عاد إضراب الجرارات مرة أخرى إلى القارة الأوروبية، إذ شهدت فرنسا أول أمس الأثنين، موجة واسعة من الاحتجاجات التي نظمها المزارعون اعتراضًا على اتفاقية التجارة بين الاتحاد الأوروبي وتكتل ميركوسور، الذي يضم دولاً من أمريكا الجنوبية، وانطلقت هذه الاحتجاجات في جميع أنحاء البلاد، متضمنة تجمعات حاشدة أمام مقرات حكومية وإغلاق طرق رئيسية، في مشهد يعكس استياء القطاع الزراعي الفرنسي من هذه الاتفاقية المقترحة.
منتجات رخيصة في الطريق لفرنسا.. أسباب الاحتجاجات
تأتي هذه الاحتجاجات على خلفية مخاوف متزايدة من أن الاتفاقية ستؤدي إلى تدفق كميات كبيرة من المنتجات الزراعية الرخيصة مثل لحوم البقر والدجاج والذرة من دول ميركوسور، حيث يتم إنتاجها وفق معايير بيئية وتنظيمية أقل صرامة مقارنة بالاتحاد الأوروبي.
استخدم المزارعون الفرنسيون أساليب رمزية لإيصال رسالتهم، مثل قيادة الجرارات لإغلاق الطرق الرئيسية وإشعال ما أطلق عليه "نيران الغضب"، ففي منطقة إيل دو فرانس، تسبب إغلاق أجزاء من الطريق السريع RN118 في ازدحام مروري كبير، مما دفع السلطات المحلية لتحذير السائقين من الاقتراب من المنطقة.
وعلى الجانب الأخر في أفينيون، تجمع العشرات من الجرارات والمئات من المزارعين على جسر بونت دو لاروب، مشيرين إلى أن هذه الخطوات التصعيدية تعكس إحباطهم العميق مما وصفوه بـ"الاتفاقية غير المتوازنة".
ويرى المزارعون الفرنسيون أن هذه الواردات ستؤدي إلى انخفاض كبير في دخولهم، مما يشكل تهديدًا مباشرًا لسبل عيشهم، وأرنو روسو، رئيس اتحاد المزارعين الرئيسي في فرنسا، وصف الاتفاق أنه يعزز عدم التوازن في القطاع الزراعي الفرنسي.
وأكد في تصريحاته لوسائل الإعلام المحلية أن المزارعين يواجهون بالفعل تحديات اقتصادية كبيرة، منها اللوائح البيئية المشددة وتكاليف الإنتاج المرتفعة، وهو ما يجعل الاتفاقية بمثابة ضربة قاصمة للقطاع.
الرئيس الخائن.. انتقادات المعارضة السياسية لماكرون
أكد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون معارضته للاتفاقية بصيغتها الحالية، وفي اجتماع مع الرئيس الأرجنتيني خافيير ميلي خلال جولته في أمريكا اللاتينية، شدد ماكرون على ضرورة التزام دول ميركوسور بنفس المعايير البيئية والصحية المفروضة داخل الاتحاد الأوروبي.
ومن جهة أخرى، انتقدت المعارضة السياسية تعامل الحكومة مع الأزمة، حيث اتهم نائب رئيس حزب التجمع الوطني، سيباستيان تشينو، الرئيس ماكرون بـ"خيانة المزارعين"، واعتبر أن الحكومة لم تتخذ خطوات كافية لحماية القطاع الزراعي الفرنسي من المنافسة غير العادلة.
اتفاقية الاتحاد الأوروبي وميركوسور
تهدف الاتفاقية إلى إنشاء أكبر منطقة تجارة حرة في العالم، تغطي نحو 700 مليون نسمة، من خلال خفض التعريفات الجمركية وتوحيد اللوائح، لكن الاتفاقية أثارت مخاوف طويلة الأمد لدى المزارعين الأوروبيين، خصوصًا في فرنسا، بسبب التفاوت الكبير في معايير الإنتاج الزراعي بين الاتحاد الأوروبي ودول ميركوسور.
يعارض المزارعون الفرنسيون الاتفاقية بشدة، ليس فقط بسبب تدفق الواردات الرخيصة، بل أيضًا بسبب التفاوت في القيود المفروضة على استخدام المبيدات الحشرية والهرمونات، وفي حين وافق الاتحاد الأوروبي على تأجيل تنفيذ قانون مكافحة إزالة الغابات لإعطاء الشركاء في أمريكا الجنوبية وقتًا للتكيف، بينما يرى المزارعون الفرنسيون أن هذه الخطوة تعكس تهاونًا في تطبيق القواعد البيئية.
