أزمة التعريف الدقيق، أو إطلاق مصطلحات ملائمة على أحداث أو ظواهر تشكل إحدى أزمات العقل المصرى، بل والعربى بصفة عامة. أتذكر مقولة وليام شكسبير الشهيرة «هذه وردة.. سمها ما شئت.. المهم ستبقى عطرة». نتيجة لهذا العطب الفكرى، نجد أنفسنا باستمرار فى حوارات دائرية، نتوه فى حلقة مفرغة لا نستطيع الفكاك منها. أحد الأمثلة على ذلك الأحداث التى تحدث للأقباط من آن لآخر، تٌطلق عليها مسميات من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ما بين مبالغة مقيتة وتهوين فاضح لا نجد مساحة لمناقشة جادة، هى فى النهاية لصالح الوطن بأسره، قبل أن تكون لصالح الأقباط.
فى الأحداث التى وقعت فى العريش سواء قتلا أو تخريب ممتلكات لأقباط دفعت العشرات إلى الفرار إلى الإسماعيلية، واستعداد الباقين للحاق بهم أو الذهاب إلى أى مكان آخر آمن نجد مساجلات دائرية عقيمة، معارك حول المسميات والأوصاف، التعريفات والمصطلحات، ويغيب الكلام الجاد حول المضمون.
هذه بعض من المساجلات العقيمة..
ليست فتنة طائفية
بالتأكيد ما حدث ويحدث فى العريش ليس فتنة طائفية، بداية المصطلح ذاته أى «الفتنة الطائفية» ممجوج ظهر فى السبعينيات، وظل مهيمنا على المشهد دون تفكير. المصريون ليسوا طوائف حتى تندلع الفتن بينهم، بل هم شعب واحد، وإن اختلفت معتقداتهم الدينية. هم شعب واحد لا ينقسم جغرافيا أو عرقيا، يعيش فى اندماج، وتداخل. وإذا حدثت توترات دينية سواء لأسباب تتعلق بالتعصب أو الخلافات الاجتماعية ينبغى التعامل معها بوصفها «جرائم» تقع بين مواطنين أيا كانت ديانتهم، وينبغى أن تكون محل مساءلة قانونية. وبالتالى ما حدث فى العريش ليس فتنة طائفية، لم يعتد المسلمون على المسيحيين، بل يشيد الفارون من العريش بجيرانهم المسلمين الذين قدموا لهم كل مساعدة وعون، وكانوا حزانى لفراقهم.
ليس تهجيرا للأقباط
بالطبع ليس تهجيرا بالمعنى الحرفى للكلمة، فلم يسع المسلمون – الغالبية الساحقة من سكان العريش- إلى تهجير المسيحيين مثلا للفوز بممتلكاتهم، ولم تسع الحكومة بالطبع إلى اضطهادهم، وتهجيرهم من أماكنهم، ولا يوجد قرار لدى أى جهة لإخلاء المدينة من المسيحيين، بل وصل الحال إلى أن محافظ شمال سيناء أصدر قرارا بأن يحصل المسيحيون على إجازات. إذن ليس أحد يريد أن يٌهجر المسيحيون خارج العريش. والحديث بأن الجهات الأمنية لم تطلب من المسيحيين المغادرة صحيح، ولكن يشعر المسيحيون بأنهم غير آمنين مما دفعهم لطلب الأمان فى مكان آخر، وهذا حقهم.
ليس اضطهادا للأقباط
حسب ما يتوافر من معلومات فإن ما يحدث للمسيحيين فى العريش ليس اضطهادا منظما وممنهجا من جانب حكومة أو أى جهة رسمية أو حتى من المجتمع المسلم فى العريش نفسه، فإن الحكومة التى تقرر بناء أكبر كنيسة فى العاصمة الإدارية الجديدة، ليس معقولا أنها تريد أن تنكل بالأقباط، ولا يوجد قرار لدى غالبية السكان بالتخلص من الأٌقباط الذين اقتسموا معا ظروف الحياة لعشرات السنين.
