الخميس 10 اكتوبر 2024

العثور على مومياء تكشف طقوس حضارة الإنكا

مومياء الفتاة المكتشفة

الهلال لايت 10-10-2024 | 02:07

إسلام علي

اكتشفت مومياء الإنكا في بركان كيوار بمنطقة سالتا في الأرجنتين عام 1975، مما شكل اكتشافًا أثريًا بالغ الأهمية مكّن الباحثين من فهم أعمق لممارسات طقوس الإنكا، وخاصة طقوس "الكاباكوتشا" التي تضمنت تقديم الأطفال كقرابين لتكريم آلهتهم.

 

طقوس الكاباكوتشا

كانت طقوس "الكاباكوتشا" من الطقوس الهامة التي مارسها شعب الإنكا في جبال الأنديز، وكانت تتضمن التضحية بالأطفال تكريمًا لآلهتهم.

وتحظى هذه الطقوس بأهمية كبيرة بالنسبة للإنكا، حيث كانوا يؤمنون بأن تقديم الأطفال النقيين كقرابين يمكن أن يمنع الكوارث الطبيعية أو يضمن حصادًا جيدًا، بالإضافة إلى الحفاظ على التوازن الروحي والسياسي في المجتمع.

 

الأهمية الدينية والسياسية

كان الإنكا ينظرون إلى "الكاباكوتشا" على أنها وسيلة للتواصل مع الآلهة، وقد كانت تُستخدم كقربان في مناسبات دينية هامة مثل الحروب، الجفاف، الزلازل أو غيرها من الأحداث الطبيعية التي تهدد استقرار المجتمع.

وكان الهدف الأساسي هو استرضاء الآلهة والحصول على مباركتهم، الطقوس كانت أيضًا وسيلة لتأكيد سيطرة السلطة المركزية، المتمثلة في الإمبراطور الإنكا، على المجتمع.

 

اختيار الأطفال

كان الأطفال المختارون للتضحية من أرقى العائلات وكان يتم اختيارهم بسبب نقائهم الجسدي والروحي، كانت التقاليد تنظر إلى الأطفال على أنهم نقيون وغير ملوثين بأي خطيئة، مما يجعلهم أكثر قبولًا عند الآلهة، وهؤلاء الأطفال كانوا يُعتبرون "مقدسين" و"مباركين" من قِبل المجتمع، وكان يُعتقد أنهم لا يموتون بل ينتقلون إلى عالم الآلهة.

 

الرحلة إلى الجبال المقدسة

بعد اختيار الأطفال، كانوا يُقادون في مواكب احتفالية من العاصمة كوسكو إلى الجبال المقدسة، حيث يُعتقد أن الآلهة تسكن، وكانت هذه الرحلات طويلة وشاقة، وفيها كان الأطفال يتعرضون لصعوبات طبيعية مثل البرد الشديد، نقص الأكسجين، والارتفاعات العالية.

 

وكانت عملية التضحية تتم في أعالي الجبال، التي كانت تُعتبر أماكن مقدسة، وبفضل البرودة والجفاف الشديدين في تلك المناطق، كانت أجساد الأطفال تتحنط طبيعيًا، مما سمح ببقائها محفوظة لفترات طويلة.

 

طقوس التضحية

لك يكون الأطفال عادةً يُقتلون بشكل مباشر، بل كانت الظروف البيئية القاسية "مثل البرد الشديد أو نقص الأكسجين" هي التي تؤدي إلى وفاتهم ببطء.

 في بعض الأحيان، كان يتم إعطاء الأطفال مشروبات تحتوي على الكحول أو مواد مخدرة للتخفيف من معاناتهم، والهدف لم يكن القتل العنيف، بل الوفاة كجزء من عملية رمزية طبيعية تُرضي الآلهة.

 

الدراسات العلمية الحديثة

بفضل التقدم في التقنيات العلمية، مثل تحليل النظائر المستقرة، استطاع العلماء جمع معلومات مهمة عن حياة الأطفال الذين ضُحوا بهم في طقوس الكاباكوتشا، وعلى سبيل المثال، من خلال دراسة شعر وعظام هؤلاء الأطفال، تمكن العلماء من تحديد أماكن نشأتهم، نظامهم الغذائي، وحتى مواسم وفاتهم.

 

في حالة المومياء التي عُثر عليها في بركان كيوار بالأرجنتين، أظهرت التحليلات أن الفتاة كانت تتناول أعشابًا بحرية قبل وفاتها، رغم أنها عاشت بعيدًا عن الساحل.

ويشير هذا الاكتشاف إلى أن الإنكا كانت لديهم شبكة تجارية معقدة تمتد من المناطق الساحلية إلى المناطق الجبلية، وأنهم كانوا قادرين على نقل المنتجات لمسافات طويلة.

 

الاستعدادات قبل التضحية

قبل التضحية، كان الأطفال يتم إعدادهم بشكل خاص، سواء من خلال تغيير نظامهم الغذائي أو من خلال طقوس دينية، فعلى سبيل المثال، زيادة استهلاك الذرة، التي كانت تُعتبر طعامًا للنخبة، تشير إلى أن الأطفال كانوا يحصلون على معاملة مميزة في الأشهر التي تسبق التضحية، وقد تكون هذه التغييرات في النظام الغذائي والنمط الحياتي دلالة على طقوس تطهير أو تجهيز روحي قبل أن يتم تقديمهم كقرابين.