وتأتي هذه الاحتجاجات في سياق سلسلة من الأزمات التي واجهها القطاع الزراعي الفرنسي، منها تراجع المحاصيل بسبب الظروف الجوية القاسية، وتفشي أمراض الماشية، وتأخر الإجراءات الحكومية لدعم المزارعين، وفي احتجاجات سابقة أوائل عام 2024، أغلق المزارعون الطرق السريعة بالجرارات لأيام عدة، مما تسبب في شلل مروري واسع.
مطالب المزارعين
يطالب المزارعون والنقابات الزراعية بإدخال تعديلات جوهرية على الاتفاقية، تشمل فرض "بنود المرآة" التي تلزم دول ميركوسور بالالتزام بنفس المعايير البيئية والصحية المفروضة في الاتحاد الأوروبي، ويأمل المزارعون أن يتمكن الضغط الشعبي والسياسي من تعديل مسار الاتفاقية بما يحقق العدالة للقطاع الزراعي الفرنسي.
ويعد تكتل ميركوسور (Mercosur) تكتل اقتصادي وتجاري إقليمي في أمريكا الجنوبية، تأسس في 26 مارس 1991 بموجب "معاهدة أسونسيون"، بهدف تعزيز التكامل الاقتصادي والسياسي بين الدول الأعضاء، ويتكون ميركوسور من أعضاء دائمين وأعضاء مشاركين. الدول المؤسسة والأعضاء الدائمون هم: الأرجنتين، والبرازيل، أوروغواي، باراغواي، وكانت فنزويلا قد انضمت رسميًا في عام 2012، لكنها علقت في عام 2016 بسبب انتهاكات سياسية تتعلق بالديمقراطية وحقوق الإنسان، وبينما تشمل الدول التي ليست أعضاء دائمة لكنها تتعاون مع ميركوسور عبر اتفاقيات خاصة: بوليفيا وتشيلي، كولومبيا، الإكوادور، بيرو.
ويهدف هذا التكتل إلى تعزيز التجارة الحرة بين الدول الأعضاء من خلال إزالة الحواجز الجمركية وغير الجمركية، تنسيق السياسات الاقتصادية، بما في ذلك السياسات المتعلقة بالتجارة والزراعة والصناعة والطاقة، تعزيز التكامل السياسي والاجتماعي، مع التركيز على التعاون في القضايا الإقليمية مثل الهجرة والتعليم، زيادة القدرة التنافسية الإقليمية من خلال توسيع السوق المشتركة وخلق فرص استثمار جديدة.
ويذكر أن القارة الأوروبية قد شهدت في أوائل عام 2024 تصاعدًا كبيرًا في احتجاجات المزارعين، حيث انتشرت المظاهرات في فرنسا، ألمانيا، بلجيكا، هولندا، إسبانيا، إيطاليا، ورومانيا، وتركزت الاحتجاجات على قضايا عدة: مثل خفض استخدام المبيدات الحشرية وتطبيق معايير بيئية أكثر تشددًا، مما يزيد من تكاليف الإنتاج، وإصلاح ضريبة الديزل في ألمانيا، التي أثرت بشكل كبير على تكلفة تشغيل المعدات الزراعية.
هذا وبالإضافة إلى المنافسة غير العادلة، خاصة في بولندا، حيث احتج المزارعون على استيراد الحبوب الأوكرانية بأسعار منخفضة، وعلى جانب آخر، في دول مثل اليونان وإيطاليا، طالب المزارعون بزيادة الدعم الحكومي لتعويض خسائرهم.
انتشار الاحتجاجات في أوائل 2024
في فرنسا، وافقت الحكومة على تأجيل خطط لتقليل استخدام المبيدات الحشرية وأعلنت حزمة دعم بقيمة 400 مليون يورو، وفي إيطاليا، نظم المزارعون مسيرات واسعة طالبوا خلالها بلقاء رئيسة الوزراء جورجيا ميلوني، رغم عدم استجابة الحكومة حتى الآن، وبينما وعد الاتحاد الأوروبي بتبسيط الإجراءات الإدارية المرتبطة بالسياسة الزراعية المشتركة (CAP) لتخفيف الأعباء عن المزارعين.