الأقباط ليس على رأسهم ريشة
البعض يقول ذلك، وينتقد المسيحيين فى شالحديث عن الأمر، وهو بالطبع يريد التعتيم على مناقشة الموضوع بجدية، بالتأكيد لا يحق للأٌقباط أن تكون لهم معاملة خاصة. المصريون جميعا يدفعون حياتهم ثمنا لتفشى الإرهاب فى شمال سيناء، وبالنسبة العددية، فإن المسلمين الذين فقدوا حياتهم هم أضعاف تعداد المسيحيين الذين قتلوا، هذا ما يقوله البعض، وهى ملاحظة صحيحة، ولكن هنا فرقا مهما ينبغى أن ندركه. أن المسيحى أو المسلم الذى يؤدى خدمة جليلة فى الجيش أو الشرطة، عندما يفقد حياته فهو شهيد ضحى بأغلى ما يملك أثناء ممارسة عمله، ولكن المواطن القبطى أو المسلم الذى يقتل وهو فى الشارع أو فى مكان عمله أو فى منزله فهو شخص مدنى مسالم لا علاقة له بالمواجهة المسلحة التى يقودها دفاعا عنه مواطنون شرفاء ننحنى لهم احتراما وإجلالا.
الحادث يشق الصف الوطنى
لا أحد يصفق لحادث إرهابى، فهو بالتأكيد يسىء لمواطنين، ويوغر الصدور، ويلقى المرارة فى نفوس الناس، ويترك ذكريات مؤلمة تتوارثها أجيال بالمناسبة. ولكن لا الأقباط ذكروا أن المسلمين يقتلونهم ويهجرنهم من منازلهم، ولا المسلمون فعلوا ذلك، ولا يريدون ذلك، بل هى جماعات إرهابية تجثم على صدر المجتمع برمته، فئة باغية كما وصفها بيان الأزهر الشريف، هذه الجماعات يدعمها بعض السكان المحليين.
ما التوصيف الصحيح إذن؟
الوصف الصحيح أن هناك جماعة إرهابية تحاول أن تفرض سيطرتها على العريش، لديها أجندة، تبدأ فيها بالجزء الرخو فى المجتمع أى الأقباط، وتهز هيبة الدولة بالاعتداء على المنشآت العسكرية والشرطية، وقتل العاملين فيها، فرض أجواء الخوف على المجتمع مما يجعل الناس تعيش فى رعب، وتكون جاهزة للتسليم بسيطرتها. وعادة ما يكون انتهاج وسائل بشعة فى قتل الأهداف التى تحددها هى إحدى أدوات تخويف المجتمع، وهزيمته نفسيا، وهناك تخوف من البعض ان تكون خطة اجبار الأقباط على مغادرة منازلهم مقدمة لأمور آخرى او محاولة للتمهيد لوهم السيطرة الكاملة وان يتعدى إلى محاولة أجبار المسلمين على المغادرة أيضاً.
موقف السلفية الجهادية من الأٌقباط ليس فقط سياسيا (الاصطياد السهل للأهداف بهدف إضعاف الدولة، وبعثرة مكوناتها الأساسية)، ولكنه أيضا عقدى، نابع من اعتقاد لدى جماعات الإرهاب بأنهم «كفرة»، دماؤهم مستباحة، لا ذنب على قتلهم، لا عهد معهم، هم يناصرون الطاغوت (الحكم الحالى)، وبالتالى قتالهم واجب لسببين كفرهم، وخيانتهم للمسلمين- وذلك على اعتبار أنهم وحدهم المسلمون دون سواهم.
من الواضح أن هناك تحديات كبيرة تواجه أجهزة الأمن هناك. الاختباء وسط السكان مسألة صعبة، دعم بعض السكان المحليين لجماعات الإرهاب بالمعلومات أو الاحتضان والإيواء تزيد الأمر صعوبة، المواجهة الحاسمة فيها توقع ضحايا أبرياء كثيرين، وفى الوقت نفسه فإن عدم تعاون المجتمع مع أجهزة الأمن إما نابعا من الخوف الشخصى للناس العادية، وهذا حقهم بالمناسبة، الشعور بالخوف أمر مقدر، الأمر الثانى هناك مؤشرات كثيرة فى أحداث سابقة تشير إلى اختراق ما فى صفوف أجهزة الأمن.
القضية ليست ما يقال «هيبة الدولة»، بالتأكيد أن يكون للدولة هيبة، شىء جميل ومطلوب، ولكن الأهم أن يكون للدولة حضور بالمعنى الحقيقى، فالهيبة مسألة رمزية، أما المرجو فهو الحضور الفعلى على الأرض، العريش لم تعد مكانا عاديا يواجه تحديات أمنية معتادة، ولكنه مجتمع معقد يحتاج إلى خطة من نوع مختلف للتطهير الأمنى.. أتصور أن هذا هو المطلوب من الحكومة فى اللحظة الراهنة، التعامل الخاص مع مكان خاص، حتى لا نستيقظ فى يوم على فاجعة أكثر من رحيل الأقباط بملابسهم.