السبت 5 اكتوبر 2024

حرب أكتوبر في الميزان العسكري العالمي

أ.د. خلف عبدالعظيم الميري

تحقيقات5-10-2024 | 14:44

أ.د. خلف عبدالعظيم الميري

مما لاشك فيه أن الأحداث الكبرى تظل مُلهمة مُتجددة في التأريخ لها وتأملها، ومن ثم يجدر بنا تأمل حرب أكتوبر 1973 واستعادة هذه الذكرى من خلال إمكانية تناولها في ضوء المقارنة بالأحداث العالمية، وقد جالت هذه الفكرة بخاطرى أثناء إعداد إحدى دراساتى عن مصر والحلفاء أثناء الحرب العالمية الثانية، وعلي الرغم من كون حرب أكتوبر تُعتبر حدثا إقليميا دارت بين كل من مصر وسوريا والأردن ضد إسرائيل ومن خلفها الدول الداعمة لها وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، وما قد يبدو في أحداثها وأطرافها عما جرى في الحروب العالمية سواء الحرب العالمية الأولي أو الثانية، اللتين شاركت فيهما غالبية دول العالم سواء مباشرة أو بطريقة غير مباشرة، ومع ذلك فإن المقارنة هنا يُمكن قياسها على الصعيد الكيفي في الاستراتيجية العسكرية ويُمكن أيضا أن يكون جزئيا منه علي الصعيد الكمي.
وقد جالت في خاطري عدة أمثلة يمكن استدعاؤها على سبيل المقارنة لتبين إمكانية التأريخ لحرب أكتوبر في ضوء القياس العالمي، ومنها أمثلة لعمليات عسكرية تم تنفيذها بدرجة متميزة أقل ما يمكن توصيفها به هو الفكر العسكري المتقدم أو غير المسبوق، وهذا في كثير من الجوانب والمجالات العسكرية، ولكن سنقتصر هنا على بعض الأمثلة.

أولا: الطريق إلى أكتوبر.. تكتيك بحرى غير مسبوق

لم يكن الطريق يسيرا إلى انتصار أكتوبر في أعقاب كبوة الخامس من يونيه 1967، وإنما عمل المصريون ليل نهار في محاولة قهر كل التحديات والصعاب في الطريق إلى المعركة الكبرى، وبدت حرب الاستنزاف هي التدريب الحقيقي الذي صنع مقدمات الانتصار، وقد ظهر إبانها المعدن الأصيل الكامن في الشخصية المصرية عبر الزمن وهي قوة الإرادة والعزيمة، وإن المصريين إذا أرادوا فعلوا، وهذا الفعل قد يبدو في بعض الأحيان أشبه بالمعجزات وإن شئنا قلنا يبدو مستحيلا.

وهذا المستحيل العسكري الذي نفذه المصريون جعلنى أطلق عليه فى أحد مقالاتى " القط يقتل فيلا."  وأقصد به قيام لنشين مصريين صغيري الحجم بتدمير" إيلات " كبري القطع الحربية الإسرائيلية باستخدام صواريخ بحرية ليلة 21 أكتوبر 1967 أي بعد بضعة أشهر من يونيه، وهذه المدمرة كانت بريطانية الصنع، وشاركت في الحرب العالمية الثانية، ثم في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وفي أعقاب يونيه 67 كانت مكلفة بالقيام بدوريات على طول شواطئ سيناء الشمالية، وظلت تعربد في المياه المصرية في غرور وصلف وكبرياء، إلي أن تم إغراقها وكان على متنها لحظة تفجيرها 200 من أفراد الطاقم والطلبة المتدربين، قُتل 47 وأصيب 100 آخرين، فيما توفى آخرون لاحقا بسبب بطء عملية الإنقاذ.

وكانت هذه العملية النوعية غير المسبوقة إيذانا بإتيان العسكرية المصرية فكرا عسكريا مُتقدما لم يتم استخدامه قبلئذ في الحروب البحرية - وفيما أعلمه - لم يأت به الأقدمون، فقد كان المُتبع مواجهة السفن بعضها البعض سواء كانت بوارج أو مدمرات أو فرقاطات أو غيرها، ولكن حدوث مثل هذه المواجهات غير المتكافئة بين طوربيد أو لنش صغير مع مدمرة كبري، كان شيئا مستحيلا، ولكنه تحقق علي يد المصريين.

