تطمئن النفس إلى صحة مقولة إن مصر هي عاصمة دولة التلاوة، وإن مدرسة القرآن المصرية كانت -وما زالت- هي الأولى والأهم والأشهر والأكثر نفوذًا وتأثيرًا، بكل ما تتفرد به من بصمة خاصة في فن الأداء، وما تتميز به بالحفظ التام والتمكن وحلاوة الصوت الذي يصل بالمعاني إلى شغاف القلوب.
الشاهد أن مصر لها السبق في حمل راية القرآن الكريم، حيث كانت أرض الكنانة راعية القرآن الكريم منذ أن سمعته في عهدها الأول، منذ أن دخل القرآن الكريم على يد الصحابة الكرام، وتوالت الأجيال في ترتيل القرآن الكريم وإتقان علومه وفنون تلاوته وترتيله وتفسيره، والحياة به وصناعة الحضارة منه. ضمت مصر عددًا من الشموس الساطعة في سماء التلاوة من عباقرة القراء الذين أصغى إليهم العالم بفضل حُسن الموهبة وبديع الصوت وجميل الأداء المبهر.
ونحن لا نجاوز الحقيقة حين نقول إن كبار أئمة القراءات وفنون التجويد كانوا من أرض الكنانة مصر، فشيخ الإسلام زكريا الأنصاري هو مدار أسانيد القراء، والإمام المتولي الكبير كان عليه مدار أسانيد القراءة في زمانه، والإمام الشاطبي صاحب متن الشاطبية مدفون في سفح المقطم، فأئمة القراءة والتجويد إما أن يكونوا خرجوا من مصر أو آووا إلى أرض الكنانة مصر.
ويقر كثيرون بأن مصر قبلة العلوم والمعارف وراعية القرآن الكريم وحاضنته، وتشرفت بخدمة القرآن الكريم منذ أن استمعت إليه وأصغت له، حتى شاع على ألسنة القراء والعلماء أن القرآن الكريم نزل بمكة المكرمة وتلي ورتل بأرض الكنانة.
الرواد والمجددون
ثمة شبه إجماع على اعتبار الشيخ أحمد ندا هو المؤسس الفعلي لدولة التلاوة في مصر الحديثة، وبه تبدأ المسيرة والصفحة الأولى. الشاهد أن ظهور الشيخ أحمد ندا في بدايات القرن العشرين يمثل حدثًا فارقًا وتأسيسًا فعليًا لمدرسة القرآن المصرية الحديثة. اشتهر الشيخ أحمد ندا بعذوبة صوته، وكانت له طريقة خاصة في التلاوة، تأخذ بالأسماع والقلوب.
وما نعلمه هو أن الشيخ أحمد ندا أصبح في عصره أغلى مقرئ في مصر، وقفز أجره في سنوات معدودات من خمسة جنيهات إلى 100 جنيه، وحقق ثروة كبيرة، فانتقل من حارته في العباسية إلى قصر اشتراه وكان يقيم به ندوات يدعو إليها رجال الحُكم والسياسة والأدب، كما أصبحت له عربة «حنطور» تجرها ستة خيول، الأمر الذي أغضب الخديوي، فأجبره على أن يكتفي في عربته بحصانين فقط.
اللافت للانتباه أن الشيخ أحمد ندا رفض تسجيل القرآن، وكانت حجته شرعية، فالأسطوانة التي ستحمل صوته قارئًا لكتاب الله لا تليق بجلاله، ومعرضة للإلقاء في أماكن لا تتفق مع قدسيته.
وكان من حُسن الحظ أن فترة مطلع القرن العشرين شهدت سطوع أسماء أخرى في عالم التلاوة، ومنهم الشيخ يوسف المنيلاوي، الذي عاصر الشيخ ندا، بل كان أكبر منه عمرًا، وكان صديقًا للشيخ سلامة حجازي الرائد المسرحي الشهير، وكان يتمتع بصوتٍ متفرد وصفه الشيخ عبدالعزيز البشري، الكاتب والصحفي المرموق، بأنه كان شجيًا وفيه حزنٌ وشجن.
هناك أيضًا الشيخ محمد القهاوي، المقرئ المفضل للزعيم سعد زغلول، وكان المثل الأعلى لتلميذه الشيخ محمد رفعت، الذي كان وصفه بأنه أجمل الأصوات وأرقها وأعذبها. بطبيعة الحال، ثمة أسماء أخرى لامعة في عالم التلاوة، مثل منصور الشامي الدمنهوري، حمدي الزامل، كامل يوسف البهتيمي، راغب مصطفى غلوش، طه الفشني، محمد الفيومي، عبدالفتاح الشعشاعي، أبو العينين شعيشع، عبدالعظيم زاهر، أحمد الرزيقي.. وغيرهم.
