الأمريكية الجديدة، بكل ما أثارته من لغط. وبصفة عامة فإن هذه القضية ترتبط طوال تاريخها فى الجزء الأكبر من مساعى الحل بالموقف السياسى الدولى، أو بتعبير أدق بالقوى الدولية الفاعلة فى الشرق الأوسط، وهى الولايات المتحدة الأمريكية، وأوربا التى أخذت تقلص من دورها إزاء القضية الفلسطينية، سواء فى صيغتها الاتحادية، أو من بعض دولها منفردة كفرنسا وأسبانيا على سبيل المثال لا الحصر، وأخيرا روسيا الفيدرالية أو الاتحاد السوفيتى سابقاً، وبالنسبة لروسيا فلم يعد الملف الفلسطينى محط اهتمام فى سياستها فى الإقليم منذ انهيار الاتحاد السوفيتى.
شكوك حول الموقف الأمريكى
لاشك أنه على المستوى الدولى فإن الولايات المتحدة صارت منذ عقود الفاعل الرئيسى، فيما يخص محاولات إيجاد مخرج للمشاكل التى تقف عقبة فى طريق الحل، لكنها لم تكن طرفا محايدا، نظرا لانحيازها للطرف الإسرائيلى فى الأزمة، ودائما ما تتجه الأنظار فيما يخص المسألة الفلسطينية مع وصول كل رئيس أمريكى جديد، حيث تنهال الوعود، ويكون للجانب الإسرائيلى فيها الحظ الأوفر، خلال الحملة الانتخابية، بحثا عن كسب تأييد اللوبى المناصر لإسرائيل بما له من عناصر قوة، وفى الانتخابات الأخيرة أكد الرئيس ترامب طوال حملته الانتخابية أنه سوف ينقل سفارة بلاده إلى القدس حال انتخابه ولكنه تراجع عن هذا.
لكن اللافت والخطير فى موقف الرئيس الجديد هو طرحه فكرة التخلى عن الحل التاريخى المتوافق عليه من الشرعية الدولية، اعتبارا من قرار التقسيم رقم ١٨١ بتاريخ ٢٩ نوفمبر١٩٤٧ وتبنى الولايات المتحدة منذ توقيع اتفاق أوسلو فى واشنطن مبدأ إقامة دولة فلسطينية مستقلة منذ قرابة ربع قرن، ويعنى التصور الذى استجد من الرئيس ترامب إخضاع كامل الأراضى لفلسطين تحت الانتداب للسيطرة الإسرائيلية، فإسرائيل التى تدعو ليهودية الدولة لن تقبل بدولة علمانية ديمقراطية يشارك الفلسطينيون فيها حكم الدولة، التى تضم الشعبين فوق الأرض، وهنا يثور التساؤل عما تخفيه فى حقيقة الأمر تصريحات ترامب أثناء زيارة نتنياهو لواشنطن، وهل سوف يقتصر التصور الترامبى على الضفة الغربية فقط؟ التى تصبح خاضعة لنوع من الأبارتيد، وماذا عن قضية اللاجئين، الذين ثارت من قبل طروحات عن قبولهم كمهاجرين، يعطون الجنسية فى الولايات المتحدة وعدة دول أوربية، أو يتم توطين جزء منهم فى البلدان المجاورة مقابل مساعدات سخية، وهل تنتهى قضية القدس بإعطاء بؤرة صغيرة منها تضم المسجد الأقصى لقيادة دينية إسلامية فى صيغة أشبه بالفاتيكان، يجرى كل هذا فى وقت تشهد فيه الساحة العربية تشرذما غير مسبوق، وشبه انهيار للمشروع القومى، وهنا يصبح من الضرورى من أجل تقييم الموقف، إعادة قراءة الدور الأمريكى وبقايا الدور الأوربى فى التعامل مع ملف الأزمة.
الدور الأمريكى
اتخذت القضية الفلسطينية مسارا يبدو غامضا بعد تولى الرئيس دونالد ترامب السلطة فى الولايات المتحدة، لاسيما مع تراجع وتقلص الدور الأوربى منذ فترة طويلة، إذ لاحت فى الأفق السياسى الأمريكى رؤية جديدة ملتبسة فيما يخص الثوابت المعهودة تجاه الملف الفلسطينى منذ أبرمت اتفاقية أوسلو، التى تعتبر بالقياس السياسى لمراحل الصراع مع إسرائيل – حتى من قبل قيام الدولة عام ١٩٤٨ – خطوة نوعية غير مسبوقة، شكلت تحولا جذريا فى مجريات الصراع العربى الإسرائيلى، وفى القلب منه حقوق الشعب الفلسطينى، لكن من المبكر الآن التحدث عن التغير أو تبدل المواقف فى الإدارة الأمريكية الجديدة.
