رغم أنه كان منصرفاً طول عمره لرسوماته ومشروعاته الفنية وقراءاته ومتابعته للمسرح والسينما وكل أشكال الإبداع الفنى. إلا أنه ترك لنا عدداً من اللوحات والنتاجات الفنية والأحاديث المهمة والإبداعات الخلاقة. ومن باب التذكير والكتابة للتاريخ أكتُب أن معارض «يحيا الحب»، و«أنا حرة» و«الشمعة والسمكة» آخر المعارض التى أقامها حلمى التونى فى حياته.
توقفتُ طويلاً أمام أحاديثه الصحفية الكثيرة، فهو كان يعتبر نفسه فناناً وصحفياً، ويتعامل مع الصحفيين باعتبارهم زملاؤه الذين لا يرفض لهم طلباً. قال:
* أنا فنان مُلتزم بمعنى أنه تشغلنى قضايا الشأن العام والتى تنقسم لدىَّ إلى قسمين، وهما قسم الوطنيات والهوية، ثم قسم المساواة والعدالة، والذى أهتم فيه كثيراً بحقوق المرأة.
* شعرتُ بالاستغراب من التفاعل مع قضية الأوضاع فى فلسطين الذى قد يكون منعدماً، وكنت متوقعاً رد فعل واستجابة قوية لما يحدث، ولفت نظرى غياب شيوخ الفن فى مصر.
* تشغلنى دائماً فكرة العدالة والمساواة وتمثيلها وتجسيدها فى قضية المرأة، ويظهر هذا جلياً فى كل معارضى منذ عشرات السنين ومشوارى الذى يمتد لأكثر من أربعين عاماً.
* أتميز طول عمرى بأننى ثائر ومُتمرد، وارتبطت أعمالى بعد ذلك بالكتاب المتمردين والمختلفين.
* أنا أنتمى للمدرسة الواقعية السحرية التى ابتدعها جابرييل جارثيا ماركيز فى الأدب، وأراها روح الفن. حيث ترتبط بالواقع وتقدم شيئاً مدهشاً وحديث شاعرى المفضل بابلو نايرودا، تجده يتحدث عن الفراشات والنمل وهو يثير قضايا كبرى.
* أخاطب ذكريات الإنسان فى أعمالى الفنية، فثروة الإنسان الحقيقية ليست المال وإنما ذكرياته وتجاربه. والفن لابد أن يثير الدهشة والذكريات.
* الفن التشكيلى مظلوم فى بلادنا نتيجة عدم إدراك أهميته التى أدركها العالم المتقدم.
* الشعر المصرى الآن محروم من الغناء الجيد، ومن المتعة الفنية الذى نخلق منه إنساناً راقياً يُتقن ما يفعله.
* كنتُ فى لبنان سنة 1992، حيث اجتاحت إسرائيل بيروت، وكان رد فعلى إنجاز مائة رسمة لكِتاب حكاية وحكاية من الأدب العربى، من تأليف حسين أحمد أمين.
حلمى التونى وفلسطين
احتلت القضية الفلسطينية أولوية بارزة فى اهتمامات وأعمال الفنان التشكيلى المبدع الراحل حلمى التونى. وكان آخر منشور له على الفيس بوك فى منتصف يوليو الماضى عن فلسطين مصحوباً بعبارة: "عيوننا إليك ترحل كل يوم" من قصيدة زهرة المدائن، نظم وتلحين الأخوين رحبانى، وغناء فيروز.
ويقول حلمى التونى فى القلب من المشهد الفلسطينى تتربع المرأة الفلسطينية متوجة على عرش الشرف والصمود. وظهرت فى تكويناتى الثرية بنات يافا والخليل والقدس وغزة ورام الله وبيت لحم بالأزياء التقليدية المزخرفة المزركشة. يحملن البرتقال اليافاوى، ثم تحيط بهن مياه نهر الأردن وأشجار الزيتون والصبَّار والجوز. والمرأة الفلسطينة فى عالم حلمى التونى أمينة متشبسة بالحق، تدافع عن التاريخ والحاضر، مشاركة فى العمل الفدائى إلى جانب الرجل.
وعلى مدار 50 عاماً كرَّس حلمى التونى صورة المرأة الفلسطينية وأرض فلسطين كجزءٍ يعيشُ فيها شعب حر قادر على صُنع مستقبله انطلاقاً من تُراثه الكبير. وذلك بعد القضاء على احتلال غاصب لا جذور له فى هذه الأرض المقدسة.
