«دولة التلاوة» اسم لا يتردد إلا مقترنًا بمصر وأزهرها، جابوا الآفاق صدَّاحين ما ارتحلوا، كلمات سطرها التاريخ من ذهب للملك خالد بن عبدالعزيز قالها مأخوذا بفرادة صوت القارئ محمد محمود الطبلاوي: «القرآن الكريم نزل فى الجزيرة العربية، وطبع فى إسطنبول، وقرئ فى مصر»، وعندما أنشأت المملكة العربية السعودية إذاعتها استعانت بقراء مصر لتسجيل القرآن، وفي العراق أواخر الثلاثينيات عند وفاة والدة الملك ما شدا في ليالي العزاء إلا قراء مصر، وعندما زار أستاذنا العلامة د.محمود الطناحي -رحمه الله- تركيا وفي صلاته بمساجدها الكبرى لم تسمع أذناه سوى أصوات قراء مصر...هذا قليل من كثير لو تتبعناه لضاق الوقت وعجزت الكلمات.
في قرية مجول التابعة لمركز بنها بمحافظة القليوبية -تلك القرية التي كدَّ أهلها فأثمرت شجرتها ثمارًا يانعات، ونجومًا في سماء الكون بالنور ناصعات كنبوية موسى والشيخ عبدالعظيم زاهر- لمع نجم أحد رواد تلك المدرسة، الشيخ منصور بدار، الذي أحسن الكاتب الراحل محمود السعدني قولًا عنه في كتابه "ألحان السماء": "إن الأصوات كالمعادن بعضها كالصفيح وبعضها كالفضة وبعضها لها بريق الذهب وبعضها له رنينه ويندر جدا أن يكون الصوت من الذهب. ومن هذه الأصوات الذهبية صوت الشيخ منصور بدار، الذي اعتزل القراءة وآثر الراحة في قريته حتى وافته المنية".
كثيرًا ما قرأت عنه وتكلمت مع صفوة من عاشقيه أمثال الأستاذ شكري القاضي وكتابه "عباقرة دولة التلاوة" قبل أكثر من خمسة عشر عامًا، ولعل أبرزهم أستاذنا العلَّامة د.نبيل حنفي محمود الذي هاتفني في رمضان السابق على وفاته -رحمه الله- وكان حديثنا عن الشيخ بدار، وكان حزينا لعدم سماعه صوت الشيخ، وما أعظم سعادته عندما أخبرته أن ثمًّة تسجيل نادر له تذيعه قناة المجد من سورة المؤمنون، وكم كانت سعادتي عندما وطئت قدماي أرض هذه القرية، فحرصت على أن تكون زيارتي لها يوم جمعة وأن أصلي الجمعة في رحاب مسجد الشيخ حجاج العزب وهو أحد المسجدين اللذين حرص الشيخ على قراءة سورة الجمعة اليتيمة في رحابهما، هو ومسجد الشعنَّة.
كان من جميل القدر أن يكون الحوار جماعيًّا، ما أشبهه بندوة في محبَّة الشيخ صحبني فيه ولداي محمد ومالك للتعرف على رمز أصيل تفخر به أمة الإسلام قاطبة، وجمع كوكبة من أحفاد الشيخ: ناصر عاشور بدار، منصور عاشور بدار، عامر عاشور بدار، صلاح جودة بدار، محمد عرفة بدار.
ولد الشيخ عام 1884م، على أرجح الأقوال كما جاء في كتاب "الرحلة السلطانية"، ألحقه والده محمد بدار بكتَّاب الشيخ علي جاسر فسرعان ما أتم حفظ القرآن لنبوغٍ فيه، ما شجع والده على أن يلحقه بالأزهر الشريف، وفي رحاب الجامع الأزهر علا نجمه وازداد قربه من شيوخه لدماثة خلقٍ واعتدادٍ بالنفس، وكان القدر يحمل له أكثر ممَّا هفت إليه نفس والده أن يكون شيخًا أزهريًا كغيره، فكانت زيارة السلطان عبدالحميد الثاني إلى مصر أواخر القرن التاسع عشر، وفي زيارته تلك عرج إلى الأزهر الشريف، فاحتفى به شيوخ الأزهر أيَّما احتفاء، فقدَّموا الصغير منصور بدار يقرأ القرآن بصوتٍ قادمٍ من جنة الرحمن، فارتقى بسامعيه مجنِّحًا في سماوات عُلا، فما كان من السلطان إلا أن تمسَّك به مأخوذا بجمال صوته مصطحبًا إياه إلى عاصمة الخلافة، وظل قارئنا يصدح في جنبات دولة الخلافة أينما حل مليكها، متنعمًا في رغدٍ من العيش وأوثره، وكان لقبه المعروف هناك "الحافظ منصور بدار" وكانت تُهدى له الكتب من المطابع السنية مباشرة حتى أنهم طبعوا اسمه بماء الذهب على بعض الكتب التي أُهديت له خصيصًا، وكان من أشهر القراءات له هناك قراءته الخالدة في عزاء الصدر الأعظم، وظل الشيخ على حاله تلك إلى أن حدث التآمر المعروف ضد السلطان وانتهى بالانقلاب عليه وتحديد إقامته 1909م، فعزّ على الشيخ البقاء رغم تمسّك أهل البلاد به، فطلب السفر لأرض الحجاز لأداء فريضة الحج، على أن يعود إلى عاصمة الخلافة ثانية، ولكن هيهات، فلم تعد عاصمة الخلافة التي زارها أول مرَّة تلك التي يعيش فيها الآن، إنها تموج بالمؤامرات من جهات عدة، فعاد أدراجه إلى مصر الأزهر بعد أن قضى هناك ما يقرب من الأربعة عشر عامًا استحق خلالها لقب "قارئ السلطنة"، وعند نزوله في محطة قطار بنها لم يعرفه والده؛ لما كان فيه من نعمة بادية حُرم منها أهل مصر آنذاك، فأقام لنفسه بين أهله سرايا نادرة في وصفها، تدلُّ على حسٍّ عالٍ لدى الشيخ.
