لم أدرك بعد فعمري في تلك الليلة كان 6 سنوات، كنت قادر على التعبير ببعض الكلمات والغضب، ورغم صغر سني يومها إلا إنني لم أستطع النوم مبكراً، عقارب الساعة تخطت الثانية عشر بعد منتصف الليل، وها أنا في انتظار صوت رنة مفاتيح والدي رحمه الله عليه، كلي أمل وأن يأتي ومعه فارس على حصان مصنوع من السكر، لا أعلم من أين جئت بتلك الثقة فأنا لم أطلب منه شيئاً في ذلك اليوم، ولكن كان لدي يقين تام بأنه سيأتي ومعه الهدية، ربما لأن مقر عمله في حي السيدة زينب أشهر ميادين القاهرة، التي تحتفي وبشكل خاص بالمولد النبوي الشريف، ولكن خابت أمالي عندما جاء والدي ورنة مفاتيحه وهو منهكاً من عمله ولم يحمل في يده شيء، وبالرغم من إنه لم يطلب أحداً منا أنا وأخواتي منه شراء حلوى المولد، إلا إنه شعر بنظرات حزني الشديدة وانكسار الأمل واللهفة التي أنطفئت بعيني، فقرر وأن يصطحبني ليلاً متشابكين الأيدي، ليثبت لي أن معظم محال الحلوى مغلقة، ولكن إصراري جعله يبحث عن أي محل لشراء أي نوع من الحلوى، وبالفعل وجدنا سوبر ماركت صغير على بعد أميال قليلة، ووجدنا فاترينة صغيرة بها بعض الحلويات ولكني لم أريد مجرد حلوى، أنا أبحث عن الفارس أبو قلب سكر وبعد بحث كثير، أخيراً عثر والدي على عسكري سوداني لا أعلم الي الآن ما علاقة تلك العسكري الأسود المصنوع من السكر بحلوى مولد أشرف الخلق، وربما تلك الصدمة جعلتني لم أسعى لشراء حلوى منذ ذلك اليوم.
وقتها كانت علب الحلوى موحدة السعر وذو مكونات ثابتة ملبن بالسكر الأبيض الناعم وأحمر ممزوج بالسوداني وسمسمية وحمصية وأخيرا أقراص الحلوى الدائرية المرصعة بالحمص أو السمسم والتي تظل خالده وراقده في كرتونة الحلوى إلى أن يأتي موعد الخلاص منها، ومع ذلك لا إدري لماذا نحرص جميعاً على وضعها بالعلب رغم قلة جمهورها، ومع كانت أساسية فلم تخل أي من علب الحلوى منها.
مَرت السنوات من صدمة العسكري السوداني، وشاء القدر وأن أعمل في نفس مكان عمل والدي بحي السيدة في مؤسستنا العريقة أقدم وأشهر دار نشر في الوطن العربي، مؤسسة دار الهلال الصحفية، ومَرت السنوات والأيام وأنا أتدرج حتى وصلت لمنصب مدير تحرير أهم مجلة ثقافية في مصر مجلة الهلال.
وفي ذكرى المولد النبوي الشريف كنت أتعمد ترك سيارتي والذهاب للعمل بالمترو فاليوم عيد والسيدة تتزين " وجدع فوت في زحمتها" وكنت أصر على الخروج مع بعض الزملاء لمشاهدة الاحتفال شوارع وشوادر مفروشة بالكامل بالحلوى، والتي تغيرت وتطورت وأصبحت اشكال والوان وأصبح الكاجو والفسدق مصنوعان بنفس طريقة الحمصية حب عمر المصريين.
ليست المحال فقط التي تتزين بالحلوى بل هناك بعض الخيم لطرق الصوفيه والمحمدية التي تستقبل الأحبة وتقدم الوجبات والمشروبات المجانية حباً في ضيافة استقبال ضيوف مولد الرسول.
كنا نتنزه ونلتقط صور شخصية وأخرى للعمل، وفي أحيان كثيرة كنت أجد أحد أصدقائي يدخل علينا وفي يده " نفحة" رغيف عيش ذو رائحة وطعم لا مثيل لها وبه بعض حبات الفول، ورغيف أخر به أرز وقطعة لحمة مُعتبرة.
أكثر من 23 عاماً وأنا أتابع بلهفة مظاهر الإحتفال بالمولد سواء مولد السيدة زينب أو مولد أشرف الخلق سيدنا محمد، وأنتظر بنفس المحبة واللهفة استعداد حي السيدة لشهر رمضان فتلك الأماكن الشعبية تعشق الاحتفالات الدينية ويأتى إليها زوار من كافة أنحاء الجمهورية.
أما الليلة الكبيرة كنا ننتظرها بفارغ الصبر لنستمع لفرق الإنشاء والتي يختمها بمسك الختام الشيخ التهامي ليرتفع صوته ويصمت الجميع لنستمتع بأحلى الكلمات وأجمل الأصوات.
كل عام ومصر وشعبها وأمتنا العربية بخير، وأدعوكم بحي السيدة لمشاهدة المولد، أحرصوا على الذهاب حيث المتعة والسلام النفسي "عشان بعد المولد مفيش حمص"