الإثنين 14 اكتوبر 2024

أزرق.. أزرق


محمود درويش

مقالات14-10-2024 | 10:51

محمود درويش

«رأيت مياهاً كثيرة في حياتي، ولكنني لم أر ماء في مثل هذه الزرقة الداكنة.

وشاهدت رمالاً كثيرة فسيحة، ولكنني لم أشاهد رملاً ممتلئاً بالوضوح والغموض معاً مثل هذه الرمال الشرسة.

وعشت أماسي كثيرة تحاذي المجهول، ولكنني ما عشت مثل هذا المساء الذي يتناوب علاقة عجيبة مع المجهول.

ورأيت جنوداً كثيرين، ولكنني ما رأيت، قبل الآن، كيف تقف عيون التاريخ على أصابع هؤلاء الجنود.

وعرفت الصبر والقهر والغيظ، ولكنني أقرأ الآن، ولأول مرة، صدر البركان المتأهب للانفجار.

وتعرفت على أنواع كثيرة من الصمت ولكنني لم أر صمتاً أكثر حكمة وقسوة من هذا الصمت المرابض، كالأعجوبة على قناة السويس.

نحن نثرثر في كل مكان، ابتداء من غرفة النوم حتى المذياع، ونكتشف في أنفسنا مواهب مفاجئة في فن الحرب والعذاب والبسالة، ولكن الحقيقة الوحيدة تبقى هناك.. على ضفاف قناة السويس.

وموقفنا من هذه الحقيقة الدامية هو وحده الذي يمنحنا حق الكلام أو يحرمنا من حق الكلام عن الوطنية والقومية والاشتراكية وغيرها من القيم التي أوقفتها التطورات المفجعة على مفترق طرق خطيرة، على ضفاف قناة السويس، ذلك لا يعني أن قيمنا أصيبت بالشلل أو يجب أن تصاب بالشلل إلى حين الخروج من مفترق الطرق هناك، ولكن يعني أن العلاقة بينهما صارت أعمق وأخطر مما يتصور البعض، وأن التأثير المتبادل بينهما يترك آثاراً قد تتشابه في العمق والمدى، لن نتمكن من التقدم بقيمنا نحو التنفيذ الجاد ما دمنا عاجزين عن التحرك هناك، ولن نتمكن من التحرك هناك ما دمنا عاجزين عن التقدم بقيمنا.

والحرب هناك لا تكتب بالحبر والمزاج، إنها لغة الموت الحقيقية، وهي ليست قصفاً إذاعياً يعقبه نشيد الختام السلبي، إنها الصمت الفاعل الذي يعقبه انفجار البارود واللحم البشري، إنها مهارة الموت الذي يرد إلى التاريخ لكنته المعجوجة التي أطلقها ذات يوم عندما كان شغوفاً بالمزاح.

"إن زرقة السويس تشطرني شطرين".

هذه السطور كتبتها قبل حرب تشرين "أكتوبر" بعامين ونصف عندما زرت مدينة بورتوفيق برفقة الجنود المصريين الذين كانوا ينتظرون اندلاع العاصفة النارية بصبر أسطوري، أسجلها الآن وأقبل الأيدي التي صافحتها فأعطتني مجداً لا أستحقه. * الهلال ١/١٠/١٩٧٦