الإثنين 3 فبراير 2025

مقالات

الست وأطلال الإخوان


  • 3-2-2025 | 13:25

ثروت الخرباوى

طباعة
  • ثروت الخرباوي

وأخيرا دخلنا إلى عام 2025 يا الله!! ما هذا الزمن الذي يجري بنا سريعا وكأننا في سباق سرعة؟ حنانيك علينا يا زمن، فلا طاقة لنا بسرعتك، وليست سرعتك هي التي ستنسينا أجمل أيامنا، لذلك فإنني سأعود بك أيها العام الجديد إلى عام 1946، وبالتحديد في شهر يناير، ولأن الزمن يرتبط بالمكان فإنني سأجلس معك في حديقة الأزبكية بالقاهرة، والمساء قد أرخى سدوله، والجمهور في قاعة حديقة الأزبكية ينتظر أن تخرج إليه السيدة أم كلثوم، ففي هذا اليوم ستغني «الست» أغنية من شوامخ الشعر العربي، كاتبها هو أمير الشعراء أحمد شوقي، والأغنية هي «سلوا قلبي غداة سلا وثابا» كلمات الأغنية صعبة نوعا ما، ولكن منظم الحفل طبع كلمات الأغنية ووزعها على الجمهور، مع شرح بسيط لكلماتها، ومع أن الأغنية تبدأ بأبيات تظنها من أبيات الغزل، إلا أنها في الحقيقة من قصائد المديح النبوي، والقصيدة نفسها من روائع شوقي، حتى أن البعض يعدها من أعظم قصائده.

وخرجت أم كلثوم للغناء، وصفق الجمهور، واللحن الشجي الذي أبدعه رياض السنباطي بدأ يداعب القلوب، ويسيطر على المشاعر، وانطلقت أم كلثوم في الغناء، ويا سلام يا ست وصوتك يصدح بالبداية :"سلوا قلبي غداة سلا وثابا لعل على الجمال له عتابا" وتستمر أم كلثوم في الغناء إلى أن تقول: "وكان بيانه للهدى سُبْلا وكانت خيله للحق غابا" وهنا يضج الجمهور بالتصفيق! يا ربي ما هذا؟! هل تعرفون المعنى الذي جاء في هذا البيت؟! هل كان الجمهور الكبير الذي صفق وهلل يعلم معاني تلك الكلمات؟! ياللداهية السوداء، الجزء الأخير من البيت يقول إن جيوش النبي عليه الصلاة والسلام كانت تسير في طريق الحق بوحشية شديدة، "كانت خيله للحق غابا" تعني أن جيوشه كانت كثيرة وأعداد الجنود فيها كثيرة ولكنها أيضا كانت متوحشة!! والجمهور البسيط الذي لا علاقة له وقتها بالسلفية ولا الوهابية ينتشي طربا وفرحا!!.

وليكن، كانت تلك هي مشاعرهم، فتلك الأمة في هذا الوقت كانت مغلوبة على أمرها، كنا نرزح تحت الاحتلال، ونشتاق إلى أيام كنا فيها نمتلك أسباب القوة، لكن أيها الناس الكلام هنا عن الدين، وعن رسول هذه الأمة، كيف يا أمير الشعراء تصيغ أبياتا تتحدث عن أن قوة جيش النبي كانت متوحشة؟! وكيف غاب هذا المعنى عن أم كلثوم والسنباطي، ومع ذلك أنتظر أيها القارىء قليلا، لأننا سنعود للاستماع إلى أم كلثوم في هذا القصيدة، فحين دخلت "الست" على البيت الذي يليه قالت : "وعلمنا بناء المجد حتى أخذنا إمرة الأرض اغتصابا" فإذا بتهليل الجمهور يزداد، الست تقول إن النبي علم الأمة كيف تبني مجدها، فتعلمت الأمة ما أخذته من النبي فسيطرت على العالم بالاغتصاب، بالقوة، بالجيش المتوحش، وكأن هذه كانت تعليمات نبي الرحمة والسلام!! وكأنه علَّم المسلمين أن يأخذوا ريادة العالم بالقوة والاغتصاب، لا بالعلم والرحمة والسلام والحضارة !!.

