السبت 5 اكتوبر 2024

أعوام التصحيح الذاتي وإعادة البناء

مقالات5-10-2024 | 14:38

كانت هزيمة يونيو 1967 كارثية بأي معنى عسكري وتسببت الثغرات السياسية في بنية نظام الحُكم في أن تأخذ حجمها الخطير.

وسط كل عوامل العشوائية والتخبط التي صاحبت هزيمة يونيو 1967 وأفضت إليها، انتهى الأمر إلى هزيمة خاطفة لم يخض فيها الجندي المصري حربـًا حقيقية، ولم تُختبر فيها قدراته القتالية بإنصاف، لم يعطه العدو هذه الفرصة بهجومه الخاطف، ومن قبله لم تمنحه قياداته هذه الفرصة بتنظيم متزن وتحرك مدروس، وخطط مُحكمة في الانتشار والانسحاب على السواء.

غير أن الشعور بالإحباط والعجز إذا تجاوز حده يتحوَّل إلى قيدٍ على أية فرصة لتصحيح الأوضاع المختلة.

تحت صدمة الهزيمة العسكرية، استنفرتْ مصر أفضل ما فيها، ووُلِدَ جيلٌ جديد في ميادين القتال والجامعات.

جرت مراجعتان على قدر كبير من الأهمية. الأولى، إعادة تصحيح دور القوات المسلحة، أو دخولها إلى غير أدوارها. أعيد بناؤها من تحت الصفر تقريبـًا وفق مواصفات الجيوش الحديثة، التي تُعلي من شأن الكفاءة والاحتراف وتمنع الانشغال بالسياسة. وأُسندت مسؤوليتها إلى نخبة من العسكريين ذوي الكفاءة في القيادة العامة، كما في جميع الأسلحة.

بصورة أو أخرى تصدَّر المشهد العسكري المصري أفضل ما في البلد من كفاءات متاحة. وكانت الوطنية المصرية مستعدة أن تُقدِّم كل ما لديها من طاقات عطاء ودم بإيمان حقيقي أن البلد تحارب معركة وجودها ومستقبلها.

لم تكن مصادفة بعد أيام من الهزيمة أن تفرض قوات محدودة في «رأس العش» كلمتها على الإسرائيليين وتُوقِع بهم خسائر فادحة في لحظة انتشاء عسكري.

بهذه الروح تمكنت القوات المصرية من خوض حربَي «الاستنزاف» و«أكتوبر»، وكان الجندي المصري العادي بطلهما بلا منازع.

كانت تجربة الحرب، التي امتدت منذ يونيو 1967 إلى أكتوبر 1973 الوعاء الحي لصهر المواطن المصري، وتشكيل معنى جديد داخله للمواطنة والوطنية.

في خنادق القتال نضجت رؤى وأفكار وقيادات، وبرزت مواهب أدبية وفنية.

الحقيقة الرئيسية من هزيمة يونيو إلى نصر أكتوبر أن مصر كلها لا «جمال عبدالناصر» ولا «أنور السادات»، صاحبة قرار الحرب الذي اتخذته تحت ظلال الهزيمة يومَي 9 و10 يونيو 1967.

كان ضروريـًا لإعادة بناء القوات المسلحة على أسس احترافية تصفية أوضاع قديمة تسببت في الهزيمة منها التدخل في الحياة السياسية.

والثانية، إعادة النظر في طبيعة النظام نفسه.

ترددتْ في المراجعات، التي احتوتها محاضر رسمية للجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي شارك فيها الرئيس جمال عبدالناصر، عبارات «المجتمع المفتوح» و«دولة المؤسسات»، كما بدأ التفكير في التحول إلى التعددية الحزبية.

كان من أول الإجراءات التي اتخذها ناصر في إطار عملية التقويم، إعادة تشكيل مجلس الوزراء برئاسته في 19 يونيو 1967، وعلى مدى 9 اجتماعات للحكومة الجديدة طرحت قضية «السياسة العامة للدولة بجوانبها السياسية والعسكرية والاقتصادية»، ودعا الرئيس وزراءه إلى التحدث بحرية كاملة عما يرون أنه تسبب في النكسة، وعن أساليب معالجتها بما يضمن إزالة آثار العدوان ويحول دون تكرار ما جرى في يونيو 1967 مرة أخرى.

في إحدى تلك الجلسات، وكما ورد في محضر اجتماع مجلس الوزراء الذي انعقد في قصر القبة يوم 6 أغسطس عام 1967، طُرحت قضية الديمقراطية وكيف تسبب غيابها بشكل أو بآخر فيما جرى، وتحدث عدد من الوزراء عن ضرورة السماح بوجود معارضة، إلا أن الخلاف كان حول شكل تلك المعارضة في ظل وجود تنظيم سياسى واحد «الاتحاد الاشتراكي».