وقد بدت أهمية هذه المواجهة البحرية في تأكيدها الصمود وقوة الإرادة، وها هو الأسد سرعان ما لملم جراحه وانقض مؤكدا قمة الإنجاز والإعجاز في وقت واحد، ولأول مرة في التاريخ تتم مثل هذه العملية البحرية عسكريا، وحسبما ذكر الخبراء العسكريون أن فكر البحرية العسكرية بعد هذه العملية تغير في العالم بأسره، موضحا أن جميع الدول توقفت عن بناء القطع البحرية الكبيرة، واتجهت تدريجيا للاعتماد على الفرقاطات صغيرة الحجم ولنشات الصواريخ مع تطوير الرادارات البحرية، لاكتشاف الأهداف من ارتفاع 4 أمتار عن سطح البحر، وتخليدا لهذه المعركة اتخذت القوات البحرية المصرية 21 أكتوبر عيدا لها كل عام.

وإذا كانت هذه العملية قد جرت في مياه البحر المتوسط، فقد جرت عمليات فدائية هناك في خليج العقبة، وتدمير ميناء إيلات حيث نفذت الضفادع البشرية المصرية عمليات فدائية مثلت قمة الإنجاز والإعجاز معا، حيث أغاروا على ميناء إيلات ثلاث مرات ودمروا أرصفته وألحقوا أضرارا جسيمة بمعداته البحرية، وذلك في نوفمبر‏1969‏ وفي فبراير‏1970‏ ثم يونيو‏1970‏ ثم نسفوا الميناء في واحدة من أهم عمليات الضفادع البشرية في تاريخ الحروب‏.‏

ثانيا : العبور العالمي.. خط ماجينو/ خط بارليف

من الأمثلة التي تستدعيها ذاكرتي هنا هو ذاك التكتيك الألماني الذي يُضرب به المثل في الخداع العسكري، إثر التفاف الألمان حول خط ماجينو وسقوط باريس في أيديهم، وهذا يذكرني بما بدا عليه الحال في استيلاء الجيش علي خط بارليف، وتكاد تتماثل بينهما أمور وتختلف أخريات، ولكن المقدمات والدوافع بين الخطين متماثلة في كونهما الحصن الحصين والارتكاز لنظرية الدفاع الثابت، وإن جاءت النتائج أيضا متماثلة في سقوط كل منهما.

خط ماجينو

جاءت فكرة إنشاء خط ماجينو بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وانتصار فرنسا عام 1918، وبعدها بدأت الدراسات حول ما يجنبها أي عدوان مرتقب مستقبلا، خاصة على الحدود الشمالية الشرقية مع ألمانيا، في منطقتي الألزاس Alsace واللورين Lorraine. وبعد دراسة الإستراتيجية الألمانية التي تبنت نظرية الحرب الخاطفة اتخذت فرنسا استراتيجية دفاعية، اعتمدت على بناء خط من التحصينات المتوالية القوية «خط ماجينو». نسبة إلى وزير الحربية الفرنسي أندريه ماجينو André Maginot الذي نادى للأخذ بنظرية الدفاع الثابت ودافع عنها أمام البرلمان الفرنسيون وهذا الخط يكون قادراً على وقف تقدم القوات الألمانية المهاجمة، ما يسهل قيام القوات الفرنسية المدافعة بتوجيه ضربات مضادة إليها وسحقها. 

وقد تم دراسة وتشييد وتنفيذ تحصينات خط ماجينو خلال إحدي عشر عاما وعلى خمس مراحل 1919 حتى 1940، بتحصينات متتالية علي مسافات متوالية وتزداد كل منها إعدادا وتحصينا، وكانت المهمة الرئيسية في المرحلة الأخيرة 1939- 1940 هي تقوية الدفاعات والتحصينات بما يحقق تنفيذ مبادئ الدفاع الثابت، ضد هجمات المشاة والدبابات والضربات الجوية، واستخدام الموانع والتحصينات الدفاعية لصد الهجوم الألماني، وإمكانية القيام بالضربات المضادة. وقد حققت هذه المرحلة استكمال بناء خط ماجينو وزيادة كثافة الموانع المضادة للدبابات في المواقع الأمامية، مع استكمال الدفاعات الدائرية عن مدينة باريس Paris.