ومع ذلك ليس المهم هنا هو تلك الكلمات التي تقول إننا أخذنا إمرة الأرض اغتصابا، فهذا التوصيف من شوقي صحيح، نعم نحن غزونا العالم، ورفعنا السيوف، وقطعنا الرؤوس، وافتخرنا بذلك نثرا وشعرا، ولكن هل هذا كان دينا، أم أنه كان من أمور الدنيا؟! هو دنيا بلاشك، مثلنا مثل باقي الأمم التي أخذت بأسباب القوة، لم يكن دين الأمم هو السبب، ولكنها الرغبة في الاستحواذ والسيطرة والحصول على ثروات العالم، أقول هذا لأضع فارقا بين الدين والتدين، الدين لم يأمر بهذا، اي دين في العالم، ليس الإسلام فحسب، كل الأديان قاطبة تنهى عن هذا السلوك، والقرآن يا أمير الشعراء، ويا كوكب الشرق يحضنا على تهذيب السلوك، فيقول "وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا" من أجل التعارف أيها الناس الذي يولِّد الإخاء والتعاون، لا الاعتداء والاغتصاب، نهانا الله أن نعتدي فقال "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين" هذا هو الدين، ولكن ممالك للمسلمين أطلقت على نفسها الخلافة سارت في طريق آخر، واستخدمت الإسلام ليكون مبررا لها في قطع الرؤوس، والإسلام لا يعرف إلا تعمير الأرض "هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها".

ما علينا، كنا وقت غناء أم كلثوم لقصيدة شوقي أمة ضعيفة محتلة لا تملك من أمرها شيئا، وكانت طموحات هذه الأمة أن تعود لسابق أيامها في القوة والمنعة، لكن هذه القصيدة داعبت مشاعر الإخوان وقتها، حتى أن حسن البنا ـ وفقا لشهادات بعض الجيل المؤسس للإخوان ـ أمر بأن يتم اقتطاع هذا الجزء من الأغنية وتحفيظه لأشبال الإخوان ليكون تحفيزا لهم ودفعا للروح الجهادية لهم لتصل إلى أعلى مراتبها، ولكن وقفت الموسيقى ضد قرار حسن البنا، فالإخوان يحترفون الأناشيد ولكن بلا موسيقى، فقال لهم البنا، هذا نشيد ينشودنه بلا موسيقى، وأصبح هذا الجزء من الأغنية نشيدا من أناشيد الإخوان تحت عنوان "أخذنا إمرة الأرض اغتصابا".

ولكن هل سلمت أم كلثوم من ألسنة الإخوان؟ إنه عداء تاريخي، ولكنه عداء من طرف واحد، فلم تأبه لهم أم كلثوم، ولم تعرهم التفاتا، ولكنهم كانوا يشتعلون بنارا الغيظ منها، قلوبهم غُلف، عليها غشاوة لا يعرفون الفن ولا أثره في القلوب، لذلك لا تتعجب حينما تسمع تلك المقولة الإخوانية المنحرفة بأن عبد الناصر قام بإلهاء الشعب المصري عن طريق أم كلثوم ومخدر الحشيش!! هذه مقولها كان الإخوان يرددونها في السبعينيات، ولا يزالون، فقد سمعنا القيادي الإخواني الكويتي "عبد الله النفيسي" وهو يسب ويشتم أم كلثوم منذ أعوام قليلة ويقول إنها كانت والحشيش صنوان، لا يفترقان، هدفهما تخدير المصريين، والحقيقة أنهم ما نقموا منها إلا أنها غنت لمصر، ولثورة يوليو، وقامت بجهود كبيرة بعد 1967 لجمع الأموال للمجهود الحربي، فسافرت فرنسا وغيرها من بلاد العالم لتغني وتقدم إيرادات حفلاتها للمجهود الحربي، وما نقموا منها إلا أنها كانت أكبر قوة ناعمة لمصر في عصرها الحديث حيث عشقها الشعب العربي كله وكانت منارة من منارات الإبداع التي لا تتكرر.

هل نظر الإخوان العميان إلى فنها؟ هل استمعوا لها وهي تغني أغنيتها الخالدة "القلب يعشق كل جميل"؟ ولا هي تغني ذلك الكوبليه الملهم من أغنية بيرم التونسي:
 واحد مافيش غيره
ملا الوجود نوره
دعاني لبيته
لحد باب بيته
ولما تجلى لي
بالدمع ناجيته
وكيف انفعلت معها مشاعر المستمعين، وكيف بكا الناس عندما حركت أم كلثوم فيهم حب الله.
ولم يستمع الإخوان لأم كلثوم وهي تغني: 
جينا على روضه
هلا من الجنة
فيها الأحبة تنول
كل اللي تتمنى

إن كل من كان في قلبه ذرة من إيمان انفعل ليس مع الكلمات فحسب ولكن مع هذا الأداء الأسطوري لأم كلثوم، ولكن الإخوان لم تتحرك مشاعرهم، ألم أقل لكم إن قلوبهم غلف، عليها أغشية تمنعها من التفاعل مع المشاعر الإيمانية.

الحقيقة إن الإخوان لم ينظروا إليها إلا بعين السخط والغضب، اللهم إلا بعض شيوخ من الإخوان تركوا تلك الجماعة وأعلنوا أنهم يستمعون لأم كلثوم ويحبون أغانيها، وكان من هؤلاء النوادر الشيخ محمد الغزالي، والشيخ الباقوري.