بدا في حديث عبدالناصر إلى وزرائه أنه عازمٌ على مراجعة طريقة الحُكم. حاول بعض الوزراء التخفيف من شعور عبدالناصر بالندم على أخطاء المرحلة السابقة، إلا أنه ساق لهم الحجج ليبصرهم بحقيقة ما جرى.

ووفقًا لما أورده سامي شرف، سكرتير عبدالناصر للمعلومات، في شهادته «سنوات وأيام مع جمال عبدالناصر»، فإن وزير العدل عصام الدين حسونة وضع تحديدًا دقيقـًا للهدف من المرحلة الجديدة وتطبيق نظام للديمقراطية في جميع مؤسسات الدولة، وطالب بأن يقوم مجلس الوزراء بالتصويت على القضايا المهمة وأن يحترم رأي الأغلبية، كما دعا إلى أن يطرح على المجلس جميع الخطوط العريضة الخاصة بالسياسة الداخلية والخارجية، وطرح قضية سيادة القانون واستقلال القضاء.

وفي ضوء الحوارات التي دارت في مجلس الوزراء قام عبدالناصر ببلورة رؤيته الشاملة لأسباب الهزيمة ومقترحاته للإصلاح خلال اجتماعات اللجنة التنفيذية للاتحاد الاشتراكي العربي وهي أعلى سلطة سياسية في البلاد آنذاك والتي عقدت يومي 3 و4 أغسطس 1967.

طرح عبدالناصر، حسب شرف، «تعديل النظام السياسي، والسماح بوجود حزب معارض حقيقي في البلاد وتحويل الاتحاد الاشتراكي إلى حزب»، إلا أن أعضاء اللجنة لم يرحبوا باقتراح عبدالناصر الخاص بتعديل النظام السياسي ووجود حزب معارض؛ لأن ذلك من وجهة نظرهم يفتح الثغرات أمام أعداء النظام، وأجمع الحضور فيما عدا عبدالناصر على خطورة تعديل النظام قبل إزالة آثار العدوان.

في الوقت نفسه، بدأت في الجامعات المصرية أقوى وأطول حركة طلابية إثر الهزيمة العسكرية، تدعو إلى تعبئة الجبهة الداخلية لمتطلبات القتال على الجبهة الأمامية وتوسيع المشاركة السياسية في اتخاذ القرار.

هكذا استأنفت مصر المواجهات العسكرية. شاع وقتها شعار «يد تبني ويد تحمل السلاح». البناء والحرب معـًا، القتال والتصحيح في الوقت نفسه.

مثلت هزيمة يونيو تراجعـًا فادحـًا في المشروع القومي، لكنها لم تكن نهاية المطاف.

على مدى ست سنوات كاملة بين يونيو 1967 وأكتوبر 1973، قاتلت وتحملت، غضبت وضحت، راجعت وصححت الأسباب التي أفضت إلى الهزيمة. في تلك السنوات تبدت روح جديدة تتحدى اليأس بعزيمة الرجال وتوفر للنصر الممكن مقوماته الضرورية.

كانت 5 يونيو معركة جرى التخطيط لها عبر الميكروفونات، استثمر خلالها العدو ارتفاع أصوات ميكروفونات العرب على أصوات مدافعهم، وكانت 10 رمضان العكس تمامـًا في كل شيء، معركة جرى التخطيط لها في غرف العسكرية المحترفة بعيدًا عن الميكروفونات، واحتاجت تحضيرًا استمر 6 سنوات، كان يجري اختباره في استنزاف العدو أو في محاولاته إجهاض ما يتم على الأرض، أعيد خلالها بناء الجيش المصري من خلال قيادات متعاقبة تتسم بالمهنية العسكرية والبعد عن السياسة، وسط خطاب سياسي أميل للواقعية، وغير خاضع لابتزاز الشارع أو المزايدين في المنطقة، وخطط دقيقة في الخداع الاستراتيجي الإعلامي والدبلوماسي، وبناء القرار السياسي على معلومات عسكرية دقيقة.

لو لم تتلاف القيادة عسكريـًا وسياسيـًا، في حرب العاشر من رمضان (6 أكتوبر 1973)، الكثير جدًا من أخطاء 5 يونيو لما تحقق هذا الانتصار الوحيد الذي نفاخر به في هذا العصر.

عندما رفض المصريون العاديون الهزيمة وعرضوا المقاومة لاستعادة سيناء المحتلة بقوة السلاح تبدت روح غاضبة في الجامعات المصرية تطالب بإعادة محاكمة القادة المسؤولين عن الهزيمة، والتدريب على السلاح وتعبئة الجبهة الداخلية وضبط مستويات أدائها بما يتسق مع التضحيات على جبهة القتال، وفوق ذلك كله المشاركة السياسية في صناعة القرار.

