يتردد صوت فيروز «كانوا يا حبيبي.. ثلج وصهيل وخيل ... مارق عباب الليل وكانت أصواتن تاخدنا مشوار، صوب المدى والنار».
لطالما سألني أصدقاء غير لبنانيين: "مين اللي كانوا، ومن تقصد فيروز بـ كانوا"، لم أفكر في الأمر إلا حين سُئلت عنه، وأذكر أنني في كل إجابة لي كنت أبتدع أناسًا ما، ليكونوا هم الذين تقصدهم فيروز، ولم أحس أبدًا أنني بذلك أزور التاريخ، أو أنسب لفيروز والرحابنة شيئًا لم يقصدوه، إذا لطالما ظلت فيروز بالنسبة للبنانيين إرثًا وطنيًّا لا خلاف عليه، فيروز التي ظل الجميع في زمن الحرب الأهلية، متفقين على أن يبدأوا صباحهم بها، لذا ظلت تلك القديسة التي تمسح أحزان الجميع، ويطرق بابها الجميع، لتفتح لهم، وهي تغني "يا قلبي لا تتعب قلبك".
وفيروز التي احترفت الحزن والانتظار لأعوام طويلة، تنتظر آتيًا لا يأتي، عابرة من بوابة الدموع إلى صقيع الشمس والبرد، ظنًّا منها أنها وحدها في زاوية الحنين، لا تدرك أنها بشالها الأثيري، وسحرها الغامض، بارتجافاتها التي تترك ظلًّا منها على الأرض، تستوطن تلك الأرض، وقلوب سكانها الذين يرددون بفرح طفولي عابث "يا قمر مشغرة، يا بدر وادي التيم، يا جبهة العالي، ومسورة بالغيم، قولوا إن شاء الله القمر، يبقى مضوي القمر، لا يطال عزة حدا ولا يصيب وجهه) ضيم"؛ وكأنها بهذا الدعاء الذي تردده هي لقمر مشغرة، يردده الجميع مرة أخرى لها.
يتمكن المسافر، الغريب، من رؤية وجه فيروز الحقيقي أكثر في عيون محبيها، يتمكن اللبناني البعيد عن البحر والجبل، الذي لا يصادفه صوت فيروز إلا لمامًا في تلك البلدان التي يعيش فيها، من معرفة كيف يرى غير اللبنانين فيروز أكثر، وتغدو الصورة أكثر حزنًا، عندما تصبح فيروز طرفا فقط في معادلة الجبل والبحر، وبيروت.
فيروز العرافة المتشحة بالأبيض لطالما ظلت رمزًا لحب غائب، وألفة يبحث عنها الجميع، بشموخها الذي لا ينكر: "أنا فزعانة تقوم عنجد تنساني... يمكن حبك جد بس أنا فزعانة"، من هنا يبدو من العسير على غير المنتمي لبلدان الشام أن يتلقى فيروز بدقة المتعايش اليومي مع أغنياتها، تبدو الصور المركبة في أغانيها أيام الرحابنة مشوبة بالغموض، والإرباك للمتلقي الذي لم يعتد سماعها، وتمر الصور متجاوزة للحكاية التي تحملها، كما في أغنيات "طريق النحل"، "بعدك على بالي"، "نطرونا كتير"، "سمرا يا أم عيون وساع"، وغيرها الكثير.
في خجل مراهق، تجلس فيروز في القهوة البحرية، قريبًا من الشاطئ، لا تشرب القهوة، لأن فنجانها مكسور، تكتفي بتأمل حبيبها المأخوذ بالموج، الحبيب الذي كتبت اسمه على الحور العتيق، وكتب اسمها على رمل الطريق، لا تهمس بشوقها له، وتكتفي بأن تشرب من عينيه، ناقلة بصرها بين الموج الأزرق، وعينيه اللاهيتين عن سؤالها "لو بعرف حبيبي بتفكر بمين"، ترحل هي تاركة الحبيب وحيدًا، تسير في شوارع بعيدة، يتبعها صدى عميق يكشف عن حزن أزلي يصدح "الله معك يا هوانا يا مفارقنا"، وهي إذ تنأى بجراح روحها الشقية تركض بعيدًا، فلا تلتفت إلى الوراء، ولا إلى صوت يهمس لها: "بحبك حتى نجوم الليل نجمة ونجمة توقع"، لا تثق بكلمات هذا العاشق الراحل دومًا، لأنها توقن أن الحب "رح يخلص كالأحلام"، وأن القلب عندما يتذكر الوعد سيسخر بوجع من النجوم التي انطفأت، آخذة معها بريق حب خبا.
