مع خروج النبي -صلى الله عليه وسلم- من مكة، الذي قضى بين أكنافها أكثر من 50 عامًا مهاجرًا، وقف على "الْحَزورة"، وقال عنها "إنك لخير أرض الله، وأحب أرضٍ إليَّ، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت"، كلمات عبر بها عن شدة حزنه لمفارقة هذا البلد الذي اختصه الله -سبحانه وتعالى- بجعله أشرف البقاع وأطهرها.
لكن ذلك الحزن سيتضاعف عليه -صلى الله عليه وسلم- عندما يصل إلى وجهته المدينة، فحين كان في مكة، كان عندما يصلي يتوجه تجاه بيت المقدس، ولكن بحكم جغرافية الموقع، كان في الوقت نفسه يستقبل الكعبة أيضًا، فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يُصلِّي وهو بمكةَ نَحْوَ بيتِ المقدسِ والكعبةُ بينَ يدَيهِ"، (أخرجه أحمد)، أما في المدينة، تعذر عليه الجمع بين الاثنين، فكان يولي وجهه تجاه بيت المقدس فقط.
زاد ذلك من شعور النبي -صلى الله عليه وسلم- بالحنين إلى مكة، وفضلًا عن ذلك كانت المدينة تضم ملة لم يجاورها -صلى الله عليه وسلم- من قبل، وهم اليهود، الذين كانوا يشتركون معه في نفس القبلة، ومع ذلك، لم يزدهم ذلك إلا عنادًا وتكذيبًا.
تلك العوامل دفعت النبي -صلي الله عليه وسلم- إلى تمني أن تكون قبلته الكعبة، حيث جاء في تفسير "ابن كثير" أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما هاجر إلى المدينة، وكان أكثر أهلها اليهود، فأمره الله أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بضعة عشر شهرًا، وكان يحب قبلة إبراهيم فكان يدعو إلى الله وينظر إلى السماء.
وورد أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لجبريل وددت أن يصرف الله وجهي عن قبلة اليهود فقال إنما أنا عبد فادع ربك واسأله، فجعل يقلب وجهه في السماء يرجو ذلك حتى أنزل الله عليه:"قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ۗ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ"، (144) سورة البقرة.
ويذهب "الجمهور" إلى أن ذلك وقع في نصف شعبان من السنة الثانية للهجرة، وذلك وفق ما أورده "ابن كثير" في كتاب "البداية والنهاية".
بيدا أن ابن إسحاق يقول إن تحويل القبلة كان في رجب على رأس 17 شهرًا من مقدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة، بحسب ما نقله عنه ابن هشام في سيرته.
وهكذا كان للنبي -صلى الله عليه وسلم- ما رغب فيه، حيث أصبحت القبلة تجاه الكعبة، وكان ذلك تكريمًا له، حيث يدل على ذلك، قوله "قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا"، فوصف الله -سبحانه وتعالى- القبلة الموُلى إليها، بما يدل على أن من أغراض هذه التولية إرضاء رغبته.
وبينما كانت استجابة المؤمنين صدقًا وهداية ونورًا، حيث سارعوا إلى امتثال الأمر، زاد ذلك المشركين عنادًا على عنادهم، فقالوا: "يوشك أن يرجع محمدٌ إلى ديننا كما رجع إلى قِبلتِنا".
مقالة السفهاء عن خير الأمم
لما تحولت القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة، أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جماعة من اليهود، فقالوا:"يا محمد ما ولاك عن قبلتك التي كنت عليها وأنت تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه؟ ارجع إلى قبلتك التي كنت عليها نتبعك ونصدقك، وإنما يريدون بذلك فتنته عن دينه"، وذلك كما جاء في سيرة ابن هشام.
كما قالوا:"خالف قبلة الأنبياء قبله، ولو كان نبيًا لكان يصلي إلى قبلة الأنبياء"، فكان رد الله -سبحانه وتعالى- عليهم:"سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ۚ قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ۚ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ"، (142) سورة البقرة.
