وصلتُ للتو إلى 5 شارع أبو الفدا الكائن في حي الزمالك العريق، طالعني تمثالها، أبدعه الفنان التشكيلي والنحات الكبير طارق الكومي، وجدتني أرفع هاتفي المحمول، التقط صورة سيلفي مع التمثال وفي الخلفية البناية التي تحمل اسمها فندق أم كلثوم.
حضرت هنا تلبيية لدعوة من صديق لمناقشة أحدث رواياته في جلسة خاصة تجمع عددًا من الأصدقاء في أحد المقاهي أسفل هذه البناية الشاهقة المطلة على النيل، والمقامة مكان فيلا أم كلثوم، التي تم اغتيالها عن عمد لصالح أحد رجال الأعمال، الذي لم يُبقِ على أي شيء من أثرها سوى الاسم.
هذه الفيلا الأنيقة، صممها ونفذها المهندس المعماري الشهير علي لبيب جبر، وشهدت حياة أم كلثوم من عام 1938 وحتى يومها الأخير. المشهد الأخير قبل الوداع فجر الخميس 30 يناير 1975 دخلت أم كلثوم في حالة غيبوبة، ونُقلت من فيلتها بالزمالك إلى مستشفى القوات المسلحة بالمعادي بلا عودة، تم تشخيص حالتها بنزيف في المخ وتدهور وظائف الكلى، مع مضاعفات في القلب، تدهورت حالتها بشكل سريع، وبدا أن كل المؤشرات تتجه بها نحو النهاية. تصدرت حالتها الصحية مانشيت جريدة «الأخبار» في عددها الصادر بتاريخ 1 فبراير 1975: «حالة أم كلثوم حرجة جدا.. حالة المخ خطيرة والأزمة القلبية في تحسن مستمر»، وبثت إذاعة أم كلثوم في الرابعة مساء أغنية أغدًا ألقاك، ليخمن محبو الست أن رحلتها مع الحياة قاربت على الانتهاء.
توجه رئيس الوزراء الدكتور عبدالعزيز حجازى، إلى مستشفى المعادى لزيارتها، واستقبله مديرها اللواء مصطفى الشيتى، والدكتور حسن الحفناوى زوج أم كلثوم وأفراد من أسرتها، أبلغهم أن الرئيس السادات أصدر تعليماته أن الدولة على استعداد لتلبية أى طلب فورًا لإنقاذ حياة أم كلثوم، واتصلت السيدة جيهان السادات بالمستشفى، واستفسرت عن جدوى إجراء أي عملية جراحية، وأكدت مرة أخرى أن الرئيس السادات على استعداد لتخصيص طائرة خاصة للإقلاع بها فورا إلى أى مكان فى العالم، أخبرها الدكتور الحفناوى أن جميع الأخصائيين والجراحين قرروا عدم جدوى أي عمليات. في نفس هذا اليوم أعلنت الإذاعة نبأً عن موتها، أثار حالة من الحزن والفزع والارتباك، بعدها بدقائق نفت المستشفى الخبر في بيان رسمي، يؤكد على أنه «ما زالت السيدة أم كلثوم فى حجرة الإنعاش بمستشفى القوات المسلحة بالمعادى، تقدم لها الرعاية الصحية، وغير صحيح ما أذيع عن وفاتها، ووقع على البيان العميد طبيب زكريا الباز رئيس قسم الكلى بالمستشفى والطبيب المعالج لها»
وجدير بالذكر أنه قبل هذا البيان صدر تقريران طبيان أكدا أن الإصابة فى المخ منذ وقوعها قد أحدثت تلفًا دائمًا فى خلاياه، غير قابل للشفاء أو التحسن ولا تجدى معها أى عمليات جراحية، وأمر الدكتور كمال أبوالمجد، وزير الإعلام بإجراء تحقيق عن مصدر الخبر الكاذب، وتوجه لأسرة أم كلثوم بالاعتذار. المشهد الأخير في الثالث من مثل هذا الشهر – فبراير – في تمام الساعة الرابعة وثلاثين دقيقة منذ نصف قرن من الزمان توقف قلب أم كلثوم، العامر بالغناء وحب الحياة، لم يستجب لمحاولات الإنعاش المستمرة، وأصبح موتها أمرًا واقعًا، يجب الإعلان عنه، انقطع إرسال الإذاعة المصرية، لتبث بيانًا من مجلس الوزراء، يعلن للعالم نبأ موتها، وليخرج في اليوم التالي مانشيت جريدة الأخبار: "ماتت أم كلثوم".
