الأحد 13 اكتوبر 2024

ما بين والدي والمدرسة والجامعة


د. عاصم الدسوقى

مقالات13-10-2024 | 17:15

د. عاصم الدسوقى

نشأت فى بيت تزدان جدران إحدى غرفه برفوف عليها كتب فى الأدب والتاريخ والسياسة والاقتصاد، وأب يقرأ فى هذه الكتب عصر يوم الجمعة حيث الأجازة من العمل، كما يقرأ يوميا صحيفة الأهرام، وأسبوعيا مجلة «المصور»، وشهريا مجلة «الهلال»، ومجلة «طبيبك الخاص» للاستنارة بأسباب بعض الأمراض وكيفية معالجتها. وقد لاحظ والدى أننى أتصفح جريدة الأهرام بعد أن ينتهى هو من قراءتها فأدرك اهتمامى بالقراءة خارج الكتب المدرسية، ومن ثم التقط هذه الفرصة ليشجعنى أكثر وأكثر على القراءة الحرة، ومن ضمن مظاهر تشجيعه أنه كان يطلب منى قراءة مقالة ما فى الأهرام بحجة أن عينيه متعبة، وأنا فى المرحلة الابتدائية بالمدرسة، فأقوم بنطق بعض الكلمات نطقا غير صحيح فيقوم بالتصويب لى، وفى أحيان أخرى كان يطلب منى أن أقوم بترتيب سطور فقرة فى أحد المقالات طبعت بالخطأ فأقوم بالمهمة فيبدى إعجابه بمهارتى فى الترتيب.

لم يتوقف الأمر على قراءة الصحف بل كان يطلب منى قراءة بعض الكتب التى كان يشتريها بحجة أنه متعبا، فأقوم بالمهمة حيث أقرأ له صفحات من أحد الكتب يوم الجمعة حيث الإجازة، وبحيث لا أتعطل عن مذاكرة واجباتى المدرسية.

وهكذا أصبحت القراءة هواية ممتعة كان لها تأثيرها الكبير على تفكيرى، وصرفتنى كثيرا عن اللعب فى الشارع مع أصدقائى لدرجة أنى كنت أقرأ وأنا جالس على الكنبة فى صالة الشقة حتى أنام والكتاب فى يدى، فيأتى والدى ويقول لى: كفاية قراءة .. انزل إلى الشارع والعب مع أصحابك.

وفى المدرسة الثانوية تعلمت من مدرس اللغة العربية أحمد بدر النطق الصحيح لكلمات اللغة العربية عند شرحه لأصول البلاغة فى الجناس والطباق والاستعارة  وذلك بذكر بعض أبيات من الشعر وما زلت أذكر بعضها مثل:

مر ظبى على كثيب (أى تل من الرمل)     شبيه بدر إذا تلالا

فقلت ما الاسم قال لولو

قلت لي لى قال لا لا

وفى باب البلاغة قال لنا إن الشاعر إسماعيل صبرى كان يحب فتاة اسمها أسماء لكنها لم تكن تبادله نفس الحب بالقوة فأنشد قائلا:

طرقت الباب حتى كل متنى (أى تعبت يدى) فلما كل متنى كلمتنى

فقالت يا إسماعيل صبرا فقلت أأسما عيل صبرى (أى نفد صبرى)

أما الأستاذ محمد قنديل مدرس اللغة العربية فكان يعلمنا النطق الصحيح لكثير من الألفاظ المتداولة بالكسر أو الضم أو بالفتحة فقال: لا تفتح الخزانة، أى لا تضع فتحة على حرف الخاء، ويقول أيضا: لا تكسر القنديل، أى ضع فتحة على حرف القاف. وبهذه الطريقة فى الشرح تعلمت كيفية نطق الكلمات العربية نطقا سليما، وأخذت أستمع فى الراديو إلى حديث المساء حيث كان يتحدث طه حسين وعباس العقاد فتعلمت منهما نطق الكلمات نطقا صحيحا. 