خط بارليف

تكاد تتشابه هذه الاستراتيجية الإسرائيلية مع تلك الفرنسية في هذه الحالة الدفاعية، حيث اعتمدت إسرائيل طوال حروبها في دفاعاتها على استراتيجية خط الدفاع المتحرك، الذي كان يعتمد على إبقاء قوات قليلة في خطوط الدفاع خلال الأوقات العادية علي أن تتم التعبئة الشاملة أثناء الحروب، ولكنها في أعقاب حرب يونيو1967، واحتلال شبه جزيرة سيناء، وفي سبيل محاولتها الاحتفاظ الدائم بها ومنع العبور المصري إليها. قامت بتغيير خططها العسكرية الاستراتيجية من الدفاع المتحرك إلى خطة الدفاع الثابت، وهذا يُذكرنا بما كان عليه الحال في ماجينو.

ومع نهاية عام 1967 قررت قوات الاحتلال إنشاء خط دفاع ثابت علي امتداد الساحل الشرقي القناة، يتضمن تحصينات متتالية وحواجز دفاعية، وذلك بناء على اقتراح رئيس أركان الجيش الإسرائيلي في حينها "حاييم بارليف"، والذي حمل خط الدفاع اسمه "خط بارليف"، وكان بارليف قد كلّف قائد وحدات المدرعات أبراهام أدان، وقائد المنطقة الجنوبية الجنرال يشع ياهو غافيتش بالعمل على المشروع، وشارك خبراء من ألمانيا وبلجيكا وأميركا بالتخطيط للمشروع، الذي بدأ في منتصف مارس/آذار 1968، واستمر عاما كاملا، وبلغت تكلفة بنائه نحو 500 مليون دولار. 

وقد اشتمل المشروع عند الإنشاء خط المواجهة بكامله، بامتداد شرق قناة السويس بطول 170 كيلومترا، ابتداء من البحر المتوسط شمالا، وحتى خليج السويس جنوبا، وبلغ اتساعه داخل شبه جزيرة سيناء نحو 12 كيلومترا، ثم تزايدت تحصيناته، بعدما تولي أرييل شارون، منصب قائد الجبهة الجنوبية، وقد عمرت هذه التحصينات بأعداد كبيرة من الجنود والمؤن، والعتاد والأسلحة والذخيرة، وقد وُصف بأنه أقوى خط دفاع عسكري حينها.

وكانت طليعة التحصينات عبارة عن ساتر ترابي، بلغ ارتفاعه بين 20 و22 مترا أُقيم على حافة القناة مباشرة، وانحدر باتجاهها بزاوية ميل لا تقل عن 45 درجة، وقد بلغت في مواضع حوالي 80 درجة، وزُرِع بالألغام ونصبت شراك خداعية فيه، وهو الأمر الذي شكل عقبة عسيرة أمام عبور العربات والمدرعات، وزاد من مخاطر محاولات تجاوزه.

وخلف الحاجز الترابي تقع التحصينات الرئيسية للخط، وتتكون من سلسلتين من الدشم، ومن قاعدتها تُوَصَّل أنابيب لقذف "النابالم" في القناة مباشرة، مما يؤدي إلى تكوين طبقة من اللهب بارتفاع متر واحد، ورفع حرارة المياه إلى درجة الغليان، لردع أي محاولة إنزال بحري أو عبور لقوات الجيش المصري.

واستوعبت التحصينات 22 موقعا دفاعيا و36 نقطة حصينة، سُلِّحت بالإسمنت والكتل الخرسانية والقضبان الحديدية، لتقاوم أنواع القصف المختلفة، وكل نقطة عبارة عن منشأة معقدة تتكون من عدة طوابق، لها عمق تحت الأرض تقدر مساحته بـ 4 آلاف متر مربع.