اضطربت دقات القلب .. ثم أبطأت .. وتوقفت الحياة في الساعة الرابعة وثلاثين دقيقة قصة الصراع بين أم كلثوم والموت في ١٠٠ ساعة وفي 4 فبراير قبل الجنازة بيوم واحد، افتتح رئيس مجلس الشعب سيد مرعى الجلسات بكلمة عن أم كلثوم، وتحدث عنها كل من النائبة والمطربة الشهيرة فايدة كامل، والدكتور فؤاد محيى الدين، وزير الصحة، وتوقفت مباراة بين الأهلى وبنى سويف فى الدورى العام دقيقة حدادًا على روحها، وأكدت برقيات العزاء العربية أن صوت أم كلثوم كان يوحد العرب، على سماعها في الخميس من مطلع كل شهر، ورسم صلاح جاهين كاريكاتير فى الأهرام «5 فبراير» تحت عنوان: «كل العرب فى القاهرة اليوم»، يوجه فيه رجل الحديث إلى شخص آخر، يرمز إلى العالم بوضع كرة أرضية بدلًا من رأسه قائلًا له:
«عشان تعرف إن العرب عندهم حاجة تانية غير البترول». مشهد الوداع فجر الخامس من فبراير 1975 أضيئت أنوار مستشفى القوات المسلحة بالمعادى، أخرج الأطباء جثمان أم كلثوم من ثلاجة حفظ الموتى، في حضور شقيقتها سيدة وابنة شقيقتها سعدية وبعض من أقاربها، تم تغسيلها بزجاجتين من ماء زمزم، أرسلهما الأمير عبد الله الفيصل، الذي تغنت أم كلثوم بقصائده، وحضر خصيصًا لتوديعها، ثم قاموا بتكفينها بعدد 11 ثوبا، كان آخرها ثوبًا من الملس الأخضر الفلاحى، رمز أرض النيل التي خرجت أم كلثوم من إحدى قراها. فى السادسة صباحا حُمل الجثمان إلى مسجد عمر مكرم، وأغلق المسجد بشكل تام، وفي العاشرة والنصف أقيمت صلاة الجنازة، وأمَّها وزير الأوقاف عبدالعزيز كامل. في الساعة الحادية عشرة لف النعش بالعلم المصري، وأعطيت الإشارة لفرقة موسيقى الأمن، لتعزف لحنها الجنائزى، وتحركت الجنازة من الجامع إلى ميدان التحرير، وسط حشد من الآلاف على الجانبين، ليتحول المشهد فى لحظة واحدة إلى لوحة بديعة، أيادٍ ممتدة تلوح بمناديل بيضاء، وهدير يرج الأرض: «لا إله إلا الله .. لا إله إلا الله».
