أم كلثوم ليست مجرد مطربة تمتلك موهبة أوحنجرة ذهبية فقط، ولكنها تمتلك القدرة على توظيف هذا الصوت بشكل يصل إلى الإعجاز، لتصبح بالفعل ظاهرة فنية فى الغناء العربي على مر العصور وهنا يأتى السؤال الذي يحتاج منا إلى تحليل علمي ومنطقي وهو “ لماذا تمثل أم كلثوم ظاهرة فنية لم ولن تتكرر مرة أخرى فى تاريخ الغناء العربي؟ فقد يقول البعض إن مصر ولادة دائماً بالمواهب والأصوات المتميزة، وأنه سيأتي من يخلف أم كلثوم يوماً ما أو من يماثلها، ولكن علمياً وأكاديمياً لم ولن تأتى أم كلثوم مرة أخرى.
إن الإجابة عن هذا السؤال ليست مجرد آراء شخصية أو تخمينات ذاتية مرتجلة ولكنها تأتي من خلال تفسيرات علمية وأدلة ثابته مقنعة، وذلك لعدة أسباب منطقية وهى أن»ظاهرة أم كلثوم»أتت من خلال تضافر بعض الأحداث والظروف والعوامل التى اجتمعت مع بعضها البعض والتى نادراً بل من الصعب أن تتلاقى فى آن واحد لتكون تلك العوامل ما تسمى بالظاهرة أو المعجزة، فإذا توفرت لدى أي مطربة الحنجرة السليمة والموهبة الفائقة والإحساس القوى لم تتوفر لها العوامل التي توفرت لأم كلثوم، ولم تتوفر لها الظروف والخبرات الحياتية التي اكتسبتها أم كلثوم، فقد امتلكت أم كلثوم الموهبة ولكن ما قاد هذه الموهبة الى أن تصبح في تلك المكانة الخالدة فى تاريخ الغناء العربي، ما أحاط بأم كلثوم من ظروف وعوامل كثيرة سواء»بيئية أو اجتماعية أوفنية أو سياسية أو ثقافية».
فكانت طفولتها التي عاشتها ليست مثل أي طفلة عادية فهى حالة استثنائية فقد غنت وأنشدت في مرحلة طفولتها وهى لم تتعد 7 سنوات، كانت تلك الطفلة الصغيرة تسير مشياً على الأقدام مسافات وتركب الحمار لساعات ويطول الانتظار على أرصفة القطارات، لتصل إلى 12 ساعة حيث كانت القطارات تمر أمام المحطة مرتين، مرة فى السادسة صباحا ومرة فى السادسة مساء، وكثيراً ما كان يصل ركب والدها الشيخ إبراهيم إلى المحطة بعد دقائق ليجد القطار قد تحرك، وفى جولاتها مع والدها شاهدت هذه الطفلة الصغيرة الكثيرمن المواقف والأزمات والطرائف لتكتسب العديد من الخبرات، لتقول أم كلثوم في مذكراتها»لقد مسحت بقدمي الصغيرتين القطرالمصري قرية قرية.
قبل أن أضع قدمي في القاهرة، وشاء حظي أن أترك في كل قرية عدداً من المعجبين بصوت الطفلة الصغيرة»، ففى فترات الطفولة الأولى وإتقانها للإنشاد الديني باللغة العربية الفصحى وحفظها للقرآن الكريم، وما تعايشته مع والدها كون شخصيتها القوية وأكسبها الثقة بالنفس وإصرارها وعنادها الشديد على النجاح، بالإضافة إلى ذكائها الحاد وثقافتها المتنوعة، كل ذلك كان من أهم العناصر التى كونت منها شخصية استثنائية. ولو تأملنا الوسط الفني والثقافي فى تلك الفترة نجد أن أم كلثوم عاصرت مرحلة انتقالية ما بين عصرين مختلفين في تاريخ الموسيقي العربية وهما عصر المدرسة التطريبية التي انتشرت في القرن التاسع عشر وقد عشقت أم كلثوم هذا الأسلوب التطريبي القديم من الغناء ونشأت عليه وأجادته، كما عاصرت أيضا تلك المدرسة التعبيرية التي بدأت على يد سيد درويش في بدايات القرن العشرين واستكملها القصبجي والسنباطي وعبد الوهاب وكل من جاء بعدهم، فقد غنت أم كلثوم وبرعت في المدرستين فغنت أدوارا غنائية قديمة على نفس النمط الغنائي للقرن التاسع عشر، وكان ذلك واضحاً وجلياً عندما أعادت غناء قصائد أستاذها ومعلمها الشيخ أبوالعلا محمد ( 1884 – 1927 ) حيث كانت أم كلثوم متعلقة بصوته تعلقاً كبيراً منذ أن كانت تذهب إلى الكتاب، فكانت تمر في طريقها على دوار العمدة فتسمع صوت الفونوغراف الذى يصدح بصوته، فكان يستوقفها هذا الصوت، لتقول أم كلثوم في مذكراتها «كان الفونوغراف يسكت.