وفي رحاب الأزهر يشدو من جديد، ويصبح قارئ السورة به عن جدارة، إلى أن تشتعل في ربوع البلاد ثائرة الشعب ضد المحتل، وتبرز الزعامة الوطنية في شخص سعد زغلول الذي سرعان ما توطدت صداقته بالشيخ، وصار الشيخ من أبرز رجالات الثورة؛ فكان يحرص على القراءة في رحاب الجامع الأزهر كل يومٍ، فتأتيه الجموع رجالًا وركبانًا، فتمتلئ جنبات الأزهر والشوارع المؤدية إليه فيستغل رجال الثورة ذلك التجمّع للدعاية للثورة وتوزيع المنشورات وبذلك أصبح بحق "قارئ الثورة"، وظلت علاقته قوية بالزعيم حتى وفاته فأحيا مأتمه بصحبة الشيخ أحمد ندا ومحمد رفعت، وفي الذكرى السنوية ظل حريصًا على القراءة في بيت الأمة، ولم تنقطع علاقته بخلفاء سعد بل ظلت تربطه صداقة بمصطفى النحاس وحيدر باشا.
على الجانب الآخر كان الملك فؤاد عاشقًا لصوته، حريصا على الاستماع له، ولكن ما أبعد البون بين الزعيم والملك، فكانت للشيخ مواقف يسطرها التاريخ، ففي إحدى القراءات وصل الملك لحالة من الطرب والوله بصوت الشيخ فطلب إعادة القراءة لإحدى الآيات، فأعاد الشيخ، فأعاد الملك مرة تلو المرة، فرفض الشيخ؛ إيمانًا منه بأنه ليس قارئًا للملك وغضبةً لهيبة القرآن، ولكن الملك عرف للشيخ قدره، وفي كتاب عبدالحليم المصري "الرحلة السلطانية وتاريخ السلطنة المصرية" وصف تلاوة الشيخ في حضرة الملك أثناء إحدى زياراته للصعيد بقوله: "هو أطرب من يسمعك كلام الله وهز النفوس خشوعا، حيث اتصل صوته باليقين وملك عليك نفسك فأسكتك حينا وأنطقك حينا، وأنت مأخوذ لا تعرف كيف تسير طربا"، ومن المواقف التي تُحسب للشيخ رغم أنها كلفته كثيرًا ما ذكره شكري القاضي في كتابه وما أكَّده لي أهل الشيخ أنه خلال قراءته في مأتم الملك فؤاد عام 1936 توقف عن التلاوة فجأة، ولما سئل عن السبب أشار إلى السيجار بيد وريث العرش الأمير فاروق وهو يدخن وطلب إطفاء السيجار وأذعن الملك لرغبة الشيخ، فكانت الأوامر الملكية لحكمدار القليوبية ومنه لعمدة القرية بتحديد إقامة الشيخ ومنعه من الخروج للقراءة في أي مكان، وعندما نجح الشيخ في إحدى المرات من الإفلات من هذا الحصار البغيض وقرأ في مدينة بنها كانت الطامة الكبرى على رأس العمدة وخفرائه، وهناك من ينسب تلك الواقعة للملك فؤاد إزاء مساندة الشيخ للثورة.
ومنذ ذلك الحين واعتزل الشيخ القاهرة وصخبها ولم يقرأ إلا في قريته وظل حريصا على قراءة الجمعة اليتيمة في مسجد الشيخ حجاج العزب، ولكثرة المتوافدين لسماع الشيخ؛ ضاقت بهم جنبات المسجد، فانتقل للقراءة بمسجد الشعنَّة بالقرية، وقد أجمع محبو الشيخ على أن تلاوته لسور "الحاقة وق والرعد والنجم والقمر" كانت الأقرب إليه.