احتشدت الجنازة بكبار رجال الدولة والسفراء العرب، يتقدمهم الدكتور عبدالعزيز حجازى، رئيس الوزراء، وسيد مرعى، رئيس مجلس الشعب، وحسن كامل، مندوبًا عن أنور السادات رئيس الجمهورية، والدكتور عزيز صدقى، مساعد رئيس الجمهورية، وممدوح سالم، نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية، والدكتور عبدالعزيز كامل، وزير الأوقاف، ويوسف السباعى، وزير الثقافة، وكمال أبوالمجد، وزير الإعلام، والأمين العام للجامعة العربية ووزراء الخارجية العرب والدفاع الذين كانوا مجتمعين حينها فى القاهرة. انصرفوا جميعهم، بعد تدافع الجماهير الملتفة حول النعش، وكسرهم الحواجز، ليلتفوا حول الجثمان، ويتخاطفوه من فوق أكتاف رجال الشرطة، ويسيرون به لمدة ثلاث ساعات متواصلة من ميدان التحرير إلى ميدان طلعت حرب، ومن شارع قصر النيل إلى العتبة، لينتهوا عند مسجد الحسين، ليصلوا عليها مرة ثانية خلف الشيخ حلمى عرفة إمام المسجد، وهم يهتفون "لا إله إلا الله.. فنانة الشعب في رحاب الله"، «مع السلامة.. مع السلامة يا ست.. مع السلامة يا ثومة.. يا صوت الشعب .. يا صوت الخير .. مع السلامة يا عظمة مصر»، ليودعوها في جنازة مهيب، تعد واحدة من أكبر الجنازات في العالم شعبية بعد جنازتي غاندي وجمال عبد الناصر، حيث قُدر عدد المشيعين بأكثر أربعة ملايين مواطن.
انهالت بعدها برقيات العزاء والمواساة من الرؤساء والملوك العرب للرئيس السادات، ومن كل مكان في العالم، تتغزل في عظمة الست، وأسدل الستار عن حياتها، وتبقى كلماتها الصادقة حين تحدثت مرة عن موتها قائلة: أعتقد أن أهم ما يمكن أن يُكتب عني بعد موتي أني نقلتُ الجمهور من الإسفاف الغنائي الذي كان يعيشه في أغنيات مثل "ارخي الستارة اللي في ريحنا" إلى مستوى "إنّ حالي في هواها عجب"، و"الصبّ تفضحه عيونه"، و"رباعيات الخيام". رحلت أم كلثوم سيدة الألقاب: الست وكوكب الشرق وملكة النيل وفنانة الشعب وسيدة الغناء العربي وقيثارة العرب وصوت مصر، وتركت -هي التي لم تنجب- إرثاً عظيمًا لمحبيها وعشاقها وللأجيال القادمة، لا يقدر بمال أو ذهب، أكثر من 300 أغنية، قدمتها عبر رحلة امتدت لنحو ستين عامًا.
أعود في النهاية مرة أخرى من حيث بدأت، كنتُ خارجًا من المقهى أسفل الفندق الذي يحمل اسمها، وبعد الانتهاء من مناقشة رواية صديقي الجديدة، ملأت صدري بنسمة هواء عابرة، وتأملت تمثالها، وهي تقف بشموخ، تنظر اتجاه النيل، وتداعت ذكرياتي عنها، ارتبط تاريخ يوم ميلادها بنفس تاريخ ميلاد أبي رحمه الله، في اليوم الأخير من السنة، 31 من ديسمبر، وتذكرت أيضًا أيام المذاكرة على أغنياتها، المنطلقة من الإذاعة التي تحمل اسمها على فترتين في الخامسة والتاسعة مساءً، وأتذكر عودت عيني أول شريط أهدته لي زوجتي أيام الخطوبة، والكثير من الذكريات الأخرى التي ارتبطت بأغنياتها عبر مراحل حياتي المختلفة، فمن من جيلنا لم يعشق كلمات أغنياتها وهي تشدو بها، كل هذا الحنين يجعلني استدعي مقولة الفنان العالمي عمر الشريف عن أم كلثوم حين يقول: لماذا نشعر بالارتباط بها؟ ربما كل منا يسمع قصته في أغانيها.
وأذكر قصيدة الشاعر الغنائي الراحل عبد الوهاب محمد في رثائها: باحسد عليك الملايكة اللي حتسمع لك وباحسد عليك اللي حيسبقني ويطلعلك يا بنت مصر العظيمة اللي ماليها مثيل يا سلسبيل كان راوينا زي نهر النيل نشرب منين بعد منك مغنى أو مواويل النبع جف. إنما البركة في الموجود ولو أن أصل الأصول ما يعرفش تسجيل.