 

التأثير المجتمعي والسياسي

كانت طقوس الكاباكوتشا أيضًا وسيلة لربط النخب المحلية بالنظام المركزي للإمبراطورية، إذ أن النخب المحلية كانت تختار الأطفال وتشارك في الطقوس، مما يُعزز ولائها للسلطة المركزية في كوسكو، من خلال هذه الطقوس، كان الإمبراطور الإنكا قادرًا على التأكيد على قوته وسيطرته على المناطق البعيدة.

 

الرمزية في ثقافة الإنكا

في ثقافة الإنكا، كانت هذه الطقوس تحمل معانٍ رمزية عميقة. فقد كان يُعتقد أن الأطفال المختارين يكتسبون حالة إلهية بعد موتهم، وأن أرواحهم ستظل تحمي المجتمع.

 الأطفال الذين تم التضحية بهم كانوا يُعتبرون ممثلين عن المجتمع أمام الآلهة، وكان يُنظر إلى موتهم على أنه تضحية ضرورية لضمان الخير العام.

 

 

وعلى الجانب الأخر، رغم أن محاولة استخراج المومياء بوساطة اللصوص باستخدام الديناميت تسببت في تدمير معظم جسدها "لم يبقَ منها إلا الجزء السفلي"، إلا أن التحليل النظائري كشف عن معلومات قيّمة حول حياة الفتاة التي تم التضحية بها، بما في ذلك أصلها الجغرافي ونظامها الغذائي الموسمي.

 

عُثر على المومياء، وهي لفتاة تبلغ من العمر حوالي 12 عامًا، على قمة البركان بارتفاع 6130 مترًا فوق مستوى سطح البحر، حيث ساعدت الظروف الباردة والجافة في تحنيطها طبيعيًا.

كانت طقوس الكاباكوتشا تُمارس لمنع الكوارث الطبيعية أو لضمان حصاد وفير كما أشرنا، وكان يتم اختيار الأطفال لنقائهم، شكلت هذه التضحيات قيمة رمزية عميقة في مجتمع الإنكا.

 

اعتمادًا على تقنيات تحليل النظائر المستقرة لشعر الفتاة وعظامها، توصل العلماء إلى استنتاجات حول نظامها الغذائي وأصلها الجغرافي المحتمل.

أظهرت تحليلات نظائر الأكسجين والكربون أن الفتاة جاءت على الأرجح من منطقة ترتفع بين 2500 و3000 متر فوق مستوى سطح البحر، ربما من منطقة الأنديز، كما أشارت النتائج إلى أن الفتاة ربما تنتمي إلى مجتمع قريب من الحدود الحالية بين تشيلي والأرجنتين، في مناطق مثل وديان سان بيدرو دي أتاكاما أو كويبرادا دي هوماهواكا.

 

كان أحد الاكتشافات الهامة هو تناول الفتاة للأعشاب البحرية قبل عام من وفاتها، وهو اكتشاف مفاجئ نظرًا لكونها بعيدة عن الساحل، يشير هذا إلى أن الأعشاب البحرية كانت تُنقل عبر شبكة الطرق الواسعة للإنكا، مما مكّن من نقل المنتجات الساحلية إلى المناطق المرتفعة، وذلك أكبر دليل على صحة الجانب التاريخية الذي ذكرنا من قبل.

 

أظهرت عينات شعر الفتاة تقلبات دورية في نظائر الهيدروجين والكبريت، مما يشير إلى أن الفتاة لم تُنقل من موطنها الأصلي قبل التضحية بها.

 

وقد أوضحت هذه التغيرات في النظائر أنها سجلت التغيرات الموسمية، ما يعني أن التضحية وقعت في بداية موسم الأمطار، وبالنظر إلى أن الفتاة لم تُنقل في الأشهر الأخيرة من حياتها، يُقترح أن النخب المحلية، وليس السلطة المركزية في كوسكو، كانت مسؤولة عن اختيار الأطفال وإعدادهم للتضحية.

 

كما أظهر تحليل نظائر الكربون والنيتروجين والكبريت أن النظام الغذائي للفتاة كان يعتمد بشكل رئيسي على الذرة، مع كميات أقل من البقوليات، بجانب استهلاك لحوم الإبل.

 

يبرز استهلاك الأعشاب البحرية التي نُقلت من الساحل عبر قوافل الجمال قدرة الإنكا على إدارة نظام تجارة طويل المدى، وقد تكون هذه الأعشاب استُخدمت لأغراض طبية نظرًا لاحتوائها على اليود، الذي كان ضروريًا لسكان المناطق المرتفعة.

 

أثارت الدراسة تساؤلات حول طبيعة الاستعدادات للتضحية، حيث قد يكون تضمين الأعشاب البحرية في النظام الغذائي للفتاة ذا دلالة طقسية أو طبية، كما أن التغييرات في نظامها الغذائي، مع زيادة استهلاك الذرة في الأشهر الستة الأخيرة من حياتها، تشير إلى أنها ربما كانت تُعد خصيصًا للتضحية.

 

يجمع هذا الاكتشاف بين البيانات الأثرية والعلمية ليقدم سردًا أكثر اكتمالًا عن حياة وموت الأطفال الذين تم التضحية بهم خلال طقوس الكاباكوتشا، وكيف ارتبطت حياتهم بشكل وثيق بالأنظمة السياسية والدينية والاقتصادية لإمبراطورية الإنكا، وذلك طبقا لما نشره موقع labrujulaverde.