وفيروز الدافئة التي تأتيك برعشة برد عندما يهلل صوتها: "رجعت الشتوية... ضل أفتكر فيي.. رجعت الشتوية"، تعرف سر الحكاية، وأن الأحباء "تحت الشتي تركوا بعضن"، وأنهم سيبقون "وحدن مثل زهرة البيلسان"، تلك المرأة التي انتظرت في مواسم العصافير كل مواعيد الأرض، وتركت قلبها مشرعًا على المدى، لتردد "شايف البحر شو كبير.. كبر البحر بحبك"، ستسمع صوتها كلما سرت على كورنيش بحر بيروت، وستجد أيضًا شريطًا لها مع سائق تاكسي عجوز، هي المتغربة مع قصص الريح، مع الحزن، والزهر، والصيف والبحر، ستجبرك على الانتظار معها أيضًا، وهي تحكي لك قصة شادي الذي ذهب مع الثلج، ولم يرجع، هذه المرأة التي دقت على الشباك ليطل الورد، وتسأله عن الحلوة الغائبة، تعرف جيدًا أنها وحدها ستبكي مع الورد، وأن ما من أحد سيشاركها حكاية حلوة الحلوين التي خطفها الموت، هي التي تُذكر الورد بطول الحكاية التي رحلت صاحبتها، تاركة عطرًا ما في هذا الكون.
فيروز التي تجعلنا في حالة تساؤل دائم عمن يقتل الآخر، الوقت أم الحب، لم تتعال أبدًا عن ذاك الانتظار الدائم الذي تمارسه، هي رهينة للزمن، للانتظار، تقرع الأبواب ولا تجد أحدًا، تمر بالشوارع بالمقاهي، وكلها يقين، أن الشوارع ربما لن تعرفها لأنها كبرت وهي بعيدة عنها.
تلك المرأة الثمانينية الشــــابة، الطفلة، التي تهلل بتمرجح بقلبك، وهي تسعى لتحلق إلى أعلى لترى القمر عبر أرجوحتها. تلهو تحت المطر بصخب كرنفالي لا تخجل منه، تعلن بلا مواربة: "أديش كان في ناس، عالمفرق تنطر ناس، ويحملوا شمسية، وأنا بأيام الصحو ما حدا نطرني"، هذا هو الانتظار الدائم الذي يسحب فيروز إليه لتهتف: "نطرت مواعيد الأرض وما حدا نطرني وصار لي شي مية سنة مشلوحة بهالدكان، ضجرت مني الحيطان"، إنه عتاب موغل في غربته لأناس لن يأتــوا، واكتفوا بأن يجعلوا منهـــا امرأة تنتظر مواعيد الأرض على "موقـــف دارينا"، إنها تمارس هذا الانتـــظار بلا غرور أنثوي مراوغ ومترفع، تـؤلف العناوين لمن غابوا.. وعناوين أخرى مجهولة، وتغني لأنها لا تريد أكثر من البوح، البوح والقول إنها وحيدة بلا منتظر، هي التي تنتظر دائمًا، وكأن الانتظار صار عندها لذة ممتعة، يشوبها غموض المجهول، جماله ورونقه، تنتـــــظر الأشياء والأيام، وليالي الشمال الحزينة، هي عصفورة الساحات المنذورة للغيم والطرقات، تحكي قصة "أبواب أبواب، شي غرب، شي صحاب، شي مسكر، شي ناطر، تايرجعوا الغياب".
هذا الانتظار الصوفي، المباح به، والمتورد بخجل في سماء رمادية، يتحول مع فيروز من انتظار مرهق في ماديته، إلى كيان يصخب بالحنين والحب، الحب الدائم الذي أعطته فيروز للعالم، وظلت هي في عزلتها تنتظر.
إن ربط فيروز بشخصها وأغنياتها بالهوية اللبنانية بالبحر والجبل بالضيعة العتيقة الأصيلة، وبالحنين، لا يأتي سوى من منبع واحد، هو يقين من عرف هذه الأماكن، من مدى الصدق الذي تحكي عنه، هذا الصدق المتجلي في محبة هذه البقعة الصغيرة من العالم "لبنان"، و"بيقولوا صغير بلدي"، حيث تم التعبير عنه واقعيًّا في أغنيات قالت الكثير ببساطة لا يمكن وصف دروبها، كشفت عن أفراح وأحزان، وارتحالات إنسانية يتقاطع عندها البشر جميعًا.
وفي غناء فيروز للمدن العربية تتجلى دلالات انتماءاتها بوضوح، هي لم تغنِ للبنان فقط، بل للقدس العتيقة ومكة والشام والإسكندرية والأردن، وبغداد. وفي وقت الحرب ووقت السلم اختارت البقاء في وطنها، لم تغترب عن أرضها أبدًا، بل إنها المطربة الوحيدة التي جاءت الشهرة إليها وهي في مكانها.
فيروز عبر تاريخها الفني الطويل تطرح الأسئلة الوجودية المركبة عن "الأنا" و"الهو" و"الزمن"، تُلقيها بحيرة وتمضي بعيدًا، تقرع الأبواب ولا تجد أحدًا، لا تهتم بل تمضي في طريقها، تمر بالشوارع "بالقهوة اللي على المفرق"، وتجلس وحيدة على مقعد حجري.
إن سؤال الزمن يظل مطروحًا في كل أغنيات فيروز قديمها وجديدها، كأنها "في بيت ستها الختيارة"، ما زال قلبها ينبض بفرح لم تنل منه السنون، يهلل "اشتقتلك واشتقتلي"، إنه عتاب موغل في غربته للزمن. تُمارس عبره الانتـــظار المترفع، وتـؤلف العناوين وتغني لأنها لا تريد أكثر من البوح، البوح فقط والقول إنها ستظل تنتظر دائمًا.