احتفى حلمى التونى بالمقاومة رمزاً وتعبيراً ابتداءاً من مرحلة الثلاثينيات ضد الاحتلال البريطانى مروراً بنكسة 1948، ثم انطلاق العمل الفدائى من خارج فلسطين ومن داخلها، ثم أطفال الحجارة والانتفاضات المتتالية، وحتى المشهد الحالى بعد عملية طوفان الأقصى فى السابع من أكتوبر 2023.
وبحسه الفنى البديع عمد حلمى التونى إلى توثيق رموز المقاومة فنياً كما فعل مع مفردات التراث الشعبى الفلسطينى. فتجد فى لوحاته علم الثورة الفلسطينية، وعلامة النصر التى حولها الزعيم الراحل ياسر عرفات إلى أيقونة ومفتاح الدولة وأغصان الزيتون وميزان العدالة إيماناً من إنسانية العدالة والقضية، فضلاً عن وطنيتها وبُعدها الهويات.
وزير الثقافة والتونى
بعد رحيله عن الدنيا قال وزير الثقافة الدكتور أحمد فؤاد هنو ناعياً الفنان حلمى التونى فى بيانٍ له إن الراحل كان أحد حُراس الهوية المصرية. وشكَّل وجدان جيل بأكمله بأعماله الخالدة ليرحل تاركاً بصمات لن تُمحى من خلال أعماله المتميزة التى أسهمت فى إثراء الثقافة المصرية على مدار عقود.
الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية نعت الفنان الكبير حلمى التونى، ووصفت المتحدة الراحل بأنه أثرى الفن بأعماله التى ساهمت فى تشكيل وجدان أجيالٍ كاملة. كما تقدمت الشركة المتحدة بخالص العزاء لأسرته.
وحلمى التونى من مواليد محافظة بنى سويف فى أبريل 1934، حصل على بكالوريوس الفنون الجميلة عام 1958، تخصص فى الديكور المسرحى، كما درس فنون الزخرفة والديكور. وأقام العشرات من المعارض القومية الفردية فى مصر والوطن العربى، كان آخرها بعنوان يحيا الحُب فى الزمالك فى مارس 2024، أى قبل رحيله بأيام. كما شارك فى العديد من المعارض الجماعية المحلية والدولية.
حصل الراحل على العديد من الجوائز المحلية والدولية بينها جائزة سوزان مبارك الأولى للرسم للأطفال، وجائزة يونيسيف مناصفة للعام الأول للطفل، وكان ذلك سنة 1979.
قالوا عنه
قال عنه الفنان صلاح بيصار: حلمى التونى آخر فرسان الفن الصحفى. وأضاف إضافة مهمة لهذا الفن فى المجلة والصحيفة والكتاب بين الإخراج والرسوم بمساحات مختلفة. كما ساهم فى الارتقاء بكتاب الطفل العربى فى الرسم والإخراج ودور النشر المختلفة. وهو مُصوِّر مُجرِّب فى فضاء التصوير. كانت له لغته الخاصة. جمع فيما جمع بين التعبيرية والسيريالية، امتدت فى مراحل كثيرة واتجاهات متعددة.
لعل أجملها ما قدمه من أعمال روح الفن الشعبى فى معزوفات مصرية بأوتارٍ شعبية إلى حواراته البصيرة مع الفن المصرى القديم والفن الحديث.
قالت عنه الناقدة إلهام الكردوسى: لا ينضوى الفنان الكبير حلمى التونى تحت لواء مدرسة فنية بعينها، لكنه يملك أسلوباً خاصاً ظهر جلياً فى أعماله الفنية، وفى أغلفة الكتب العديدة التى صممها، والتى بلغت ما يزيد على ثلاثة آلاف كتاب. حيث تمكن خلالها من التعبير عن الهوية المصرية بتنوعها وثرائها، وعبَّر بخطه وألوانه عن التراث الحضارى للشخصية المصرية.
رحم الله حلمى التونى رحمة واسعة، وما زال لدىَّ الكثير الذى يمكن قوله، فقد كان مُعاصراً وصديقاً وحنوناً وإنساناً من النوع النادر، وصمم لى تطوعاً وتبرعاً أغلفة كتب كثيرة.