وفى عالم السياسة كان والدي ممن ينتمون إلى الحزب الوطني القديم، حزب مصطفى كامل ومحمد فريد رغم أنه ولد في ذات العام الذي توفي فيه مصطفى كامل، ويعلق صورهما على جدران البيت في برواز من اللون البني الغامق من باب التوقير. وكان يطلب مني أن أقرأ له ما كتبه عبد الرحمن الرافعي عن مصطفى كامل ومحمد فريد بحجة أن نظره لا يساعده على القراءة. وأدركت فيما بعد أن هذه كانت حيلة منه لأتعلم أن أقرأ وأن اعتاد مصاحبة الكتاب.

وفي جلسات القراءة المتعمدة لوالدي التي كانت تتم في الفترة قبيل المغرب كان الحديث معه يتناول بعض الذكريات والانطباعات السياسية. ومع ذلك فقد كان يحذرني من السياسة ومن الانخراط في صفوف أيه تجمعات حزبية، أو السير في المظاهرات، ويراقبني عن بعد. ومن هنا وضع في طريقي كتبا في فنون الأدب وألوانه القديم والحديث، تشكل الوجدان أكثر مما تشكل التفكير. وكانت القراءة هي وسيلتي الرئيسية لقضاء بعض أوقات الفراغ وخاصة في الأجازات، وكذلك الاستماع للراديو، وارتياد السينما في نهاية الأسبوع. وكان يجعلني استمع معه إلى حديث السهرة في الراديو والذي كان في الساعة التاسعة مساء بأصوات صفوة رجال الفكر والأدب والفن في مصر، وكنت لا أفهم كثيرا مضمون الحديث وأنا دون الخامسة عشرة ولكني كنت ألتقط النطق السليم لبعض الكلمات، وهكذا كان الاستماع للموضوع الصعب لا يخلو من فائدة في كل الأحوال.

وفي المدرسة الابتدائية ثم الثانوية أحببت التاريخ وكان الفضل يعود إلى المدرس فقد كان من حظي أن استمع إلى شرح الأستاذ فوزي في المدرسة الابتدائية عندما كان يدرس لنا تاريخ مصر في العصر الحديث، ومعارك محمد علي باشا مع السلطان العثماني، وكيف أن الدول الأجنبية تدخلت لضرب محمد علي، وكان يرسم على السبورة مربعات واشكال للتعبير عن صراع القوى وتداخلها في عبارات يسيرة خليطا من العامية والفصحى حسب المقام.

أما الأستاذ عبد الحميد فتيحة فكان مدرسا رائعا للتاريخ فى المرحلة الثانوية، حيث كان يشرح لنا أحداث التاريخ بشكل روائى يجعلنا نتابعه بشغف، ويذكر لنا أحداثا فى الموضوع لم يرد ذكرها فى الكتاب المدرسى فنزداد شغفا باستكمال المعرفة بشكل شامل، ومن مقولاته التى تأثرت بها فى كيفية تحصيل المعرفة والاحتفاظ بها بيتا من الشعر ما زلت أذكره:

العلم صيد والكتابة قيده

قيد صيودك بالحبال الواثقة

وفى شرحه لهذا البيت قال لنا: إن الصياد إذا اصطاد عصفورا ووضعه إلى جانبه سوف يطير، ولكنه يقوم بربطه أى تكتيفه بدوبارة (تقييده) حتى يحتفظ به فى عشه. وهذا معناه أننا إذا قرأنا معلومة ما أو استمعنا إليها علينا أن نقوم بكتابتها على ورقة ونحتفظ بها فتظل فى ذهننا نستخدمها ونعود لها كلما احتجنا العودة إليها، وهذا أساس البحث العلمى فى التاريخ حيث ما زلت أحتفظ ببطاقات الورق التى سجلت فيها ما كنت أقرأه عن الموضوع الذى أريد كتابته.

وقد بهرنا الأستاذ عبدالحميد بقدرته على الشرح والتعليم وخاصة أنه كان يضيف إلى كتاب الوزارة معلومات إضافية، وكنا ندون ما يقوله في كراسات منفصلة وكأننا في الجامعة، وكان يشجعنا على ذلك.

وتعلمت منه كيف أبحث عن معنى الكلمة الإنجليزية من القاموس، وكيف أختار المعنى الذي يتناسب مع الجملة في السياق. وأتذكر في هذه اللقاءات الخاصة التي تعددت خلال العام الدراسي 1956-1957 ما كان يقوله ولم أدركه إلا فيما بعد، من أن مشكلة التاريخ هي تفسير حوادثه فى إطار الظروف الموضوعية المصاحبة للحدث، وكان يتحدث معنا عن فكرة الصراع الطبقي بل وذكر لنا كارل ماركس وطرفا من حياته.     

