سمع سيف طلقاتُ نارٍ، فقام من نومه فزعًا، توالت الطلقات طلقة تلو طلقة، تلو طلقات متعددة، وقف أمام شرفة منزله، يتفحص الشارع الواسع الممتد من بداية المدينة واصلًا إلى البحر، سحب متقطعة تأتي كل حين من عالم المجهول خلف البحر، الشارع يخلو من المارة إلا كلابٌ منطلقةٌ مسرعةٌ، تساقُ إلى الموت.
بدا على الملأ البعيد حشود ترتدي ماسكات سوداء على الوجوه، ويمسك كل منهم بنوع من الأسلحة لا يعرف منها سيف إلا صوته، سيف يهرول إلى غرفة زوجته وابنه وبنته، الزوجة استيقظت، صوت الرصاص في كل حدب وصوب، لقد دخل المغتصبون الأرض، ولا بد من الفرار إلى أقرب مكان؛ حتى نستطيع العودة إلى مصر.
الزوجةُ كانت مستعدةً وجهزت شنطةً صغيرةً بها بعض الملابس الداخلية، وطقم كامل لسيف للخروج، وبعض ملابس أطفالهم، وبسرعة أخذ سيف ابنته من على السرير، وهي مغطاة ببطانية أطفال صغيرة.
أسيل تلك الفتاة ذات الملامح المصرية الجميلة، كلما نظر سيف في وجهها يشعر بأملٍ غريبٍ، كأن هذه الطفلة الصغيرة سياجٌ واقيٌّ ضد العولمة التي أكلت كل تراث الأمة.
يسرح دقائق في خياله، ما الذي حملك يا سيف على ترك بلدتك والسفر لهذه البلاد الغريبة، الحصول على حرف "د" قبل اسمك، دكتور سيف المصري الحاصل على دكتوراة في إدارة الأعمال من إنجلترا.
يجري الأب مهرولًا يحمل ابنته على يديه كالملاك، فتحت عينيها من الخوف، ثم عادت مطمئنة بعد أن صافحت عينها عين أبيها، تحمل الأم الابن محمد ومعه شنطة صغيرة قد وضعت بها بعض الحلوى، وعصائر يحبها محمد وأسيل، والفيل اللعبة المحببة لهما.
سيف يصيح انطلقي، الوقت، المسلحون في كلِّ مكانٍ، تعود الأمُّ مسرعةً إلى الغرفة لإحضار شنطة صغيرة بها الهواتف، سيف: ماذا تفيد الهواتف في وقت الموووت؟!!!!!!
تعود مسرعة إلى السيارة، الأب وضع الطفلين في مقعد السيارة الخلفي، وربط عليهما حزام الأمان، وركبت الزوجة بجواره وانطلقوا في الشارع الرئيسي باتجاه محطة القطار في نهاية المدينة بجوار المدخل الصحراوي البحري.
قوات الأمن تحاول السيطرةَ على الوضع، أصوات الرصاص ودوي القنابل في كل مكان، صورة الموت تلوح في كل مكان، في كل شجرة يتدلى منها الموت، الخوف يحيط بالسيارة، الطفلان نائمان، الأم تمسك يد زوجها، سيف ينطلق بسرعة يحاول سباق الزمن، يحاول تخطي الخطر بل تخطي عقارب الثواني، الذي يهرول في طوافه حول الموت.
استيقظت «أسيل» وهي ممسكة بيد أخيها، وفتح عينه وبدأ يغني أغنية أجنبية تعلماها من المدرسة، العولمة سيطرت عليهم، حتي في طعامهم، أين فطور الفول المصري الشهي؟!، أين عيش فرن عم حسين، وطعم خبزه الساخن؟ لِم تغربنا عن الوطن؟!!!.
كل ذلك يدور بخلد سيف، ويسمع دوي انفجار شديد، ولا يشعر بشيء غير ارتطام معدني شديد، السيارة تنقلب عدة مرات، يشعر بسخونة شديدة، السارة تحترق، يد زوجته الخشن من غسل الأطباق يقبض على يده، ينظر مسرعا على «أسيل» تحاول الانفلات من حزام الموت (حزام أمان السيارة)، أخوها يغمض عينيه، تحاول الإفلات من هذا الحزام العنيد، الأب يحاول مساعدتها لكن شيئا معدنيًّا ثقيلا يمنعه من الحركة.
تتمكن «أسيل» من فك الحزام، تصرخ في وجه أخيها، لكن دون جدوى، قد أغمض عينه إلى الأبد، بعدما سلبت روحه قذيفة من أصحاب الرايات السوداء المنتشرة في كل ركنٍ في المدينة.
تحاول «أسيل» مساعدة أبيها، تخبط بيدها الصغيرة على مقابض الباب، وتحاول مساعدة أبيها، و«سيف» يصرخ: انطلقي بعيدا، اذهبي بعيدا، دقي أول باب يقابلك، ادخلي مع أهله، وحاولي أن تهربي معهم، البنت تلقي نظرات على الأب المحجوز في السيارة تحت الثقل الحديد، وعلى أخيه الذي تحول غبارًا أسودًا في المقعد الخلفي، الأم التي لم تر منها شيئًا غير يد تمسك يد أبيه، تجري تتبعها عيون الأب مودعة، تغيب عن الأفق «أسيل».
يصل إلى قلبه دقات ابنته باب سيدة جميلة، تحتضن الفتاة وتهدئ من روعها، وسط شهيق وزفير شديد من «أسيل»، يغمض الأب عينه في محاولة لاستجلاب سلام مفقود في دنيا الناس.
يفتح سيف عينيه على صوت شديد يقول:
"تحيا جمهورية مصر العربية
تحيا جمهورية مصر العربية
تحيا جمهورية مصر العربية
ثم بلادي بلادي بلادي، لك حبي وفؤادي"
وضوءٍ شديد يداعب عيونه، ويلعب الأطفال بجوار «سيف»، تأتي «أسيل» تحتضنه وهو نائم، فيما يداعب قدمه طفله الصغير محمد، يقوم «سيف» غير مصدق ما حدث، يفتح شرفة الشقة، يرى علم مصر يرفرف على ساري مبنى المدرسة المجاورة لسكنه والأطفال يرددون النشيد الوطني.
يخرج إلى صالة شقته مسرعًا يجد زوجته قد أعدت وجبة الفطور الخاصة بهم "الفول المصري اللذيذ، والبيض والجبن".
يطلق «سيف» تنهيدةً طويلةً كليل الشتاء، وينفث عن يساره ثلاثًا، ويستعيذُ بالله من الشيطان الرجيم من شرِّ ما رأى، يتمنى لو أن كلَّ حرب تصير كابوسًا، ويستيقظ منها الناسُ.