اختارت الأديبة العربية مي زيادة لنفسها مكانة عظيمة في تاريخ الأدب العربي بالنصف الأول من القرن العشرين، وهي إحدى الشخصيات النهضوية النسائية البارزة في تاريخ الحركة النسائية، منذ وفاتها والعديد من النقاد والباحثين والمبدعين من مختلف الدول العربية يتناولون سيرتها بالبحث والتحليل، فلا يكاد هناك بلد عربي إلا وفيه باحث أو ناقد تناول سيرتها وأعمالها الأدبية ليبقى أثارها حاضرًا في المشهد الثقافي العربي.
فراشة الأدب العربي كما يحلو للبعض أن يلقبوها، نحت الأدب شخصيتها، واشتهرت بقلمها السّيال، فزاحمت كبار الكتّاب والأدباء المصريين، وهام بها الشعراء، لكنها تعلقت بجبران خليل جبران، وعاشت من دون زواج.
وُلِدت ميّ زيادة في فلسطين بمدينة الناصرة عام 1886، وحَظيت باهتمام كبير من والديها كونها الابنة الوحيدة لهما بعد وفاة أخيها، وبعد دراسة ميّ بدير المدينة التحقت بمدرسة راهبات عينطورة لتدرس في القسم الداخلي بين عاميّ 1903 -1900م وتتعرف من خلاله على الأدب الفرنسي.
وإلى جانب اهتمامها بدراسة اللغة العربية، وتعلّم الّلغات الأجنبيّة، تميّزت ونشرت أولى مقالاتها الأدبية في السادسة عشرة، بالإضافة إلى جوانب أخرى تتعلّق بالفنّ، والغناء والموسيقى، حيث تعلّمت العزف على آلة البيانو، وقرأت أشعار الصوفيين وحفظت الكثير من أشعار الفرنسيين إلى أن تخرّجت في مدرسة الراهبات.
وفي عام 1908 انتقلت مع أسرتها للإقامة في القاهرة، فدخلت الجامعة المصرية عام 1916م، ودرست الفلسفة والآداب وأتقنت اللغة الفرنسية والإنجليزية والإيطالية والألمانية، وكانت معرفتها بالفرنسية هي الأعمق، حيث كانت بدايات نشرها بتلك اللغة في القاهرة، وعملت بالتربية والتعليم ودرست اللغتين الفرنسية والإنجليزية، ثم تابعت دراستها للألمانية والإسبانية والإيطالية، وعكفت على إتقان اللغة العربية في ذات الوقت.
ووُلدت لدى زيادة فكرة إنشاء صالونها الأدبيّ الخاص بعد أن تخرّجت في كلية الآداب بالقاهرة، وكانت تعقدهِ كل ثلاثاء من كل أسبوع، وكانت فَترة تَحوّل جَذريٍ شامِلٍ في جميع مناحي الحياة بَعد الدَّعوة إلى الاستقلال السياسي، وظُهور الرَّغبة المُلحّة في الحرية والمساواة والدعوة إلى تحرير المرأة في 1913، حيثُ وَقفت في خطاب لأول مَرة في بهو الجامعة المصرية لإلقاء كَلمة جبران خليل جبران، نيابةً عنه اشتراكًا في تَكريم الشاعر خليل مطران، وفي نهايةِ الكَلمة وَجّهت الدَّعوة لِعقد صالون أدبي في مَنزِلها، فلاقت تشجيعًا كبيرًا من الحاضرين، واستقطبت فيه المفكرين والكتاب والشعراء، ونَوعياتٍ مُختلفة مِن عليّة القَوم والأثرياء والأدباء المعدومين.
