ليالي الأنس "مش بس فينا"، هنا في الشرابية أُنس وونس وشهامة وجدعنة، ليالي حينا ذكريات نحيا بها، حينا الشرابية أحد الأحياء العريقة في شمال القاهرة، يحتضن بين أزقته وشوارعه قصص ملهمة تروى باعة في الصبر والكفاح، حي يسكنه بسطاء البشر من أصحاب القلوب المليئة بالحب والشهامة.
ليس مجرد حي سكني بل إنساني بالدرجة الأولي، ففي كل ركن حكاية، بائع متجول يبتسم رغم مشقة الحياة، أطفال يلهون ببراءة تحت أشعة الشمس، وجيران يتبادلون السلام والطعام كأنهم عائلة واحدة.
في صباح الشرابية تجد الأرصفة رنانة بأصوات الباعة التي تتسلل إلى البيوت مع أشعة الشمس معلنة عن بدء يوم جديد، تسود الشوارع رائحة الفول والطعمية وسط نغمات الزيت الممتعة داخل المحال البسيطة، يمتلك أهل هذا الحي كنز لم يقدر بثمن "القناعة والرضا"، أناس تتعلم منهم الكرم والجَلد، شوارع "محندقة" وبيوت قديمة وأرواح نقية تتحمل مشقة الحياة بصبر وإيمان، هنا تجد الصديق وقت الضيق، والجار الشهم في هذا الحي يتجسد مفهوم الجار قبل الدار بأبهى صوره.
أما ليالي الشرابية فتنبض بالحياة بضحكات التجمعات العائلية على أبواب البيوت في مشهد يعكس دفء العلاقات، وتملأ الضحكات الشوارع وكأنها مزيكا تُعزف كل يوم.
حي الإنسانية لم يرتبط بالرفاهية أو المظاهر، بل بالعلاقات الصادقة والتكاتف الذي يجعل كل فرد يشعر بأنه جزء من مجتمع كبير، مكان يعلمك أن الجمال الحقيقي يكمن في القلوب النقية والرضا.
وهناك فرق شاسع ما بين الأحياء الشعبية والعشوائية، وأقصد بالأخيرة ليس فقط طريقة البناء غير المرتب ولكن أسلوب الحياة، الشرابية منطقة شعبية حيوية في قلب وسط البلد، ربما لم يزورها الكثيرون ولكنك بالتأكيد مررت عليها يوماً، منطقة مشهور عنها محاوطة قضبان السكك الحديدية، إذا عبرت لها من منطقة شبرا عن طريق نفق أحمد بدوي، أما من شارع رمسيس فلها مدخلين نفق كوبري باغوص ومترو غمرة والذي ستشاهد فيه يافطة ملفتة "العبور إلى الشرابية" بالفعل هي عبور من بوابة الزمن لزمن قديم نشتاق ونَحن له زمن الجدعنة والشهامة وولاد البلد، مرورك بها يشعرك وكأنك في أحد فصول رواية لنجيب محفوظ، الابتسامة علي وجوه الجميع، والشقي ملامحة واضحة، أتحدث هنا عن أهلها الأصليين وليس الدخلاء من السكان الذين يحاولون تغيير نمطها التاريخي، أحداث كثيرة وعلامات بارزة بالحي فتجد مثلاً أشهر دار سينما في مصر وهي الآن مغلقة "سينما الشرابية".
وتجد أقدم المعالم منها مسجد بلال والذي سميت على اسمه عزبة بلال، وضريح سيدى المظلوم الذي سميت المنطقة التي يقع فيها باسمه، وأيضا مسجد الشبراوي ومسجد النور ومسجد معاذ ومسجد غمرة المنوفي والجامع الأبيض ومسجد الإخلاص.
الشرابية حي شعبي كبير سمي على اسم طائفه من العسكر كانت تقوم بنقل المؤن للجيش في المعسكرات أيام الفاطميين، وكانت الشرابية قديماً من ضواحي القاهرة وانفصلت إدارياً عن شبرا في الثمانينات كما حدث مع أحياء كثيرة، كما وإنها تقع بجوار شادر السمك أشهر الأماكن في مصر، كما وأن الرئيس الراحل السادات اختباء من عيون البوليس السياسي في الحي لفترة.
شهدت الشرابية مشروعات سكانية كثيرة وسميت بناصرة الغلابة، ربما الدخلاء غيروا بعض ملامحها بالإضافات والمخالفات ولكنها مازالت تحمل طابع الحداثة وروح المنطقة الشعبية.
ولم أخفيك سراً إن "رمضان عندنا حاجة تانية" على رأي حسين الجسمي، احتفالات يقشعر لها القلب والروح، والعيد بحلاوة زمان، لم أريد كشف سحرها حتي لا تصبح منطقتنا مزار لعشاق التراث والفلكور، فلا ننسي أشهر أفلام السينما للراحل فريد شوقي والتي حملت اسم الشرابية .
فخور بأنني من أبناء الشرابية ولطالما كنت أحكي للأصدقاء عنها كنت اسميها ضاحكاً كمبوند الشرابية والله ليس تنمراً وسخرية، أقول لهم مروا من هنا حتى تكتب لكم في التاريخ.
حكاياتنا لا تنتهي مع جيران الشرابية، نجتمع كل خميس في الحدائق المتواضعة بجانب العمارات وكأنها مشتل زهور ونشاهد التليفزيون ونصحك طيلة الليل.
وأحيانا كنت أصعد لأبو أشرف بالدور الرابع، أختار معه شريط فيديو من بين آلاف لنشاهده، جاري كان يعمل بالسعودية وكان لديه آلاف الأفلام والمسرحيات، ومحصل الكهرباء كان يأخذ من أي شخص يجده فاتورة الجيران غير الموجودين، هنا ذكرى" كوباية زيت سلف.. كوباية سكر، وتلقيمه للشاي، ليست ذكريات فقر ولكنها ذكريات للعشرة والأصول، أما عن الدخلاء فهم قليلون ومنبذون لا يتعامل معهم أحد، فالطبقية ليست مستوي مادي ولكن أخلاقي.
ومن الشوارع للبيوت للمطاعم، وابتسامة البائعين من شباك عربات النقل ليلا ليصل الطعام طازجاً للأسواق ففي الأحياء الشعبية "كل يوم طبخة جديدة الأكل طازجاً يومياً نرفض التسخين".
عربات الفول تراث وتاريخ، الشرابية يوجد بها كافة أنواع الطعام الشعبية والفخمة، والمحال ليس لها اسم بل تشتهر باسماء البائعين مطعم أم كريم، كبده عم عبده وهكذا، حي يسحرك لم تستطع هجره وإن كنت من الأثرياء، ومهما سافرت لدول كثيرة ساحرة أشتاق إليها، أريد أن أحيا هنا دوماً.