منذ أوسلو يمكن رصد توجهات السياسة الأمريكية تجاه المسألة الفلسطينية قبل الوصول إلى الوضع الحالى فى ثلاث مراحل، ارتبطت بالإدارة الأمريكية فى عهود ثلاثة رؤساء، هم بيل كلينتون وجورج بوش الابن وباراك أوباما، وبصفة عامة ، فإن المحاولات التى تمت فى فترة هؤلاء الرؤساء كانت للبحث عن حل للأزمات التى نشأت نتيجة تعسف وتجاهل إسرائيل لالتزاماتها، لكنها اتصفت مع ذلك بالانحياز لصالح تل أبيب، بل إنه مع كل إدارة كان سقف المكاسب والمنح للدولة العبرية يرتفع ويتزايد.
فى فترة الرئيس بيل كلينتون – الذى رعى بداية تنفيذ اتفاقية أوسلو – اقتصر الأداء الأمريكى على محاولة الدفع نحو تطبيق الجوانب الإجرائية للاتفاق، وفى سبيل ذلك شاركت الولايات المتحدة مباشرة فى فعاليات سياسية متعددة، من خلال أنشطة مثل مؤتمر شرم الشيخ وقمة كامب ديفيد الثانية مع طرفى الأزمة، وكان أقصى ما قدمه كلينتون هو الزيارة الرمزية لقطاع غزة، ورسالة للرئيس الفلسطينى ياسر عرفات تتضمن تأييد أمانى الشعب الفلسطينى فى تقرير مصيره على أرضه، وتأكيد أن الفلسطينيين يستحقون أن يعيشوا أحراراً فوق أرضهم، عدا ذلك فقد اكتنف الموقف الأمريكى الميوعة والانحياز لإسرائيل، ويتجلى هذا فى أن الرسالة لعرفات خلت من الاعتراف الصريح بحق الشعب الفلسطينى فى تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة، وفى مؤتمر شرم الشيخ عمل كلينتون على تطويق الانتفاضة الفلسطينية الثانية عبر بيان رئاسى تلاه شخصياً، دعا فيه إلى وقف الانتفاضة فوراً، تحت شعار وقف كل أشكال العنف، والتزام طرفى الصراع بعدم الإقدام على أية خطوة من جانب واحد، فى إشارة واضحة للجانب الفلسطينى بعدم الإعلان من طرف واحد عن بسط السيادة على كامل أراضى الدولة الفلسطينية المستقلة بحدود الرابع من يونيو/حزيران ١٩٦٧، وعندما أقدمت حكومة نتنياهو الأولى بإقامة مستوطنة “هارحوما “فى جبل أبى غنيم بالقـدس الشرقية، وواصلت أنشطتها فى إنشاء المستوطنات، لم تبدِ الحكومة الأمريكية موقفاً قاطعاً إزاء هذه الانتهاكات الإسرائيلية، وأعاقت قرارين فى مجلس الأمن، يطالبان إسرائيل بالوقف الفورى لبناء مستوطنة هارحوما، وفيما يخص الأفكار التى عرفت بمشروع كلينتون للسلام فإنها انطوت على قدر كبير من تجاهل الحقوق الفلسطينية والضرورات الأساسية لإقامة الدولة الفلسطينية القابلة للبقاء.
اتسمت فترة الرئيس جورج بوش الابن الأولى بمواقف خادعة، اتخذها فى الوقت الذى يتجه فيه إلى حشد التأييد العربى والدولى لحربه المخطط لها ضد العراق، وما إن استتب الوضع بعد احتلال العراق، أعلن بوش فى مؤتمر صحفى مع رئيس الوزراء الإسرائيلى شارون، أنه ليس من الواقعـى لإسرائيل أن تعود إلى حدود سنة ١٩٦٧، أو تزيل المستوطنات فى الضفة الغربية، أو تقبل عودة اللاجئين، وبالطبع أقام بوش مثل من سبقه وتلاه الفعاليات السياسية، مثل خريطة الطريق ومؤتمر أنابوليس، وكلها كانت ذات طابع شكلى، ولا تنعكس إيجابيا على الأزمة، ويكشف التحليل السياسى لخطاب الإدارة الأمريكية فى عهد بوش الابن انتفاء التفاصيل الجوهرية لقيام دولة فلسطينية خاصة فيما يتعلق بحدودها، أو طبيعية بنيتها السيادية فى مجالات الأمن الداخلى والدفاع والسياسة الخارجية، أوعن سكانها المقيمين أو فى الشتات، وأطلق بوش إشارة غامضة، عندما تحدث عن إنهاء الاحتلال وعودة إسرائيل إلى حدود آمنة (كلمة آمنة مطاطة وملتبسة) معترف بها وفق قرارى مجلس الأمن ٢٤٢و٣٣٨، فضلاً عما قاله عن دولة مؤقتة الحدود وهذا اصطلاح شاذ لا سند فى القانون الدولى أو العلوم السياسية، وكما هو النهج الأمريكى فى التعامل مع إسرائيل تمت زيادة النفقات العسكرية والدعم المالي، وترك لها المجال واسعاً أمام مواصلة عدوانها العسكري، وتراجعها عن استحقاقات عملية التسوية السياسية.