من جهته، قال جمال عبدالناصر: «إذا تصادمت الثورة مع شبابها، فإن الثورة تكون على خطأ»، حقق في التجاوزات، وأدان ما أسماه «الدولة داخل الدولة» و«مراكز القوى» بارتكاب تجاوزات، ودعا إلى المجتمع المفتوح ودولة المؤسسات ودولة القانون، ودخل حوارًا مفتوحـًا مع الجيل الجديد، وكان ذلك ضروريـًا لفتح صفحة جديدة تكون مصر بمقتضاها قادرة على تحمل مسؤولية صدام السلاح على جبهات القتال.

كانت الأولوية القصوى لإعادة بناء القوات المسلحة من تحت الصفر على أسس احترافية وحديثة، ومراجعة بنية النظام السياسي التي سمحت للهزيمة بأن تأخذ هذا الحجم المروع.

عادت القوات المصرية من اليمن ونشأ ما يمكن اعتباره جيش الشعب بتجنيد كل من يمكن تجنيدهم من الشباب المتعلم وغير المتعلم وركّز الجيش على المهمة التي يوجد من أجلها وتدرّب فكانت النتيجة نصرًا على أرض المعركة وتعويضـًا عن خسارة 5 يونيو بعدها بست سنوات. 

إذا أراد أحد أن يتحدَّث عن «روح أكتوبر» فإنها لم تولد من فراغ، ولا كانت تهويمـًا في خيال شارد. بقدر عمق الهزيمة تولَّدت إرادة القتال وضرورات التصحيح. وبقدر تزييف الوعي بعد النصر العسكري أهدر كل معنى استدعي القتال من أجله.

لا توجد لحظة في التاريخ تحلق في الفضاء بلا مقدمات تفضي إليها.

في اليوم التالي لرفض الهزيمة كلَّف جمال عبدالناصر الفريق محمد فوزي قائدًا عامـًا ووزيرًا للحربية، والفريق عبدالمنعم رياض رئيسـًا للأركان.

كان دور الأول إعادة الانضباط للقوات المسلحة بعد لمِ أشلائها التي تبعثرت في صحراء سيناء، ورفع روحها المعنوية إثر الهزيمة الثقيلة.

وكان دور الثاني إعداد خطط القتال للمواجهة المحتمة، وقد استشهد يوم 9 مارس 1969 على جبهة القتال الأمامية وخرجت مئات الآلاف في جنازته تبكي رجلًا لا تعرف كثيرًا عنه وتهتف لمعنى أكبر منه، أن الحرب مستمرة.

هذه واحدة من وقفات روح القتال، وروح التضحية، وروح النصر الممكن، التي وصفت فيما بعد بـ«روح أكتوبر» التي أُجهِضت قبل أن تستكمل قوة زخمها.

كانت مهمة فوزي ورياض شبه مستحيلة بالنظر إلى حجم التحديات والمخاطر، غير أن إرادة القتال أزاحت بأسرع من أي توقع كل سبب لليأس. بعد أسبوع واحد من توليهما المسؤولية واجهت قوة مصرية محدودة اختراقـًا إسرائيليـًا عند «رأس العش».

لم يكن لدى مصر ما تملكه سوى إرادتها، أن تقاتل حتى النهاية أيـًا كانت الظروف والتضحيات.

أرجو ألا ننسى أن أحدًا لا يقاتل بلا قضية تستحق التضحية من أجلها، وأي كلام آخر ادعاء فاضح على الحقيقة. في الادعاء إزهاق لأي روح وتبديد لكل معنى.

عندما يستنفر شعبٌ ما طاقاته وموارده فإن القدرة على التصحيح الذاتي ترتفع معدلاتها والعناية بأدق التفاصيل تأخذ مداها. 

جرت تحقيقات موسعة وسجّلت شهادات معمقة والإحاطة في الوقت نفسه بكل ما قاله القادة الإسرائيليون في ذروة انتصارهم بحثـًا عن أخطائنا بعيونهم وثغراتهم بنص كلامهم.

وفق تعبير الفريق عبدالمنعم رياض في أثناء جلسات الاستماع والتحليل، بحضور جمال عبدالناصر: «يا سيادة الرئيس سوف ننتصر عليهم، والثغرة الكبيرة التي سوف ننفذ منها غرورهم القاتل».

بثقةٍ في النفس، تزايدت يومـًا بعد آخر، أعيد بناء الجيش، وفق أحدث المعدات العسكرية السوفييتية، اعتمادًا على خريجي الجامعات المصرية، وبدت التدريبات العسكرية على درجة جدية لا سبيل للتهاون فيها، فلا روح قتالية مع أدنى إهمال.

إن روح أكتوبر هي روح التفاني في التدريبات والتضحية في القتال وتوفير كل أسباب النصر الممكن. وفي سنوات العبور من الهزيمة إلى النصر، كان البطل الحقيقي هو المواطن المصري العادي.