انشغلت الأديبة العالمية مي زيادة بقضايا مجتمعاتها، وكان للقضايا الإنسانية مثل قضية "الرق والعبودية"، مكانة بارزة في جلعتها في مقدمة اهتماماتها، وفي اليوم العالمي لإلغاء الرق، نستعرض مقالا هامًا للأديبة الراحلة بعنوان "العبودية والرق"، نُشر في الأول من يوليو عام 1921 بمجلة المقتطف، تتناول خلاله الصورة التي كانت عليها حياة الرق والعبيد في مختلف الحضارات الإنسانية، إلى أن جاء الإسلام وحرر العبيد، ودعى إلى عتق الرقاب والإحسان للبسطاء والضعفاء.
في مفتتح مقالها تُعرّج مي زيادة على توازنات الطبيعة التي تمنع بقدر ما تمنح، وبقد ما يكون منعها، يأتي منحها، وبالقدر ذاته يكون الأمر على الجانب الآخر، إلى أن تصل إلى تصنيف العبيد وفق كتاب "مانو" أحد كُتب الهند المُقدّسة، حيث تقول: "كتاب مانو أحد كتب الهند المقدسة وقد حوى شرح مذهب البراهمة وتاريخ مدينة الآريين منذ نشأتها، فجاء فيه أنّ أصل العبيد سبعة: أسير الحرب، ومعدم رضخ لمن يكفل معاشه، وابن العبدة المولود في بيت المولى، والفرد مُهدى هدية أم مبيعًا بيعًا، والمنتقل بالإرث من الوالد إلى الولد، والمُستعبد عقوبة له على جناية ارتكبها، والمُستعبد لعجزه عن تأدية دين أو ضريبة أو غرامة".
وتُشير مي زيادة إلى أن العبودية قديمة قِدم الحرب التي هي من طبيعة البشر منذ نشأتهم، حيث يتغلّب فريق على الآخر فيحوزه ويسيطر عليه سيطرة كاملة. مستعرضة البشاعات التي كان يتعرّض لها أسرى الحروب في الأزمان الغابرة، قبل مواثيق الأمم المُتحدة والقوانين المُستحدثة التي تضمن سلامة أسرى الحروب، وحقهم في تلقّي معاملة أدمية.
وتوضّح مي زيادة في مقالها، أنّ الفينيقيين حملوا نظام العبودية إلى اليونان مع ما حملوه من الأنظمة والعادات، وكان عندهم العبيد أنواعًا: "نساء لخدمة البيوت، ورجالًا يفلحون ويزرعون ويقومون بالأعمال الخشنة، وصبية متأنقون يكرمون الضيوف ويعدون المركبات، ويرافقون ابن مولاهم في تنزهه وجولاته ويشاطرونه دروسه والعابه، كأنهم المماليك الصغار في بعض البيوت الشرقية أنذاك.
أما الإسبارطيون فطبعوا العبودية بطابع شدتهم، العبيد هناك كانوا يلبسون العبيد الجلود، ويدعوهم يشربون وسكرون ليكونوا عبرة لكل حر حتى لا يقترب من الخمر بعد معاينته ما تفعله بعقول العبيد، وكانت طبيعتهم أن يجلدوا عبيدهم دون إثم أو ذنب اقترفوه إلا ليذكروهم أنهم عبيدًا لا قيمة لهم.
حال العبيد عند الرومان لم يختلف كثيرًا عنه في إسبرطة، إلى أن جاء الفلاسفة وأرباب الكلمة والحكمة، بانفتحت الأبواب أمام العبيد ليمارسوا حياة طبيعية في التجارة، وفتحت أمامهم المراتب السياسية فارتفع بعضهم ارتفاعًا عظيمًا، مثل نارشيسس مستشار الإمبراطور كلوديوس.
وبعد استعراضها لحال العبيد في عدد من الممالك الأوروبية القديمة، تبدي مي زيادة دهشتها من عدم نكران الفلاسفة للعبودية، قائلة: المدهش في كل هذا أن الفلاسفة لم يقبحوا العبودية ولم ينكروها بل اقرّوها مع أنّ منهم من ذاق مرارتها مثل "ديونيسيوس الكلبي"، وأفلاطون الذي ذاق مرارة العبودية حتى فداه أحد أصدقائه، وكل ما امتاز به أفلاطون أنّه لم يضرب عبده بيده مباشرة، لأن الفلسفة والشعر رققا منهُ النفس، ولطفا شعوره، لذا أوكل غيره في إنزال العقوبة بعبده.
تختتم مي زيادة مقالها بالحديث عن أثر الأديان في نبذ العبودية، والدعوة للمساواة بين البشر مستشهدة بمناداة السيد المسيح بالمساواة والغفران، وفي المقابل الإسلام الذي وجد العبودية عن شعوب سبقته فلطفها، وأوصى باليتيم والضعيف والرقيق، ومثال على ذلك سيدنا محمد الذي بكى عبده الميت كما يبكي الكريم صديقًا عزيزًا، فكانت حالة العبد والتعامل مع في ظل الشريعة الإسلامية في أحسن أحوالها، أما عتق الرقاب والدعوة إليه فمن أمجد صفحات تاريخ الإسلام.