الشعشاعي وعمران
وإذا تحدَّثنا عن هؤلاء، فإن أحد أكثر الأسماء سطوعًا هو الشيخ محمود عبدالفتاح كرير الشهير باسم “عبد الفتاح الشعشاعي”. وُلِدَ في 21 مارس 1890 بقرية شعشاع بمحافظة المنوفية، وكان والده قارئًا للقرآن ليلًا ومحفِّظًا للقرآن نهارًا، مما أعانه على حفظ كتاب الله كاملًا في عمر الثالثة عشر، قبل أن يسافر إلى طنطا ليتعلم أحكام التجويد على يد الشيخ إسماعيل الشافعي.
التحق الشعشاعي بعد ذلك بمدرسة لتخريج المعملين في قليوب وحصل منها على شهادة عريف وفقيه، ليعمل مدرسًا لثلاثة أعوام في المدرسة التي افتتحها والده بشعشاع.
وبعد أن بدأ في قراءة القرآن الكريم وذاع صيته في شعشاع والقرى المجاورة، ذهب للقاهرة في 1915، وسكن في حي الجمالية على مقربة من الجامع الأزهر، حيث درس القراءات السبع على يد الشيخ محمد بيومي والشيخ علي سبيع، وهما من أشهر معلمي القراءات في زمانهما، وبدأ الشعشاعي يصعد سلم الشهرة درجة درجة.
وللشيخ الشعشاعي لون خاص في التلاوة فهو لم يقلد أحدًا ممن سبقوه، بل كان له أسلوب فريد يصعب حتى على من لحقه تقليده، والسبب في ذلك أن أسلوبه يعتمد بالأساس على قوة صوته المميز.
ظل الشيخ الشعشاعي فترة غير قصيرة بعد افتتاح الإذاعة المصرية في نهاية مايو 1934 مترددًا في القراءة بها، فقد كان يعتقد أن قراءة القرآن في الإذاعة إهانة لكلام الله، وظل على رأيه حتى وفاة الملك فؤاد في 1936، وأُقيمت ثلاث ليال لإحياء مأتمه بقصر عابدين، دُعي إليها كبار القراء وعلى رأسهم الشعشاعي، وفي أعقاب إحياء ليالي المأتم واصل مدير الإذاعة وقتئذ الأستاذ سعيد لطفي محاولاته لإقناع الشيخ بالعدول عن رأيه، وقد حمل معه فتوى شرعية من شيخ الأزهر الإمام مصطفى المراغي مفادها أن قراءة القرآن الكريم في الإذاعة ليست حرامًا ولا مكروهًا، الأمر الذي اطمأن له الشيخ الشعشاعي، وبدأ على أثره التسجيل للإذاعة حتى وصلت تسجيلاته ثلاثمائة، لا يتداول منهم في الإذاعة سوى أربعة تسجيلات فقط.
ويجوز الوقوف طويلًا أمام أحد أبرز أعلام محافظة سوهاج، بل وأحد الأسماء اللامعة في مجال التلاوة والابتهالات الدينية في مصر والعالم العربي. الشيخ محمد عمران في 10 أكتوبر 1944 في مركز طهطا بمحافظة سوهاج، حيث نشأ في بيئة دينية ساعدته على اكتشاف موهبته الفطرية في حفظ القرآن الكريم. سرعان ما أصبح الشيخ عمران من أشهر المبتهلين في مصر، حيث جمع بين تلاوة القرآن الكريم والإنشاد الديني، وأصبح له صوتٌ مميز يلامس القلوب، محققًا شهرة واسعة في مجال التلاوة الدينية والمناسبات الدينية.
بدأ الشيخ عمران مسيرته في عالم التلاوة في سن مبكرة، حيث حفظ القرآن الكريم في العاشرة من عمره على يد الشيخ محمود المصري في مسقط رأسه في طهطا. وفي سن الحادية عشرة، انتقل إلى القاهرة، حيث التحق بمعهد المكفوفين للموسيقى، ليتلقى دروسًا متقدمة في الإنشاد والموشحات الدينية على يد الشيخ سيد موسى. وعلى الرغم من التحديات التي واجهته بسبب إعاقته البصرية، فإنه استطاع أن يُثبت نفسه في هذا المجال بفضل عزيمته وإرادته القوية.
توفي الشيخ عمران في 6 أكتوبر 1994، بعد معاناة طويلة مع مرض الكبد.
أعمدة التلاوة
ولعل أعمدة التلاوة في مصر هم: محمد رفعت ومصطفى إسماعيل وعبدالباسط عبدالصمد ومحمود خليل الحصري ومحمد صديق المنشاوي ومحمود علي البنا ومحمد محمود الطبلاوي.
وحين نتناول سيرة الشيخ محمد رفعت (1882-1950)، الذي جمع صوته بين القوة والتمكن والخشوع. ورغم بدائية التسجيلات التي نسمعها للشيخ محمد رفعت، فإن صوته يظل بحق «قيثارة السماء». دعونا لا ننسى أن صوت الشيخ محمد رفعت كان مطواعًا وفيه سخاء شديد مهما اختلفت الطبقة التي يؤدي منها، سواء من «قرار» صوته أو من «جواباته» العليا.