ولكن صوت الشيخ أبو العلا يستمر يغني في أذني». وعندما شهدت أم كلثوم الشيخ أبو العلا عيناً لم تصدق نفسها ولم تتخيل أنه كان على قيد الحياة، لتمسك بيده وتلح عليه إلحاحاً شديداً أن يأتي معهم لزيارة بيتهم في القرية، فذهب معهم الشيخ أبو العلا وكان يوما تاريخيا لأم كلثوم، وهنا اقترح الشيخ أبوالعلا على الشيخ إبراهيم أن يترك قرية»طماي»الصغيرة وينتقل إلى القاهرة، فدهش الشيخ إبراهيم من هذا الاقتراح، وقال»لا يمكن أن نترك طماي"، فكان رد الشيخ أبوالعلا»مستقبل ابنتك أكبر من طماي وحرام أن تحبس هذه الموهبة في قرية صغيرة» ومن هنا كانت أهم انطلاقه فى حياتها الفنية لتنتقل من أم كلثوم من حدود القري الصغيرة إلى القاهرة حيث الأضواء والشهرة، وقد قالت أم كلثوم أن الشيخ أبوالعلا علمني أن أفهم الكلام قبل أن أحفظه وأغنية، فقد كنت إلى هذه اللحظة أردد الكلام بلا فهم ولا اهتمام، واستمرت صداقتي بأستاذي الشيخ أبوالعلا سنين طويلة كنت أبحث عنه في كل مكان لأستظل برعايته وأستأذيته وكنت أطالبه في كل مرة نلتقى فيها بأن يغني لي ! كان غناؤه هو غذاء روحي".
ومثلما أتقنت أم كلثوم الغناء التطريبي من خلال الشيخ أبو العلا فقد غنت وأجادت أيضا فى المدرسة التعبيرية، التى ظهرت فى بداية القرن العشرين بظهور ألوان وأشكال غنائية جديدة مثل المونولوجات العاطفية والطقاطيق والقصائد الغنائية، حيث قدمت كل هذه الأشكال الغنائية الجديدة دون منافس لها، لتمتلك أم كلثوم صوتاً معبراً، والغريب أن صوتها يجمع بين نقيضين لم يجتمعا في صوت واحد وهما»القوة والتطريب» بجانب «الإحساس والعذوبة والنعومة والتعبيرية الشديدة» في الأداء، وقد قال عنها موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب» أم كلثوم المغنية الوحيدة التي جمعت بين القوة والعاطفة والحساسية في صوتها». كان من أهم العوامل التى ساهمت فى تكوين ما تسمى ظاهرة أم كلثوم أيضاً ظهور مجموعة كبيرة من الشعراء من أعظم الشعراء في العالم العربي لتعاصر أم كلثوم تغيرات ثقافية كان لها تأثير فى مسيرتها الفنية مثل أمير الشعراء أحمد شوقى وأحمد رامي وبيرم التونسي، وأجيال أخرى من الشعراء الجدد الذين ساهموا في تطور الأغنية العربية.
كما ساعدها الحظ أيضا بظهور جيل جديد من الموسيقيين بل أجيال الذين غيروا شكل الموسيقى العربية وأعطوا لها لوناً وأسلوباً مختلفاً عما كان يقدم فى القرن التاسع عشر لينتهجوا أساليب موسيقية جديدة مثل القصبجي ورياض السنباطي والشيخ زكريا، ثم تعاملها بعد ذلك مع موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب فى لقاء السحاب عام 1964، كما كانت أم كلثوم تستعين أيضا بالملحنين الجدد والمتميزين فى كل فترة من الزمان ، لتتطور مع كل جيل جديد ولتكتسب نغمات وأساليب جديدة ومتنوعة، وكان ذلك واضحاً عندما تعاملت مع جيل جديد من الملحنين الذين ظهروا بعد ثورة 1952 وهم»محمد الموجي وكمال الطويل وبليغ حمدي»وفيما بعد الشيخ سيد مكاوي.. ولو تأملنا الواقع السياسي نجد أن أم كلثوم عاصرت حقبتين سياسيتين مختلفتين فقد ظهرت في عصر الملكية وتألقت وذاع صيتها في العالم العربي، وغنت للملك فاروق الذى منحها نيشان الكمال، كما تألقت وازدهرت بعد ثورة 1952 وغنت أروع الأغاني والقصائد الوطنية لتواكب كل الأحداث السياسية فى النصف الثاني من القرن العشرين، وكان أهمها الجهد الوطني الخارق الذى قامت به عقب هزيمة 1967 وما بذلته لدعم المجهود الحربي من خلال الحفلات التي أقامتها وحملة التبرعات التي قادتها.