وتشتمل كل نقطة حصينة على 26 مكانا لرشاشات المدافع والدبابات، متصل بعضها ببعض عن طريق خنادق عميقة، إضافة إلى حظائر للدبابات والمدفعية، تُحشد فيها المدرعات ومضادات الدبابات ووحدات المدفعية، ومخازن للذخيرة والسلاح.

وتحيط بكل نقطة نطاقات من الأسلاك الشائكة والألغام. وتحرس الخط فرقة مكونة من 3 ألوية مدرعة واثنين من ألوية المشاة، تضم حوالي 260 دبابة و70 قطعة مدفعية وأكثر من 400 جندى.وقد توافرت فيه ملاجئ للجنود محمية من الأسلحة الكيميائية والغازات، ومزودة بوسائل التهوية والإضاءة، وبها خدمات طبية ومطابخ وقاعات للترفيه والتسلية ومخازن للمؤن وشبكة اتصالات سلكية ولاسلكية.

وقد وُصف عند تأسيسه بأنه خط الدفاع الأقوى في التاريخ الحديث، فبالإضافة إلى التحصينات العسكرية التي أقامها الاحتلال، تميز "خط بارليف" بعدد من الدفاعات الطبيعية، التي شكلت حواجز ليس من السهل اختراقها، لا سيما قناة السويس، التي صُنفت من قبل خبراء عسكريين كأقوى حاجز مائي طبيعي في العالم، لما تتميز به مياهها من تيارات ذات اتجاهات متعددة وسرعات متباينة. كما أن طرفي التحصينات الجنوبي والشمالي محاطان بعوائق مائية، حيث البحر الأبيض شمالا وخليج العقبة جنوبا. 

وبهذه المميزات يُعتبر “خط بارليف" أقوى من خطي "ماجينو" الفرنسي و"سيجفريد" الألماني، ووصفه عسكريون بأنه من أكبر الحصون العسكرية الدفاعية في تاريخ المعارك العسكرية، وافتخرت إسرائيل بكونه الخط الذي لا يمكن اختراقه.

ثالثا : كيفية سقوط خط ماجينو/ خط بارليف

لقد فشل خط ماجينو في حماية فرنسا من الغزو الألماني في الحرب العالمية الثانية. إذ أن الخطة الألمانية لاجتياح فرنسا عام 1940 أخذت بالحسبان وجود هذا الخط. حيث وضع الألمان قوة شكلية في مقابل الخط لخداع الفرنسيين، بينما اندفعت قوات الألمان عبر البلدان الواطئة (المنخفضة) هولندا وبلجيكا وعبر غابة الأردين الواقعة شمال التحصينات الفرنسية الرئيسية. وبذلك نجح الألمان في الولوج إلى فرنسا دون الاصطدام بشكل مباشر بخط ماجينو. أي بالالتفاف ومن هناك قاموا بمهاجمة الخط والسيطرة على فرنسا. واستغرق ذلك نحو الأربعة أيام.

بدأ الهجوم الألماني في 10 مايو، وفي 14 يونيو 1940 كانت العاصمة الفرنسية باريس قد سقطت في أيدي النازيين. واستمرت المعارك حول الخط حتى تم توقيع الاستسلام من قبل الفرنسيين وأمر الجيش الفرنسي بمغادرة تحصيناته، وبالنظر إلى خط ماجينو فإننا لن نجده حصينا بالنابالم أو أن أمامه حاجز مائي كبير بمثل قناة السويس، ولذا نعنبر الالتفاف حوله هو خداع عسكري ما في ذلك شك، ولكن السيطرة عليه بهذا الخداع أيسر حالا مما كان عليه الحال في خط بارليف وقناة السويس.