ومن المواقف التي تُذكر للشيخ وتدل على استنارة بصيرته أن والد الفنان محمد عبدالوهاب أرسل ابنه للشيخ ليدرس الأحكام لما لاحظه من جمال صوته، إلا أن الشيخ أكَّد دون مجاملة للأب أن الابن وإن كان قد أوتي حلاوة الصوت إلا أنه يميل للغناء أكثر وربما يكون له فيه شأن يومًا ما، وهو ما قد كان.
وكعادة قرَّاء ذلك العصر توحدَّت مواقف الكثيرين منهم من القراءة بالإذاعة في بداية عهدها، فحُرمت جماهير الأمة من سماع أصوات ما أروعها وما أندرها قلما يجود بها الزمان -كمولانا ابن المنيرة مركز القناطر الخيرية الشيخ أحمد صالح الذي انتمى لجيل العمالقة ولم يسمع به الكثيرون- رفض القراءة بالإذاعة إلا بشروط منها تقديم للقراءة وتعقيب بعدها، وعدم تحديد وقت زمني للقراءة، وهو ما رفضته الإذاعة.
ومما يؤسف له أن الشيخ ليس له تسجيلات الآن إلا قراءتين لسورتي المؤمنون والواقعة، وقد ذكرت أسرته أن تسجيلات الشيخ كان يحتفظ بها حيدر باشا وزير الحربية في حكومة الوفد لصداقته وقربه منه، وثمَّة أقاويل أنها آلت إلى أسرة المشير عامر من بعده لقرابة الباشا لهم، وكذلك توجد بعض التسجيلات لدى عائلة زعزع الشهيرة بمدينة طوخ، وما زال مصيرها مجهولا إلى الآن، وهذا القتل العمد لصوت الشيخ يزعم حائزو تلك التسجيلات أنهم يتبعون وصيته، وهذا الكلام وإن صحَّ لجُرم كبير وأظن أنه محض افتراء على الرجل -رحمه الله- وكذلك تحرص إذاعة إيران على بث تسجيلات للشيخ على أثيرها، في حين أن إذاعة القرآن الكريم بمصر لا تملك تسجيلا واحدا للشيخ.
والشيخ بدار لم يكن مجرد قارئ للقرآن، بل كان مدرسة هو رائدها، وما زال لها تلاميذها إلى الآن، فهو الذي قدَّم الشيخ مصطفى إسماعيل وعرَّف الناس به وعلى يديه تتلمذ وأخذ وارتشف من معينه، فمن يستمع للشيخ بدار يُدرك من الوهلة الأولى أن الشيخ مصطفى امتداد له، وهو ما لم ينكره إسماعيل في أحد تسجيلاته على الإنترنت، وكذلك ثمَّة تأثير في خامة الشيخ عبدالباسط عبدالصمد، وكذلك البيجرمي وآخرين، واختلف مع شكري القاضي في قوله بأن الشيخ مصطفى إسماعيل تفوَّق على أستاذه، بل يجب أن نقول إن إسماعيل ارتدى عباءة أستاذه فكانت طريقه للنجاح، على أن ظروف إسماعيل كانت أفضل فمكنته من الذيوع والانتشار وهو ما لم يتأتَّ لشيخه، مع عدم إنكارٍ لنبوغ الشيخ مصطفى رحمه الله.
جدير بالذكر أن الشيخ بدار كان الجانب الرُوحاني لديه عاليا، فكان على تشعب علاقاته إلا أنه لم يقترب أحد من روحه فكان يبدو أكثر غموضا لمن حوله، وكان أكثر الناس قُربا منه والده محمد بدار، لم يتزوج، فكانت حياته لله ومع الله، زهد الحياة، كان يرى ببصيرته أكثر مما يرى ببصره، يسمو في عالم روحي يرقى به عمَّن حوله، فلا يفقهون له قولا، قلَّت كلماته وتعمَّقت معانيه، يحكي لي حفيده ناصر بدار أن زوجة أخيه بعد وفاة زوجها، كانت تقوم على خدمته، فطلب منه أولاد أخيه أن يتزوج بها فرفض، وعندما كرروا طلبهم أخبرهم أن الباقي بالعمر قليل، وأنها ستقابل ربها عمَّا قليل، وبالفعل رحلت الأم، فإذا بالشيخ يناديها في نعشها أنه سيلحق بها بعد عام واحد، وقد كان، إنه نور البصيرة وقبسٌ من نور الله، وكذلك كثير من المواقف التي ما زال أهل القرية يذكرونها للشيخ رحمه الله.
وظل الشيخ في قريته لا يبرحها إلى أن وافاه الأجل في التاسع من أغسطس 1967م.