وقد لا يعرف كثيرون أن الشيخ محمد رفعت كان متصوفًا، ينتمي إلى الطريقة النقشبندية، وهي طريقة أسسها شاه نقشبند.
أما الشيخ مصطفى إسماعيل (1905-1978) فقد تبارى عشرات من أكابر أهل القرآن في إبداء الإعجاب بصوته وقدراته، منذ أن جاء من طنطا إلى القاهرة، ليصبح طوال أكثر من ربع قرن أبرز نجوم دولة التلاوة. صوت مكتمل الجمال والقوة في جميع درجاته، يجيد الإحساس بكل ألفاظ القرآن ومفرداته. وليس سرًا أن أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب كانا من أحرص الناس على الاستماع إلى تلاوته للقرآن الكريم.
ويمثل صوت الشيخ عبدالباسط عبدالصمد (1927-1988) حالة فريدة. وإذا كان محمود السعدني يرى أن صوت الشيخ رفعت له مذاق التفاح، وصوت الشيخ مصطفى إسماعيل في حلاوة العنب البناتي، ويشعر في صوت الشيخ محمود خليل الحصري بطعم الجوافة، وصوت محمود علي البنا له حلاوة البطيخ الشلين، وفي صوت الشعشاعي مذاق الرمان.. فإنه اختار لصوت الشيخ عبدالباسط عبدالصمد مذاق الخوخ. ويظل صوت الشيخ عبدالباسط واحدًا من العلامات الكبرى في دولة التلاوة المصرية؛ إذ يجمع بين الرقة والخشوع والصفاء والحزن النبيل.
صوت يتسم بطول النفس والقدرة على تلاوة الآيات في نفسٍ واحد بسهولة وعذوبة.
ويعد الشيخ محمد صديق المنشاوي (1920-1969) صوتًا يفيض بالخشوع، حتى إنه نال لقب ريحانة المقرئين، وكان يوصف بأنه قطب التلاوة، وكانت له مدرسته في التلاوة، فلم يقلد أحدًا، وكان شعاره «أنا لا أخرج من الصعيد.. ولا الصعيد يخرج مني»!
ويُنظر إلى الشيخ محمود علي البنا (1985 - 1926) على أنه أمير قرآن الفجر وملك «القفلات». والذين عاشوا زمن البنا وسعدوا بالاستماع إليه في تلاواته الحية، يدركون معنى الأجواء الملائكية التي كانت تحف بهذه المجالس، خاصة في تلاوات صلاة الفجر، حيث كان يتجلى فيها صوته ويصل بأدائه إلى ذُرىً رفيعة.
ويمكن أن نطلق على الشيخ محمود خليل الحصري (1917-1980) لقب «حارس القرآن» و«وزير دولة التلاوة»؛ إذ كان صاحب أداءٍ فذ في القراءة المتقنة والالتزام الصارم بالأحكام. من هنا يمكن فهم الحرص على تسجيلات الشيخ الحصري وبثها عبر إذاعة صاحب مدرسة في التلاوة اعتبرها كثيرون «الميزان» الذي يمكنك أن تقيس عليها وتحتكم إليها.
آخرهم الطبلاوي
أما الشيخ محمد محمود الطبلاوي (1934-2020) فقد اعتبره الكاتب محمود السعدني «آخر حبة في سبحة المقرئين العظام» بفضل صوته الذي يمتاز بالحلاوة والطلاوة، وكان يفاخر بأنه أغلى مقرئ في مصر، وكان يركب سيارات فارهة. وكان المقرئ المصري الوحيد الذي طلبه العاهل الأردني الملك حسين ليقرأ في عزاء والدته الملكة زين، وطلبه الرئيس السوري حافظ الأسد ليقرأ في عزاء ابنه باسل.
ويؤرخ السعدني لحياة الطبلاوي قائلًا: “بدأ حياته موظفًا بإحدى الشركات، وكانت وظيفته هي قراءة القرآن ورفع الأذان في مسجد الشركة، ولم يحقق الشهرة التي يستحقها لأنه عجز في البداية عن الوصول إلى أجهزة الإعلام”.
ويضيف: “كان السبب في شهرته تلك التسجيلات التي سجلتها له إحدى شركات إنتاج الاسطوانات، والتي كان يتولى الإشراف عليها الشاعر مأمون الشناوي، الذي صرخ عند سماع الطبلاوي قائلًا: هذا الشيخ سيكون هو قارئ الزمن الآتي”.
وأدت هذه الأسطوانات إلى انفجار شهرة الطبلاوي كالبركان، بحسب ما أكده السعدني، الذي نقل عن الشاعر العراقي حميد سعيد قوله: “عندما أستمع إلى الطبلاوي وهو يقرأ، أنفجر باكيًا لأن صوته يحمل هموم وأحزان كل العرب القدامى والمحدثين”.