فقد تم استيلاء الجيش المصري علي خط بارليف بالمواجهة المباشرة وفي وضح النهار في بضع ساعات وليس بالالتفاف علي غرار ما حدث في ماجينو، ولا شك أن المواجهة المباشرة أشد وأنكي من الالتفاف، وقد تحقق عنصر المباغتة والسرعة في الإنجاز بأرقام قياسية لم تحدث في ماجينو ولا سواه، بالإضافة إلى استخدام وسائل غير تقليدية في عمل فتحات في الساتر الترابى، ونقصد بها هنا استخدام المياه لعمل فتحات في الساتر الترابي وكان هذا فكرا عسكريا متقدما يتم استخدامه أيضا لأول مرة في الحروب بفضل فكرة  المهندس باقي يوسف الذي عاصرها في عملية بناء السد العالي، ومن ثم تحمس لها الرئيس جمال عبدالناصر، وكان هذا تكتيكا عسكريا غير مسبوق، في وقت أغلق فيه المهندسون والضفادع البشرية أنابيب النابالم، وفي نفس الوقت استخدام السلالم بالأحبال المتحركة، رغم حمولات الشدّات العسكرية.

وقد بلغت ثقة إسرائيل في عدم قدرة الجيش المصري علي اجتياز هذا الخط أن موشي ديان وزير الدفاع الإسرائيلي صرح في ديسمبر 1969 "أن الاستحكامات الإسرائيلية على الخط أشد منعة وأكثر تنظيما، ويمكن القول إنه خط منيع يستحيل اختراقه"، وفي السياق ذاته قال رئيس الأركان دافيد بن اليعازر" إن خط بارليف سيكون مقبرة للجيش المصري".

ومع ذلك تمكن الجيش المصري من اختراق دفاعاته وتحطيم حصونه خلال بضع ساعات أثناء حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وسجل بذلك أول نصر عربي على إسرائيل، وتهاوت معه أسطورة "الجيش الذي لا يقهر".

رابعا : أكبر معركة دبابات بعد الحرب العالمية: الثانية

مع إشراقة صباح يوم 7 أكتوبر كانت الدبابات المصرية قد أتمت حشدها في سيناء، وتم توزيعها على فرق المشاة الخمس حيث بلغت 800 دبابة و13 ألف سيارة ومركبة ومدرعة مرافقة مساندة
8 أكتوبر قدر موشي ديان وزير الدفاع الإسرائيلي أن يوم 8 أكتوبر سيكون يوم (الدروع المتصارعة) حيث شاركت الدبابات المصرية في قطاع الجيش الثاني الفرقة الثانية مشاة فى معركة تدمير الكتيبة 190 المدرعة الإسرائيلية بقيادة العقيد عساف ياجورى وأسر الأخير

أما في يوم 13 أكتوبر فقد قتل الجنرال ألبرت ماندلر أكبر وأشهر قائد إسرائيلي في معارك الدبابات، أما يوم 14 أكتوبر فقد كان بدء أكبر معارك الدبابات بين دولتين في التاريخ العسكري بعد الحرب العالمية الثانية، حيث استمرت المعارك حوالي أسبوع تقريباً، وكان أولها من أصعب الأيام حيث تم فيه تطوير الهجوم صوب المضايق بقوة 500 دبابة مصرية وعدد من اللواءات المدرعة، دون غطاء نطاق حماية حائط الدفاع الجوي!

 ومع ذلك ذكر أحد الضباط الإسرائيليين الكبار الذين شاركوا في تلك المعركة للكاتب البريطاني إدجار أوبلانس "أن نيران دبابات المصريين كانت كثيفة للغاية والتهمت النيران كثيراً من الدبابات الإسرائيلية".  

واستمرت معركة الدبابات الكبرى أو بالأحرى سلسلة من المعارك وصد المصريون كل الهجمات المضادة الإسرائيلية حتى مساء يوم 17 أكتوبر لأن العدو شن الهجوم على الجبهة المصرية ابتداء من يوم 15 أكتوبر بتسعة ألوية مدرعة وقد قال قادة أحد الألوية المدرعة الإسرائيلية (آمنون ريشيف قائد اللواء 14 مدرع) لموشيه ديان أثناء زيارته لموقع القتال الذي دار في نطاق الفرقة 21 المدرعة المصرية والمزرعة الصينية "أنظر يا سيدي إنه وادى الموت"

