آثر عامنا هذا قبل أن يرحل إحراج كل المنجمين الذين تباروا فيما بينهم فى الترويج لنبوءات قبل قدومه لما سوف يشهده من أحداث سياسية واقتصادية وأيضًا ثقافية وفنية ورياضية.. ففى الشهر الأخير له شهدت سوريا أهم حدث سياسى فى تاريخها الحديث، وهو سقوط نظام بشار الأسد الذى كان عصيا على السقوط لقرابة ثلاثة عشر عاما، ويلقى مساندة عسكرية من روسيا وإيران وحزب الله اللبنانى أيضا.. وهذا حدث لم يتنبأ به أحد من هؤلاء المنجمين الذين تروج تجارتهم قبل رحيل كل عام واستقبال عام جديد.
لقد سقط النظام السورى بشكل مفاجئ ومثير للدهشة، رغم أن الدول العربية أعادت إعلاميا العلاقات الدبلوماسية معه، وأعادت له مقعد سوريا فى الجامعة العربية وشارك فى القمم العربية الدورية التى تعقد سنويا.. والمثير أن أحدا لم ينتفض للدفاع عنه كما حدث فى السنوات التى خلت.. لا روسيا تحركت لإنقاذه كما فعلت فى السابق، ولا إيران دافعت عنه، بينما كان حزب الله قد سحب قواته التى حاربت معه بعد أن انخرطت فى حرب مع قوات الاحتلال الإسرائيلى.. كذلك تخلى عنه الجيش حينما انسحب أمام قوات هيئة تحرير الشام رغم أن أعدادها كانت محدودة لم تبلغ وهى تزحف على حلب أكثر من خمسمائة مقاتل فقط، كما قال الرئيس الروسى بوتين، كل ذلك لم يتنبأ به أحد من المنجمين وقارئ الطالع ولا أشار إليه تصريحا أو حتى تلميحا، وهو ما يؤكد لنا أن تنبؤاتهم هى مجرد تخمينات وتوقعات تمخضت عن قراءتهم للأحداث الجارية وليست استطلاعا للمستقبل كما يدعون، وأن ما يمارسونه ليس علما حتى وإن تحققت بعض تخميناتهم هذه أو كان فى قدرتهم تطويعها لتفسير أحداث العام الجديد عندما تقع!
وإذا كان حادث السقوط المفاجئ لبشار وتخلى عنه كل من ساندوه من قبل يمثل إحراجا كبيرا لهؤلاء المنجمين ويؤكد إخفاقهم فى استطلاع ما يأتى به عام جديد يطرق أبوابنا، فإن عامنا هذا الذى يتأهب للرحيل ليفسح زماننا لعام جديد قد أفرط فى إحراجهم !.. فهم لم يتنبأوا بأهم أحداثه خاصة فى منطقتنا.. فلا هم تنبأوا بامتداد الحرب البشعة التى شنتها قوات الاحتلال الإسرائيلى على أهل غزة وتحول هذه الحرب إلى حرب إبادة لهم، ولا هم تنبأوا بتوسع الحرب لتشمل تبادلا للهجمات العسكرية بين إسرائيل وإيران، ولا هم تنبأوا أيضا باغتيال هنية فى طهران واغتيال حسن نصرالله ومعظم قيادات الصف الأول والثانى لحزب الله اللبنانى، وقبلها ضربة أجهزة الاتصالات البيجر نحو خمسة آلاف من كوادر الحزب، لا هم تنبأوا باغتيال عدد من قادة حماس بعد اغتيال هنية، وبإصدار المحكمة الجنائية الدولية قرارا باعتقال نتنياهو ومعه وزير دفاعه السابق!.
لقد أخفقوا تماما فى التنبؤ بأهم ما شهدته المنطقة وغير أحوالها وأضعف بعض قواها لصالح قوى إقليمية أخرى وأيضًا لصالح قوى دولية، خصما من نفوذ قوى دولية أخرى.
لذلك نحن لسنا نحتاج لمنجمين ليتوقعوا لنا مستقبلنا السياسى والاقتصادى فقد صار أمرا مثيرا للسخرية عندما يطلب إعلاميون من منجمين أن يتنبأوا لنا بسعر الجنيه فى العام الجديد لنرسم خططنا الاقتصادية ونحدد ما يتعين علينا اتخاذه من قرارات على المستوى الفردى أو على مستوى الدولة!.
وهذا لا يعنى أننا لا نحتاج للاجتهاد فى توقع مسار المستقبل لنا ولمنطقتنا وعالمنا.. بل إن هذا أمر ضرورى وهو بالنسبة للدول كمثل مجموعات الاستطلاع العسكرى للجيوش فى المعارك العسكرية.. لكن هذا لا يصلح للقيام به المنجمون أو قارئ الطالع والكوتشينة والذين يوشوشون الودع، وإنما يصلح له الباحثون والمحللون السياسيون والاقتصاديون والمتخصصون أساسا، ومكانه المؤسسات والأجهزة البحثية وأجهزة جمع المعلومات وتحليلها لصياغة قراءة مبكرة لمستقبل عالمنا ومنطقتنا وبلدنا.. أى مكانه مؤسسات الأبحاث ومراكز الدراسات وأجهزة المخابرات.
هؤلاء يقومون بعمل علمى فعلا ليستخلصوا التوقعات الأكثر احتمالا أن يشهدها عالمنا ومنطقتنا وبلدنا ولا يقدمون تخمينات كما يفعل المنجمون قبل رحيل عام وقدوم عام آخر.
صحيح لقد شاع أحيانا لجوء ساسة وقادة وحكام للمنجمين لمعرفة الطالع، قبل اتخاذهم قرارات مهمة، لكن ذلك أحد مظاهر تخلف الأمم وليس عنوانا لتقدمها وتحصِنُها بالعلم.. الساسة والقادة والحكام يحتاجون لأجهزة معلومات وأبحاث ودراسات ومخابرات فاعلة وتتسم بالكفاءة وليس للمنجمين وقارئي الطالع والفنجان والكوتشينة!.