الثلاثاء 4 مارس 2025

مقالات

عبقرية صناعة القراء المبدعين


  • 4-3-2025 | 15:09

د. عبدالغفار أحمد السيد

طباعة
  • د. عبدالغفار أحمد السيد

عندما نتحدث عن القرآن الكريم في مصر فلابد من الإشارة السريعة إلى مكانة مصر والتعرف على أهم خصائص وسمات الشخصية المصرية، لابد أن نعرف قدر مصر وقدر القرآن والعلم فيها، والمواهب التي حباها الله لمصر فكانت سببا في إخراج العباقرة والأفذاذ في كل شيء، نَعَمْ لِقيمة المكان وعبقريته أثرٌ كبيرٌ في صناعة القراء والعلماء والمبدعين على مدى التاريخ.

هناك أبعادٌ ثلاثة في مصر صنعتْ تاريخَها وحضارتها، (الأرض، والموقع الجغرافي، والنيل)، فأرضها هي التي صنعت المصريين وصنعت لهم كل شيء، وموقعها الجغرافي الفريد هو من نعم الله العظيمة على مصر، جعلها مُلتقى العالم يمرون عليها عن طريق قناة السويس، وهو رأس مال ضخم لمصر، مما جعل الأستاذ جمال حمدان يطلق عليها عبقرية المكان.

وكذلك مصر هبة النيل، فنيل مصر يمثل عطاء إلاهيا تفردت به مصر، وأشارت إلى مكانته أيضا النصوص الدينية، وهو يُعد من أطول أنهار العالم وساهم في صناعة حضارتها، وهذه الثلاثية – بلا شك- لها أثرها الكبير في تكوين القارئ المصري.

بالإضافة إلى المكانة التي تحتلها دينيًّا في الكتب المقدسة، فكان على أرضها تاريخٌ طويلٌ حافل من حياة الأنبياء والمرسلين. احتفى القرآن الكريم بذكر مصر في ثمانية وعشرين موضعًا، وكذلك في السنة النبوية المطهرة إشادة مهمة لمكانة مصر، حيث أوصى النبي ﷺ بأهلها خيرا، وأخبر بأن لهم ذمة ورحما، وأنهم سيكونون عدة الإسلام وناصريه، وأن جنده من خير أجناد الأرض، مما عظّم شأنها في قلوب الصحابة والعلماء على مدى التاريخ، فكان بها من الصحابة والحفاظ والفقهاء ومن آل البيت الكرام الكثير.

أهم سمات الشخصية المصرية:

ومنذ أن دخل الإسلام مصر في القرن السابع الميلادي وتكلم أهل مصر العربية أبدعوا في فهم الإسلام وعلومه مع الحفاظ على السمت المصري، إذ إن من أهم سمات الشخصية المصرية كما يصورها الدكتور/ محمد شفيق غربال «الذاتية» التي جعلتها تشارك في بناء الحضارة والتأثر بالغير مع الاحتفاظ بالسمات المصرية التي كانت سببا في الحفاظ على هويتها واستمرارها إلى ما قبل اتصالها بالغرب في نهاية القرن الثامن عشر. 

ولا شك أن الاتصال بالغرب أصابنا منه خيرٌ كثيرٌ وشرٌّ كثير أيضًا، وأن مصر على مستوى الفن والعلم حصل لها تراجع بسبب التقليد ومحاكاة الغير، وأحيانًا لمحض الإتيان بالشيء الغريب الجديد وإن كان منافيًا لقيمنا وهُويتنا.

أعود فأقول: إنه قبل الاتصال بالغرب كان من مميزات الشخصية المصرية حب الاستقلال والمحافظة على أصالتها مع عدم الانعزال عن الثقافات الأخرى، بل النظر فيها والأخذ منها بما لا يؤثر على ذاتيتها وطبيعتها التي تفردتْ بها، وبهذه الذاتية تفردتْ مصر في صناعة القراءة والعلم والحضارة، وتفننتْ وأبدعتْ في شتى العلوم والفكر، حتى ترددتْ المقولة الشائعة التي تعكس هذه الذاتية: «نزل القرآن في مكة والمدينة، وقرئ في مصر، وكتب في استانبول» 

والسؤال الآن، ما أسباب هذا التفرد، وما العوامل التي أدتْ إلى هذا التفرد والإبداع في تلاوة القرآن بما لم يكن لغير المصريين في هذا المجال وحتى يومنا هذا؟ فعندما يُذكر القرآن الكريم والأداء العجيب في تلاوته، فلا يوجد مكان في العالم يضاهي مصر، بل لا يقترب منها في هذه الصناعة.