لقد كانت الفترة من العام الدراسي 1952-1953 وحتى العام 1956-1957 وهي فترة التعليم الثانوي من أعظم الفترات في تاريخ مصر المعاصرة، فقد كانت مرحلة إزاحة الإقطاع من الحكم، وإعلان الجمهورية، والوقوف ضد الرأسمالية، والنضال ضد الاستعمار الإنجليزي والقوى الخارجية، وتأميم قناة السويس والحرب، وفترة البناء الاقتصادي واستعادة القوة الذاتية، وتأكيد الهوية العربية لمصر وتداعيات ذلك في النهوض بالقضية الفلسطينية ومسئوليات الصراع العربي الإسرائيلي ومعركة التحرر العربي. ولقد فرضت هذه القضايا نفسها على مناخ التعليم في المدرسة حيث كان مدرس التاريخ يوجه الحديث إلينا من باب تنمية الوعي وإثارة التفكير فيما يدور حولنا من حوادث ووقائع.

وأنا في تلك المرحلة تفتحت عيني على الحارة المصرية بكل مشكلاتها، إذ كان خال والدي يعمل مأذونا شرعيا لحي الحسينية وكنت أذهب لزيارته من شبرا حيث نسكن من آن لآخر خلال أجازة الصيف أو في أيام الجمع ولم يكن له أولاد فكان يعتبرني وإخوتي أبناءه. وكان مكتبه لمزاولة عمله في إحدي حجرات الشقة وبابها يفتح على السلم مباشرة حتى لا يكشف الداخل حرم البيت. وكثيرا ما حضرت وقائع الطلاق وفض المنازعات، واستمعت لتفاصيل المشكلات التي أدت إلى تعذر الحياة بن الطرفين، فاستقرت في ذهني بعض ملامح الحياة الشعبية البسيطة في أحد أحياء القاهرة القديمة، وكثيرا ما كان يعقب على مناسبة الطلاق بعد انصراف أطرافها بعبارات من الأسف والحسرة وهو يشعل سيجارة يلفها بيده من علبة معدنية شأن معظم أهل زمانه.

وعندما بدأت قراءة نجيب محفوظ كان حي الحسينية الذي أحببته من كثرة زياراتي له، طريقي إلى شق حارات القاهرة الفاطمية من باب الفتوح حيث سوق الليمون والحمام إلى باب زويلة، مرورا بالنحاسين والجمالية وبيت القاضي والصاغة وخان الخليلي والفحامين والكحكيين والسكرية وغيرها، ثم إلى تحت الربع والدرب الأحمر والخيامية واليكنية إلى الحلمية. وأصبح من عاداتي الإكثار من زيارة هذه الأحياء بحثا عن شخصيات روايات نجيب محفوظ في: القاهرة الجديدة، وخان الخليلي، وزقاق المدق، وبين القصرين، والسكرية، وقصر الشوق. وكثيرا ما صحبت أصدقائي في المدرسة ثم في الجامعة إلى هذه الأحياء في جولة طويلة نجلس بعدها على أحد المقاهي العامة ونخرج منها إلى أضواء القاهرة خارج حدودها القديمة. وكنت أشعر في كل مرة أن المصريين اولاد البلد في هذه الأحياء هم المصريين الذين تحدثت عنهم كتب الرحالة القدامى، وأنه لا صلة لهم بأهل القاهرة في المناطق الجديدة البعيدة (الراقية).

وأنا في تلك المرحلة (الابتدائية-الثانوية) كنت قد تعلمت الاستماع للموسيقى الشرقية من خلال الجرامافون في بيتنا. فقد كان والدي من محبي الاستماع للغناء القديم وخاصة الدور والطقطوقة من ألحان محمد عثمان، وكامل الخلعي، وداوود حسني، وسيد درويش، وزكريا احمد، ومحمد القصبجي، وبأداء صالح عبد الحي وام كلثوم وعبد الوهاب، ويعرف المقامات الموسيقية ويميز الأداء الجيد المتطابق مع أصول المقام. وأراد أن يتعلم العزف على العود، إلا ان خاله منعه من ذلك. وقد بدأ دخولي هذا العالم عن طريق قيامي بإدارة الجرامافون بملء المفتاح وتركيب الإبرة لكي يستمع والدي وهو مغمض العينين.