وقد ذكر اللواء كمال حسن علي قائد حرب الدبابات في أكتوبر 1973 - ووزير الدفاع بعدئذ- ضمن حديثه لمجلة الهلال عدد 6 أكتوبر 1977 أن الدبابات المصرية استمدت "عناصر تفوقها من خلال التعاون الراقي بينها وبين المشاة والمدفعية المضادة للدبابات والمدفعية وحققت الدبابات المصرية من خلال التنسيق مع الأسلحة الأخرى أعلى صور المناورة طبقاً لحجم هجوم العدو، ولم تكن تلك المعارك بنتائجها العالية عفوية أو ضربة حظ، بل كانت حصيلة جهد وإيمان وكفاءة في التدريب طوال سنوات الصبر والصمت".

ويقول الجنرال الإسرائيلي برن الذي كلف بمهاجمة جسر الفردان وفشل في غزو السويس عن معارك المدرعات في حرب أكتوبر:" كانت المعارك تجرى بصورة لم تحدث في أي حرب أخرى في العالم وفى بعض الأحيان اشتبكت 100 دبابة مع 100 دبابة وأحياناً أخرى تدور المعارك ضمن مدى احتكاك فوهات المدافع وهذه أول حرب تتراجع فيها دبابات إسرائيل إلى الوراء وكانت الظاهرة العسكرية التي حيرت العسكريين في معارك الدبابات هو الجندي المصري".

وفى كتاب التقصير (ِأشهر كتاب إسرائيلي عن حرب أكتوبر) يذكر مؤلفوه " أن جنود إسرائيل الجرحى كانوا يصرخون ويبكون وهم ينادون على أمهاتهم كالأطفال ...!! لدرجة أن أشهر أغنية شعبية في إسرائيل بعد الحرب كان مطلعها (باسم جنود الدبابات الذين احترقوا) وذلك في إشارة بليغة مؤثرة يصعب تجاهلها عن كثرة قتلى جنود ورجال المدرعات الإسرائيليين الذين ماتوا حرقاً داخل دباباتهم ومدرعاتهم.." 

خامسا: معركة المنصورة من أطول معارك الطيران في التاريخ

أصبحت الطائرات الحربية، إحدى أهم أسلحة الحروب الحديثة، التي بدأت الجيوش تعتمد عليها في تحقيق التفوق القتالي، منذ مطلع القرن الماضي. وظلت الجيوش الكبرى تطور قدراتها الجوية بصورة مستمرة، منذ ذلك الحين، بعدما أصبحت المعارك الجوية، على المرحلة الحاسمة في أي مواجهة عسكرية بين جيشين.

وأورد موقع " نرويتش" الأمريكي قائمة تضم أضخم 6 معارك جوية في التاريخ العسكري تبعا لعدد الطيران المشارك فيها وهي (كورسيك بين السوفييت والألمان 1943، ثم معركة بريطانيا الجوية بين الإنجليز والألمان 1940، ثم معركة فرنسا الجوية 1918 بين فرنسا والألمان، ثم معركة سهل البقاع بين إسرائيل وسوريا، ثم معركة الولايات المتحدة الأمريكية واليابان، ثم تأتي معركة المنصورة في المرتبة السادسة عالميا، وقد جرت في 14 أكتوبر، وكانت أكبر هجوم جوي إسرائيلي على مصر، واستمرت تلك المعركة لمدة 53 دقيقة، وكانت من أطول المعارك الجوية في التاريخ.

وبدأت المعركة بإطلاق إسرائيل غارة جوية تضم 120 طائرة مقاتلة من نوع "إف - 4"، فانتوم، و"إيه - 4" سكاي هوك، لتدمير قواعد الطائرات المصرية بدلتا النيل فى المنصورة، وطنطا، والصالحية، وشاركت في تلك المعركة 62 طائرة مصرية "ميج 21" في تدمير 15 طائرة وأصيب منها 3 طائرات، كما أسقط الدفاع الجوي 29 طائرة منها طائرتا هليكوبتر، وخسرت إسرائيل في تلك الحرب 44 طائرة منها طائرتا هليكوبتر، وربحت مصر تلك المعركة، وأصبح 14 أكتوبر عيدا للقوات الجوية المصرية. 