ومن النقاط المهمة والتي تغيب عن الكثيرين أن أم كلثوم ظهرت في فترة كانت الأغاني الخليعة والخادشة للحياء هي السائدة، وهى التي تتصدر التسجيلات والاسطوانات وكذالك الحانات والمسارح، وذلك بسبب ظهور شركات الاسطوانات التي تنافست للتعاقد مع المطربين والمطربات والشعراء والملحنين، حيث كانت هذه الشركات سبباً رئيسياً من الأسباب التي أدت إلى انتشار تلك الطقاطيق لتشهد مصر فترة من الهبوط الفني، من حيث الكلمات الركيكة التي وصلت إلى الإسفاف، والألحان السطحية وكادت شركات الاسطوانات أن تُغرق أم كلثوم فى هذا الطريق عندما غنت أغنية واحدة من تلك الأغاني الهابطة وهي أغنية «الخلاعة والدلاعة مذهبي»، ولكن أم كلثوم سرعان ما تيقنت الأمر، ولكنها كانت تجربة مهمة جدا فى بداية مشوارها والتى جعلت منها شخصية مختلفة بين مطربات جيلها لتتعلم من هذا الموقف وأحست بدورها بأن لا تنجرف فى هذا التيار مثلما حدث لكبار المطربات آنذاك وحاولت أن تسحب الاسطوانات من الأسواق لتبدأ مرحلة جديدة هى مرحلة التحدي والتثقيف والقراءة التى لم تكن سهلة بأن تحمل على عاتقها عودة الذوق العام والتى كان فى مقدمتها تقديم الكلمة الهادفة.
كما تمسكت بالأعمال الجادة الراقية والتي لم تكن تلقى الإعجاب إلا لدى طبقات معينة من الجمهور، لتعرف أم كلثوم كيف تدير موهبتها ولتصبح بمثابة مؤسسة كبيرة تنتقى الكلمات وتختار الشعراء وتعدل الألحان وتدخل في حياتها ملحنين وشعراء جدد، وهنا جاء الدور الأهم والأعظم لأم كلثوم لتفرض نفسها على الساحة الفنية وترتقي بها لتجعل لها عصراً خاصاً بها يسمى عصر أم كلثوم لتستمر أكثر من نصف قرن من الإبداع والعطاء، فقد ساهمت أم كلثوم في تحقيق نهضة فنية انتشلت الغناء والذوق العام من الانحدار والاضمحلال إلى السمو والارتقاء، لذلك تعتبر أم كلثوم هي سيدة القصيدة العربية فى تاريخ الغناء العربي بلا منازع فلم يسبقها ولم يأت بعدها أحد، ليكون لها هذا التأثير الواضح في الثقافة العربية وليلتف حولها العالم العربي، يسمعون الشعر في أبهى تجلياته وبريقه فتغنت من التراث القديم أيضا وقدمت أعظم الأعمال حيث أعادت هؤلاء الشعراء القدامى من جديد لزمن ليس بزمانهم ليستمع إلى شعرهم العامة والبسطاء والفلاحون بعيداً عن المثقفين والمتخصصين في علم اللغة والبلاغة والشعر، ورغم صعوبة الكلمات والتركيبات اللغوية لكنهم عشقوا هذه القصائد وحفظوها وإن لم يفهموا معانيها، ولكن كانوا يتحسسون مقاصدها من خلال صوتها المعبر الصداح الشجي.
فلم تترك أم كلثوم لوناً من الغناء إلا وغنته بشكل ليس له مثيل فلم نستمع إلى القصيدة الوطنية الفصحي إلا من خلال صوتها فعندما تتجلى بقولها»وقف الخلق ينظرون جميعا كيف أبني قواعد المجد وحدي»لم يكن صوتاً عادياً ولكنه صوتاً مهيباً كأنه يأتي متخللا عبر الزمان، يسري متدفقاً من بين الأهرامات وأبي الهول بمنتهى الوقار والجلال، صوتاً يحمل عبق التاريخ والحضارة المصرية الشامخة عبر آلاف السنين مثل شموخ الأهرامات لتصبح أم كلثوم هى الأخرى هرماً جديداً من أهرامات مصر.