وتدريجيا أخذ هذا اللون من الأغاني يتسلل إلى وجداني وأصبحت جزءا أساسيا من ذوقي في الموسيقي ودنيا الطرب لم أتحول عنه. ومن هذه الجلسات عرفت طريقي إلى مقهى أم كلثوم بالتوفيقية (شارع عرابى فى وسط البلد) بالدور الثالث حيث كنا نستمع من المساء إلى ما بعد منتصف الليل إلى روائع أم كلثوم التي شدت بها من الأربعينيات وحتى نهاية الخمسينيات.

وفي الجامعة وفي كلية الآداب جامعة عين شمس في شبرا، بدأت الصياغة المنهجية في دراسة التاريخ بفضل نفر قليل من الأساتذة الذين كان لديهم ما يقدمونه لعقل الطالب. وكانت الجامعة آنذاك مثالا نتطلع إليه من حيث علم أساتذتها وتواضعهم واهتمامهم بالعمل والترفع عن المظاهر. ولا يمكن أن تبرح ذاكرتي شخصية الدكتور مهدي علام عميد الكلية آنذاك بسيجاره الشهير وهو واقف أمام الكلية ينتظر الأوتوبيس العام مع الطلاب ليعود إلى منزله.

وفي العام الدراسي 1959-1960 وأنا بالفرقة الثالثة ومن خلال مقرر دراسي بعنوان "نظريات ونظم سياسية" أتيحت الفرصة للاطلاع على الفكر الاشتراكي ودراسته، وكان ذلك قبل سياسة الثورة في تأميم وسائل الإنتاج الكبرى في يوليو 1961 وإعلان ميثاق العمل الوطني في 1962 على طريق الاشتراكية والوحدة العربية، حيث قدم لنا أستاذنا الدكتور أحمد عبد الرحيم مصطفى كتاب "موجز تاريخ الاشتراكية" من ترجمته، وبدأت محاولة فهم تاريخ مصر المعاصر في ضوء النظرية الاشتراكية على الأقل منذ ثورة 1919.

وفي ذات العام كان استاذنا الدكتور احمد عزت عبد الكريم يدرس لنا تاريخ العرب الحديث، وكان من عادته أن يحدد لنا في أول العام موضوعات المقرر ويحاضرنا في جزئية منه طول العام تاركا لنا إعداد باقي الموضوعات من خلال قائمة من الكتب يحددها لنا. وأذكر أنه أشار إلى كتاب بعنوان "الوحدة العربية بين عامي 1916-1945" لباحث سوري يدعى أحمد طربين (فيما بعد أستاذ بجامعة دمشق كلية الاداب-قسم التاريخ)، وأصله رسالة لدرجة الماجستير بمعهد الدراسات العربية العالية التابع لجامعة الدول العربية. وقد تكلم عن هذا الكتاب كثيرا فرأيت الحصول عليه فذهبت إلى المعهد بجاردن سيتي في قصر كان مقرا لمركز تموين الشرق الأوسط خلال الحرب العالمية الثانية لإمداد جيوش الحلفاء بما يحتاجونه. وفي المعهد اطلعت على برنامج الدراسة فيه معلقا على أحد الجدران، وأن هدفه إعداد خبراء في الشؤون العربية فنويت بيني وبين نفسي أن التحق به بعد حصولي على الليسانس، وفعلا التحقت به في العام الدراسي 1961-1962. وهناك درست التاريخ العربي الحديث في إطار القومية العربية والنظرية القومية بشكل عام. وخلال عامين دراسيين اكتمل وعي بالقومية العربية وحتميتها وسيلة لتحقيق القوة العربية الواحدة ضد القوى الكبرى التي تسيطر على أجزاء كثيرة من بلاد العرب إما بطريق مباشر بالاحتلال وإما بطريق غير مباشر من خلال الاقتصاد. وقد تعلمت الفكر القومي على يد أساتذة من سائر بلاد العرب: عبد الرحمن البزاز من العراق، ونور الدين حاطوم من سوريا، ومكي شبيكة من السودان، ونيقولا زيادة من لبنان، وعبد الكريم غرايبية من سوريا، وعثمان الكعاك من تونس، وقبل هؤلاء كانت كتب ودراسات ساطع الحصري الذي كان أول مدير للمعهد. وكان المناخ السياسي في مصر يساعد على تنمية هذا الوعي، ومن ثم كانت فترة من أغنى الفترات العلمية في حياتي لا زلت أعيش على زادها مع طلابي وفي بحوثي وقراءاتي، وأصبح الفكر القومي مقياسا عندي للنظر إلى حركة التاريخ العربي.