أما استخدام الإخوان لأغاني أم كلثوم التي تمتدح فيها جمال عبد الناصر وتحويلها إلى أغاني سخرية وهجاء فخذ عندك، فمثلا يحرفون أغنية أم كلثوم عن نجاة عبد الناصر من حادث المنشية التي تقول فيها "ياجمال يامثال الوطنية...أجمل أعيادنا المصرية بنجاتك يوم المنشية" فيجعلونها "ياجمال ياكبير الحرامية أجمل أعيادنا المصرية بهلاكك يابن اليهودية"!!.

ولكن ماذا عن القرآن؟ أكاد أقسم لكم أن أم كلثوم هي شيخ مشايخ المقارىء الفنية، إذ يجب أن تستمعوا لها وهي تقرأ القرآن، نعم هناك مطربون آخرون قرأوا القرآن وأمتعونا بحلاة القراءة، ولكن معظمنا على ما أعتقد استمع لأم كلثوم وهي تقرأ آيات من سورة إبراهيم، وقد اتضح من قراءتها أنها تتقن قواعد القراءة وتجيد أحكام التلاوة وكأنها من أكبر قراء القرآن، أو كأنها احترفت القراءة لفترة من عمرها، إذ لا يمكن أن تقرأ أم كلثوم بهذه الإجادة إلا إذا كانت قد احترفت القراءة في فترات حياتها الأولى، ولذلك فإنني أقول إن أم كلثوم هي أستاذة المطربين في قراءة القرآن، ومن الممكن أن نضعها في مصاف الشيوخ الكبار مثل محمد رفعت ومصطفى اسماعيل وعبد الباسط عبد الصمد والبنا، وعلى عكس أم كلثوم نستمع لموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، فرغم حلاوة صوته التي لا ينكرها إلا جاحد إلا أنه وهو الذي تربى في أحضان المقرأين وكان والده من قراء القرآن في مسجد سيدي الشعراني، إلا أن قراءة محمد عبد الوهاب لسورة الضحى في التسجيل الذي وصل إلينا يدل على أنه كان في مرتبة الهواة لا المحترفين، فهو بقدر الإمكان حاول أن يقرأ مثل القراء المحترفين، ولكنه وقع في العديد من أخطاء التلاوة، فهو لا يعرف مواضع القلقلة، إذ نطق القاف بالسكون وهي ينبغي أن تُقلقل، (والقلقلة هي هز الحرف في اللسان عند نطق بعض الكلمات الساكنة مثل حرف القاف وحروف الدال والباء والجيم والطاء)، أما حرف السين عند عمنا عبد الوهاب فهو في الضياع، وانتقاله من مقام لآخر في تلاوته كان يتم بشكل عشوائي غير متناسق، ومع ذلك فإن حلاة صوته تشفع له، ولو كان حيا لطالبناه بأن يستمر في القراءة حتى ولو وقع في أخطاء الهواة، ولكن أم كلثوم التي شغفت بقراءة القرآن توقفت، ولم تقم بتسجيل تلاوتها التي كانت ترتلها في صالونها الخاص بحضور نخبة من كبار الأدباء والموسيقيين والسياسيين، وكنا نتمنى أن تقرأ لنا تجويدا وترتيلا الكثير من السور القرآنية، ولم يكن في ذلك غضاضة فهناك العديد من قارئات القرآن سواء في نهايات القرن التاسع عشر أو حتى إلى منتصف القرن العشرين، ولكن يبدو أن هناك ما دفعها إلى عدم تسجيل ما قرأته من القرآن.

يالله، ما الذي جعلني أجمع بين أم كلثوم والإخوان في مقال واحد، أيجوز أن نجمع بين الجمال والقبح؟! إنهما على طرفي نقيض، منه لله الذي فكَّر في مسألة هذا الجمع بين الضدين، ولكني أقول لكم شيئا ستتعجبون منه: لو فُرض جدلا أن حسن البنا كان مطربا وغنى للإخوان لجعلوا من الغناء والموسيقى فريضة دينية لا يقوم الدين إلا بها، ولو غنى حسن البنا الأغنية الخالدة لأم كلثوم: اراك عصي الدمع شيمتك الصبر، للشاعر أبي فراس الحمداني لأصبح ملحن الأغنية رياض السنباطي هو الإمام السنباطي رضي الله عنه، ولأصبح أبا فراس الحمداني أمير المؤمنين في الشعر العربي، ولكنني أكاد أراهم وهم ينظرون إلى قصر الاتحادية الذي جلسوا على كرسيه مدة عام وهم يغنون: يا فؤادي لا تسل أين الهوى.

كان صرحا من خيال فهوى
إسقني واشرب على سجن طره
واروِ عني طالما الدمع روى
كيف ذاك الحكمُ أمسى خبرا  
وحديثا من أحاديث الجوى

أخبار الساعة

الاكثر قراءة