وتعد الأديبة ممن أبدعوا في الصحافة، فنشرت مقالاتها النقدية والاجتماعية وأبحاثها في الصُحف والمجلات المصرية ومنها صحيفة "المحروسة" التي كان لها فيها باب خاص وثابت عنوانه "يوميّات فتاة" استعرضت من خلاله مقالاتِها وكانت توقع في نهايته بأسماء مُستعارة، كما ابتَكرت بابًا جَديدًا في صَحيفة "السياسة الأسبوعية" عنوانه "خلية النحل"، وكانَ هذا الباب قائماً على أساس الأسئِلة والأجوِبة الصّادِرَة ممّن يُريدُ من قُرّاء الصّحيفة أن يَسأل سُؤالاً أو يُجيبَ عَلى سُؤال مَطروح، وساهم في زيادة إقبال الفِئة الشّبابيّة عَلى القِراءة، وبعد هذا الباب فضلت مي زيادة الكتابة الحرة، فنشرت مقالتها في المقطم، والأهرام، والزهور، والمحروسة، والهلال، وعبر مسيرتها الإبداعية كان باكورة أعمالها في 1911 ديوان شعر كتبته باللغة الفرنسية بعنوان "أزاهير حلم"، ويعد أشهر ما صدر لها كتاب "باحثة البادية" عام 1920، و"كلمات وإشارات" عام 1922، و"المساواة" و"ظلمات وأشعة" عام 1923، و"بين الجزر والمد"، و"الصحائف"عام 1924.
كتبت مي زيادة بهذه اللغات المتعددة في الصحف حول قضايا الثقافة، ونهضة النِّساء العرب والشرقيات عامة وحول اللغة العربية ونهضة الأمم الشرقية، وأكسبها اطّلاعُها الواسِع عَلى التّراث العَربي، والأدب الأوروبي فصاحةً وتعبيرًا واضحًا، ومنحها الترحال ثقةً عاليةً بِنفسها، ومَعرفة عَميقة بِمعاناةِ المجتمعات وحاجاتها وأحوالها، وفتحت لها الصحافة أبواب التعارف مع صحفيين ومفكرين وأدباء عظام في مصر ولبنان وفلسطين.
وتأثرت زيادة بأسلوب عَدد مِن رائِدات النّهضة وروّادها ومن بين هؤلاء أحمد لطفي السيد "أستاذ الجيل" وكان أستاذًا للدكتور طه حسين، وترددا إلى صالون ميّ الأسبوعي.
كما تأثرت بغارس الخوري، وفخري البارودي، وخليل مردم، وخليل مطران، وأحمد حسن الزيات، وتوفيق الحكيم، وروز اليوسف والدكتور أنيس المقدسي، وجبران خليل جبران، وعباس محمود العقاد، وبأسلوب الشيخ مصطفى عبد الرازق ومصطفى صادق الرافعي ونثره المتقن.
وكان لمي زيادة دور بارز في الدِّفاع عَن حقوق المرأة المطالبة بالمساواة فاستحقّت أن تكون رائِدة مِن رائدات النَّهضة النِّسائية العَربيَّة الحَديثة، فاطلعَت عَلى تاريخ في الفَترة التي سَبَقت سَجنها وأكثرت من الكِتابة والمحاضرات والندوات للمطالبة بحقوق المرأة، وطالبت بانصاف المرأة وتحررها على ألا تخرج من قيود المعقول والمقبول، ورفضت أن تعيش المرأة أشد أنواعِ الاستِغلال، وقد برز الدّفاع عَن حقوق المرأة في كتابها "المساوة" بالإضافة إلى كُتبها عَن رائِدات التنوير من السّيدات، فَكتبت عن عائشة التيمورية ووردة اليازيجي.
وقدرت زيادة مُبادرة الرجل في المُناداة بتعليم المَرأة في عصرهم، لكن رأيها أن من يُحرّر المرأة هي المرأة ذاتها، حيث تناولت مي الحرية بصورة أكثرعمقًا، فلم تحث المرأة على المطالبة بحقوقها وحسب، بل على إدراكِ واجباتها والتّمسك بها وتَطوير أساليب التعامل فيها كي تحقق حُقوقها، فالحرية لدى المرأة بحسب مي تتكوّن من عُنصرين أساسيين التّعليم والعمل، التعليم الّذي يُسهم في تثقيفها وارتقائها الفكري والعلمي وتهذيب طباعها وتَنمية مواهِبها، والعَمل الذي يحقق حريتها بمعناه العميق.