بمناسبة الذكرى الـ110 لرحيل عملاق الأدب والفكر العربي، جرجي زيدان، تقوم "بوابة دار الهلال" بإعادة نشر مذكراته الشخصية، هذه المذكرات القيّمة، التي خطها زيدان بقلمه، سبق أن نشرتها مجلة الهلال على سبعة أجزاء متتالية في أعدادها الشهرية، بدأ نشرها في الأول من فبراير 1954، واستمر حتى الأول من سبتمبر من العام نفسه، مما يتيح الآن فرصة جديدة للقراء للاطلاع على هذه الوثيقة التاريخية الهامة في سيرة أحد أبرز رواد النهضة العربية.
هذا هو الفصل الخامس من هذه المذكرات القيمة، وهي كما يرى القارئ درس لشباب الجيل في العصامية، وقد وقف مؤسس الهلال في الفصل الرابع عند أمنيته وهو صغير في أن يصبح من أهل العلم، وفي هذا الفصل يروي كيف تحققت له هذه الأمنية.
الفصل الخامس: جمعية شمس البر
وكنت أحضر احتفالات جمعية "شمس البر" وهي فرع من جمعية "الشبان المسيحيين" في إنجلترا، وكانت آهلة بالأدباء، وأكثر أعضائها من تلامذة المدرسة الكلية. وفيها تلقى الخطب والمباحثات، وكان لي أصدقاء بين أعضائها، فشجعوني على الانتظام فيها، وعددت ذلك فضلا كبيرا لهم، كما عددت انتظامي فيها شرفا كبيرا لي، لأني لم أكن أرى لشيء في الدنيا ما للعلم من قيمة
وكان من أعضاء هذه الجمعية الدكتور "اسكندر البارودي" - وهو يومئذ طالب في مدرسة الطب - وفضله عليّ كبير، لأنه هو الذي أجلسني على أبواب العلم وقدمني لعالم الأدب، وله مقام رفيع لدى معارفه، فقد كانوا يجلونه، ويعملون برأيه، وقد عرف في ذلك الحين باسم "المعلم اسکندر" لأنه كان يعلم في بعض المدارس قبل أن يدخل مدرسة الطب، فبقى ذلك اللقب غالبا عليه بعد أن دخله.
وكان زملاؤه وأساتذته فيها يحبونه، ويشيدون بنشاطه وذكائه، فلا عجب أن حل من نفسي منزلة رفيعة، واتخذته مثلا لما ينبغي أن يكون عليه الشاب المجتهد الأديب وما زلت أزداد بذلك كله رغبة في طلب العلم، ثم حدثت والدي برغبتي هذه فقال لي: "افعل ما تراه موافقا لك.. ولما علمت والدتي بعزمي على ذلك فرحت كثيرا وشجعتني على ما أريد، لكنني مع ذلك لم أجد وسيلة إلى ترك عملي مع والدي، إذ كان يرى أن ذلك قد يؤدي الى خسارة محله وغلقه، فيغلق باب رزق الأسرة، وفكرت فيما أرجوه من ثمرة تعلمي، وقلت لنفسي: إنني بعد تخرجي في المدرسة الكلية قد أشتغل بالتعليم، وفي هذه الحالة يتراوح مرتبي بين مائتي قرش وثلاثمائة قرش، وهو مرتب لا بأس به (في ذلك العهد) ولكني بدأت أتراجع وأفكر باحثا عن وسيلة أفضل، ولما كان لي أصدقاء كثيرون من طلبة الطب، فقد فكرت في أن أدرس الطب مثلهم، لأنني بعد تخرجي طبيبا أستطيع بمزاولتي لمهنة الطب أن أكسب ما أعيش به أنا وأهلي، وقد سرني كثيرا أن اهتديت إلى هذه الفكرة، وأنا أجهل يومئذ ما ينبغي أن أعرفه قبل دخولي مدرسة الطب.
واتفق في ذلك الحين أن وفقت إلى مخرج حسن من هذا المأزق الأخير، وذلك أن والدي اتفق في تلك السنة مع صديق له من أبناء مهنته يدعى (حنا الزيلع) على اشتراكهما في افتتاح فندق للنوم ملاصق لمسرح سورية، وابتاعا الأسرة والأدوات اللازمة لهذا الفندق، وهذا العمل الجديد لا يحتاج إلى جهد كبير، ولا إلى معرفة بالقراءة والكتابة، وإذن يستطيع والدي أن يستغنى فيه عن خدماتي.