سادسا : محاولة إنقاذ الأمريكان لإسرائيل

علي الرغم مما بدت عليه حرب أكتوبر أنها ضد إسرائيل فإن الحقيقة كانت في انهيار إسرائيل، ومن ثم انتقال المواجهة مع الولايات المتحدة الأمريكية التي سارعت لنجدتها بعد حدوث الانهيار، إذ كانت محصلة الخسائر الإسرائيلية بعد استمرار القتال لمدة 6 أيام في المدرعات والطائرات والأفراد لا تُحصى، هذا بخلاف سقوط خط بارليف وتحرير بعض المدن المصرية في سيناء، ولذا بعثت جولدا مائير رئيسة الوزراء الإسرائيلية نداء استغاثة إلى الرئيس الأمريكي كانت أهم عبارة بها ( أنقذونا من الطوفان المصري ) وعلى الفور تحرك الحلفاء الأمريكيين وأقاموا جسرا جويا لتعويض الجيش الإسرائيلي عما خسره في الحرب من طائرات ودبابات وخلافه منذ يوم 10 أكتوبر بصورة غير رسمية.

وفي سياق إقرار وزير الدفاع الإسرائيلي موشي ديان بهزيمته، كان مما قاله بعد 72 ساعة من بدء الحرب في إجاباته على الصحفيين‏:‏ "نعتذر لأننا غير قادرين علي رد المصريين‏.‏ المصريون لديهم معدات ضخمة وهم مختلفون تماما عن أي حرب سابقة .. نحن غير قادرين على مجابهة المصريين‏.‏ قتلانا كثيرون ونحن غير قادرين على مواجهتهم‏.‏ دباباتهم كثيرة وصواريخهم فاعلة وتقتل دباباتنا وصواريخ الدفاع الجوي قتلت الكثير من طائراتنا‏.‏ معذرة فأنا غير قادر علي مواجهة المصريين على الجبهة الجنوبية‏"، ومع التدخل الأمريكي والصمود المصري أصبحت هناك ضرورة للبحث عن مخرج، ومن ثم التفكير في فض الاشتباكات واستكمال مسيرة السلام انطلاقا مما تحقق في الانتصار العسكري‏ المصري.

سابعا: شهادات إسرائيلية

 وختاما أشير إلى مجلدات (انتصار أكتوبر في الوثائق الإسرائيلية) التي قام بترجمتها عن اللغة العبرية فريق علمي محترم برئاسة المرحوم أ.د. إبراهيم البحراوي وصدرت عن المركز القومي، وبها مجريات ووثائق التحقيقات التي تمت في إسرائيل في أعقاب هزيمتهم علي أيدي الجيش المصري، وهذه التحقيقات غاية في الأهمية، لأنها في الأصل وثائق باللغة العبرية سرية وسري للغاية؛ 
وإن المصدر الرئيسي لهذه الوثائق هو محاضر هيئة المحكمة القضائية العليا برئاسة شمعون أجرانات التي شكلتها إسرائيل في نوفمبر1973 لإجراء التحقيقات لمعرفة أوجه القصور وأسباب هزيمة القوات الإسرائيلية على أيدي الجيش المصري في أكتوبر 1973.

وقد عقدت أكثر من 140 جلسة؛ واستجوبت فيها كل من رئيسة الوزراء جولدا مائير ووزير الدفاع موشى ديان ورئيس المخابرات ورئيس أركان الجيش الإسرائيلي ورئيس المخابرات وكبار القادة العسكريين؛ ودونت الشهادات الشفهية مثلما احتفظت بوثائق خطية. 

وتبدو أهمية هذه الوثائق في أنها تُعد شهادات حية وأدلة معاصرة وتوثيقا سريا واعترافا من العدو بالهزيمة أمام القوات المصرية، وبالتالي تقدم بما لا يدع مجالا للشك إثباتات الانتصار المصري العظيم بشهادة الأعداء أنفسهم.