لم يصمد طويلا خطاب الرئيس الأمريكى باراك أوباما فى جامعة القاهرة، أمام التعنت الإسرائيلى، إذ جاء فى هذا الخطاب أن الاستمرار فى بناء المستوطنات الإسرائيلية ليس شرعياً، وأن قيام دولة فلسطينية من مصلحة إسرائيل وفلسطين وأمريكا والعالم، وأوضح أن بلاده لن تدير ظهرها للتطلعات المشروعة للشعب الفلسطينى فى قيام دولته، لافتاً إلى أن الحل الوحيد هو دولتان، يعيش فيهما الإسرائيليون والفلسطينيون فى سلام وأمن، ثم أرسل أوباما السيناتور المخضرم جورج ميتشل مبعوثاً إلى المنطقة، لكنه لم يمكنه سوى التوصل إلى صياغة شكلية من المفاوضات غير المباشرة بين الجانبين الفلسطينى والإسرائيلى، أُطلق عليها مفاوضات التقريب، ليس من أجل التوصل إلى اتفاق وإنما للانتقال إلى المفاوضات المباشرة حول الملفات والقضايا المعقدة الثلاث، القدس والحدود واللاجئون، وألحت إدارة أوباما مرارا على استئناف المفاوضات وعملية التسوية على أمل التوصل إلى اتفاق نهائي، غير أن مساعى واشنطن لم تصل إلى نتيجة تذكر على صعيد إحراز أى تقدم، ولم تستطِع الإدارة الأمريكية إقناع الحكومة الإسرائيلية بتجميد الاستيطان، واصطدمت مساعيها بتطرف حكومة نتنياهو وتعنتها، فيما يتعلق بتجميد الاستيطان ومرجعية المفاوضات وهدفها النهائي، ونظرا لعدم قدرتها على الضغط كانت إدارة أوباما تتراجع نحو محاولة الحلول الوسط، فى دائرة مفرغة لا تفضى إلى أى نتائج ملموسة.
الدور الأوربى
قبل التطرق إلى الدور الأوربى من الواجب تذكر أن الأوربيين سواء كانوا منخرطين فى اتحاد أو منفصلين فى دول مستقلة، فهم يتحملون المسئولية التاريخية تجاه القضية الفلسطينية، وقيام إسرائيل فى مخالفة صارخة لكل مبادئ القانون الدولي، بدءا من وعد بلفور وما تلاه من سياسات اتبعها الانتداب فى الأراضى الفلسطينية، مروراً بقرار التقسيم وإعلان دولة إسرائيل عام ١٩٤٨، وصولاً إلى الدعم الكامل الذى يسديه الأوربيون فى الوقت الحالى لدولة إسرائيل.
بدأ الاهتمام الأوربى بالقضية الفلسطينية باهتا، من خلال ما يعرف بوثيقة شومان عام ١٩٧١، كوثيقة أوربية أولى تعاملت مع القضية الفلسطينية كقضية لاجئين، ولم تذكر حق تقرير المصير، ولا منظمة التحرير الفلسطينية، تلا ذلك إعلان فينيسيا عام ١٩٨٠، الذى طالب بحل عادل للقضية الفلسطينية، وحق الفلسطينيين فى إقامة دولتهم المستقلة، وقد هاجمه الأمريكيون، ورفضه الإسرائيليون بعنف، بعد ذلك جرت وقائع أوسلو بتهميش كامل لدور أوربا ، وما بعد أوسلو اكتفت أوربا بالمساعدات الاقتصادية دون الحرص على موقع سياسى فى الملف الفلسطينى ومع هذا فقد تخلل الساحة الأوربية أنشطة رمزية مثل اللجنة الرباعية الدولية، أو رباعية مدريد، وتشكل هذا الرباعى من الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوربى والأمم المتحدة، أنشئت هذه اللجنة فى مدريد عام ٢٠٠٢ من قبل رئيس الوزراء الإسباني، نتيجة تصاعد الصراع فى الشرق الأوسط، رضى الأوربيون بالتقسيم الوظيفي، الذى اختاره لهم الأمريكيون، المتمثل فى أن أمريكا تأخذ الدور السياسى وأوربا تقتصر على جانب من التمويل، وبذريعة التكامل فى الأدوار نفض الأوربيون أيديهم.
فى الشأن الأوربى يجب عدم إغفال أنه مع تقدم اليمين تمر أوربا بحالة من الانقلاب الثقافي، ولقد برز مفهوم جديد لوصف الحضارة الغربية – بما فيها الولايات المتحدة - باعتبار أن جذورها يهودية مسيحية وليس كما كان الوضع فى القرن الماضي، باعتبارها يونانية رومانية، ومن هذا المنطلق لا يمكن للعقل الأوربى المسيحى فهم القضية الفلسطينية بجوهرها الحقيقي، إلا من خلال الاقتداء بمسيحيى المشرق بصفة عامة، والمسيحيون العرب بشكل خاص، الذين طوروا القراءة الحرفية لبعض النصوص التوراتية حول أرض الميعاد، حيث فهموها بمعناها الرمزى والروحي، وليس الحرفي.