ثم حانت الفرصة لكي تكتمل عندي دراسة الفكر الاشتراكي وفق النظرية الماركسية وأنا في الخامسة والعشرين من عمري عندما التحقت بمنظمة الشباب الاشتراكي قبل إعلانها حيث قرأت لأول مرة ديالكتيك هيجل، ومعنى أن كارل ماركس عدل من وضع الديالكتيك الهيجلي حيث جعله يسير على قدميه بدلا من رأسه، وذلك عندما رد التغير الاجتماعي إلى المادة وليس إلى الروح، كما اعتدت الحوار المنظم في حلقة المناقشة وتفتيت القضايا تفتيتا للدراسة والفهم، وتعلمت كيف نكتب بالمنهج العلمي لا أن نكتب عنه، إذ كان يطلب إلينا أن نعيد صياغة فصل من كتاب عبد الرحمن الرافعي مثلا صياغة منهجية وفق المادية التاريخية على اعتبار أن الرافعي كان يكتب حوادث ووقائع مع قليل من التحليل الذي إذا أورده يكون من وجهة نظر الحزب الوطني، ومن هذه اللقاءات تفتحت أمامي آفاق هذا الباب من المعرفة اللانهائية والتي إزدادت رسوخا مع الأيام مع إيمان لا يتزحزح بقضية العدالة الاجتماعية.

وبين دراسة القومية العربية بالمعهد والفكر الاشتراكي بالمنظمة عرفت طريقي إلى ندوة ناجي الثقافية التي أسسها الشاعر الطبيب إبراهيم ناجي، وكان يتولاها عندما انضممت إليها في عام 1962 الدكتور شوقي السكري أستاذ الأدب الإنجليزي بآداب القاهرة، وكانت تجتمع مساء كل يوم اثنين بنادي المعلمين بالدقي حتى توقفت بعد عدوان إسرائيل فى الخامس من يونيهه‍ 1967. لقد كانت ندوة ثقافية بمعنى الكلمة ومفتوحة أمام كل الأفكار وكل الموضوعات من الفلسفة إلى الدين مرورا بالاقتصاد والسياسة والتاريخ والأدب والفن. واستمعت فيها إلى صفوة المفكرين والأدباء: زكي نجيب محمود، ولويس عوض، ومحمد مندور، وعثمان أمين، ومحمد أنيس، ومجدي وهبه، وعبد الله الريماوي، وخيري حماد وغيرهم، واستمعت إلى أشعار صلاح عبد الصبور وعبد الرحمن الأبنودي قبل أن يعرف طريقه إلى الإذاعة.

وبدأت أدرك حقيقة أن العلوم الإنسانية متداخلة ومتكاملة ولا يمكن عزل أحدها عن الآخر، وأن الظاهرة الاجتماعية والتجربة التاريخية مركبة ولا يمكن تناولها من زاوية واحدة. وتعلمت من هذه الندوة فوق الاستماع إلى هؤلاء الأساتذة، طريقة عرض الكتب في التاريخ حيث كان مقرر الندوة يكلفني بإعداد عرض للكتاب الذي سوف يناقش في الندوة بحضور المؤلف لكي يستمع إليه من لم يقرأ الكتاب من الحاضرين، كما كان يكلف غيري من أعضاء الندوة حسب التخصص الدراسي لكل منهم.

وبمعالم هذا التكوين الفكرى والثقافى باشرت حياتى الوظيفية وعلاقاتى بمجال العمل وهذه مرحلة أخرى من حياتى العملية.