استمر اليهود في حديثهم حول هذا الموضوع، فقالوا للمسلمين:"أخبرونا عن صلاتكم نحو بيت المقدس، إن كانت هُدًى فقد تحولتم عنها، وإن كانت ضلالة فقد دِنْتُم الله بها، ومن مات منكم عليها فقد مات على الضلالة"، فرد عليهم المسلمون: "إنما الهدى ما أمر الله به، والضلالة مانهى الله عنه".
فسألهم اليهود عن شهادتهم على من مات من المسلمين على قبلتهم؟ وكان قد مات قبل أن تحول القبلة من المسلمين أسعد بن زرارة من بني النجار، والبراء بن معرور من بني سلمة، وكانوا من النقباء، ورجال آخرون، فانطلق عشائرهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله قد صرفك الله إلى قبلة إبراهيم فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله -تعالى- قوله: {وما كان الله ليضيع إيمانكم} أي: صلاتكم إلى بيت المقدس،{إن الله بالناس لرؤوف رحيم}، بحسب تفسير "الإمام البغوي" كما أورد الأزهر الشريف.
فيما قال المشركون: "كما رجع إلى قبلتنا يوشك أن يرجع إلى ديننا، وما رجع إليها إلا أنه الحق".
أما المنافقون، فقالوا:"ما يدري محمد أين يتوجه إن كانت الأولى حقًا فقد تركها، وإن كانت الثانية هي الحق فقد كان على باطل"، وكثرت أوقاويل الناس، وكانت كما قال الله -تعالى- في الآية (143) من سورة البقرة، وذلك نقلًا عن كتاب "زاد المعاد في هدي خير العباد".
وحول قول الله -تعالى-:"وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ ۚ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۗ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ"، (143) سورة البقرة، يقول ابن كثير في تفسيره، إنما حولناكم إلى قبلة إبراهيم -عليه السلام- واخترناها لكم لنجعلكم خيار الأمم، لتكونوا يوم القيامة شهداء على الأمم، لأن الجميع معترفون لكم بالفضل.
ويضيف:"إنما شرعنا لك يا محمد التوجه أولًا إلى بيت المقدس، ثم صرفناك عنها إلى الكعبة، ليظهر حال من يتبعك ويطيعك ويستقبل معك حيثما توجهت ممن ينقلب على عقبيه، أي: مرتدًا عن دينه".
ويتابع:"وإن كانت لكبيرة أي: هذه الفعلة، وهو صرف التوجه عن بيت المقدس إلى الكعبة، أي: وإن كان هذا الأمر عظيمًا في النفوس، إلا على الذين هدى الله قلوبهم، وأيقنوا بتصديق الرسول، وأن كل ما جاء به فهو الحق الذي لا مرية فيه، وأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فله أن يكلف عباده بما شاء، وينسخ ما يشاء، وله الحكمة التامة والحجة البالغة في جميع ذلك".
وأردف:" أن ذلك بخلاف الذين في قلوبهم مرض، فإنه كلما حدث أمر أحدث لهم شكًا، كما يحصل للذين آمنوا إيقان وتصديق".
مقاصد تحويل القبلة
حول ذلك، قال الدكتور عبد العزيز النجار، أحد علماء الأزهر الشريف، إن تحويل القبلة له أثر عظيم وفائدة كبرى في تاريخ الدولة الإسلامية، ولو شاء ربنا -جل في علاه- لجعل القبلة الثانية، وهي الكعبة منذ البداية قبلة للمسلمين.
ويضيف الدكتور عبد العزيز النجار، في حديث لـ"دار الهلال"، أن الله -تبارك وتعالى- أراد أن يثبت للبشرية كلها أن قدس الأقداس، هو القبلة الأولى للمسلمين، ولا يدعي غير المسلمين أن لهم حقًا في القدس الشريف.
ويوضح أن هناك مقصد ثاني من تحويل القبلة، هو أن الله -تبارك وتعالى- أراد أن يبين للنبي -صلى الله عليه وسلم- المسلم الحقيقي من المنافق، حيث قال -تعالى-:"وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ ۚ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۗ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ"، (143) سورة البقرة.
ويردف أن من خلال ذلك التحويل وضح المولى -عز وجل- للنبي -صلى الله عليه وسلم- من يستجيب ومن لا يستجيب، حيث إن بعض المسلمين، وهم يصلون صلاة العصر، جاءهم خبر التحويل، فصلوا نصف الصلاة ناحية بيت المقدس، ونصفها الآخر ناحية الكعبة المشرفة، لكي يثبت الله -عز وجل- أن له المشرق والمغرب "فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ"، (115) سورة البقرة، معقبًا:"فالله -عز وجل- ليس له مكان فنحن نأتمر ونتوجه حيث أمرنا الله".
ويسلط العالم الأزهري الضوء على المقصد الثالث من تحويل القبلة، حيث أوضح أنه عندما اشتاقت نفس النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المسجد الحرام الذي تربى في أكنافه، وكان بينه وبين الكعبة عشق، وكان هناك تلاقي، قال -تعالى-"قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا"، ثم أمره:"فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ"، (144) سورة البقرة.
ومن هنا يتبين لنا مكانة النبي -صلى الله عليه وسلم- عند الله، ومكانة أمة النبي -صلى الله عليه وسلم- عند الله، فموسى يقول:"وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ"، ونبينا يقال له:"فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا"، وفقًا له.
الحكمة من تحويل القبلة
وبسؤاله حول إن كان ذلك نسخ أم لا، يقول "النجار"، إن الله -عز وجل- أراد في زمنٍ ما أن يتجه المسلمون إلى بيت المقدس لحكمة بينها الله -عز وجل- في القرآن الكريم، ثم بعد ذلك جاء تحويل القبلة، وهو مقدر عند الله -عز وجل- فتوافق مراد الله مع مراد حبيبه محمد -صلى الله عليه وسلم- فكان تحويل القبلة ناحية الكعبة، وبذلك ليس هناك نسخ، فذلك هو ثالث الحرمين وأولى القبلتين (المسجد الأقصى)، وهذا هو ثاني القبلتين وأول مسجد وُضع للناس في الأرض (المسجد الحرام) فليس هناك تغيير فالأماكن كلها لله.
وكذلك الخمر، كما يضيف النجار، الذي أوضح أن الله -عز وجل- لم ينسخ حكمها، حيث إنها لم تكن حلالًا، وإنما كانت عادة العرب، وعندما أراد الله -عز وجل- أن يحرم الخمر، حرمها على مراحل، وهو ما أثبته العلم الحديث، حيث كشف أن كل من يتعاطى المسكرات والمخدرات، إذا توقف عنها مرة واحدة، فإن الجسم يحدث له أمراض كثيرة ومشاكل، حتى إن من يريد أن يعالجه الأطباء، فهو يعالج بنفس المادة التي كان يتناولها، ولكن يخففون الأمر رويدًا رويدًا حتى يتم سحب ذلك من الجسم.
مختتمًا أن من هنا كانت الحكمة من التدرج، حتى لا يصاب من يتوقف ويلتزم فورًا عن شرب الخمر أو ما شابه الخمر بأمراض في جسده أو في عقله، وهذا ما أثبته العلم الحديث.
محطة فاصلة في تاريخ الأمه
يوضح الأزهر الشريف، أن تحويل القبلة ليس مجرد تغيير وجهة للمسلمين في صلاتهم من جهة إلى أخرى، إذ "لله المشرق والمغرب"، بل هو حدث من الأحداث الفارقة في تاريخ الإسلام خلص الله -سبحانه وتعالى- من خلاله الدين، ونقى أتباعه من بعض المتطرفين فكريًا المتشددين في آرائهم.
ويضيف أنها كشفت خبيئة المنافقين الذين يتظاهرون بالإسلام وفي باطنهم كراهية وبغض للإسلام والمسلمين، حتى صاروا أشد خطرًا على الدين ممن يعلنون له العداء.
ويؤكد أنه رغم تحول المسلمين في صلاتهم من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، فإن القلوب والعقول ما زالت متعلقة بأولى القبلتين المسجد الأقصى الشريف، مبتهلة إلى الله أن يخلصه من دنس الاحتلال ويردسه إلى المسلمين ردًا جميلًا عاجلًا غير آجل، كما يقول الأزهر.