أرى أن أسباب هذا التفوق والتمكن تَرجع إلى عدة عوامل مجتمعة أسهم كلّ عامل منها في بناء القارئ المصري وساعد في بلوغه إلى درجة التمكن والتميز بما جعله متفردا في هذا الشأن؛ لصعوبة توفر هذه العناصر مجتمعة إلا في القارئ المصري، ويمكن أن أصنفها إلى عاملين مهمين، الأول أكاديمي، والثاني اجتماعي:

العامل الأول: الكُتّاب ومعاهد القراءات.

مما تفرد به الريفُ المصري خصوصا عن أيّ مكان آخر في مصر طبيعته الخلابة بسبب انتشار الزراعة، والماء العذب، والهواء النقي، ومن أهم خصائصه الفريدة تربية النشء منذ نعومة أظفاره على حفظ القرآن الكريم في الكُتّاب، فهو المحضن الأول للطفولة، والمنبع الأول للمعرفة، فيه يتعلم الطفل القراءة والكتابة، ثم ينتقل بعد إتقانهما إلى حفظ كتاب الله تعالى وتلاوته تلاوة صحيحة، فيستقيم اللسانُ من أول الأمر على الأداء الصحيح، ثم ينتقل بعد حفظه وتجويده إلى معاهد القراءات الموجودة في كل محافظة ليتلقى علوم القراءات ورسم المصحف وعد آيه والتفسير، فيحيط بالقرآن الكريم إحاطة تامة تمكنه من الجمع بين الحفظ والفهم.

 هذا التدرج العلمي أساسه وجود الكُتاب والذي كان يقوم عليه علماء أجلاء في الحفظ والإتقان، وهو الذي أهّلنا للدراسة في الأزهر الشريف والترقي في العلوم المختلفة، ولا شك أن ضعف قوة الكُتّاب في مصر أدى إلى خلل كبير في البنية التعليمية في الأزهر عموما، وفي القارئ على وجه الخصوص؛ فإن الخطوة الأولى لصناعة القارئ هو الحفظ التام والمتقن لكتاب الله عزّ وجلّ، وعليه ففكرة إلغاء الكتاب أو إهمال متابعته من مؤسسات الأزهر هو أحد سبب وجود قراء يخطؤون في قراءة القرآن، بل يقتصر بعضُهم على حفظ أرباع معينة يقرؤها في المناسبات لا يستطيع أن يتجاوزها إلى غيرها.

هذا، ولا يفوتني أن أُشيد بقرار معالي وزير الأوقاف، الأستاذ الدكتور/ أسامة الأزهري فيما يخص عودة الكُتّاب وتنظيم عمله، لإعادة صناعة العالم والقارئ مرة أخرى، وهذا بلا شك سيكون مَردوده إيجابيا في عودة الريادة القرآنية التي تمتع بها مصر.

العامل الثاني: رعاية المواهب وتشجيع الأصوات الحسنة

كان للمجتمع أثرٌ مهم في مراقبة وانتقاء المواهب المتميزة في الصوت والعقل، ورسم الطريق لهم في توجيه الموهبة وبلوغها الغاية القصوى في الإفادة، بدءًا من الكُتاب والمدرسة والمسجد ومؤسسات التنشئة للطلاب.  فكم من طالبٍ للعلم الشرعي تحول عن الاهتمام بعلوم الدين حيث كان يتغيا أن يكون أستاذا وتحول إلى الاهتمام بالقراءة وأصولها بسبب توجيه أستاذٍ  إلى أن أصبح من كبار القراء.

أضف إلى ذلك البيئة الاجتماعية التي كانت تعتني بالقراء والأصوات الحسنة، وتجد أمامها المجال التنافسي الذي يساعدها على صقل الموهبة وفتح المجال أمامها لتنمو وتكتمل، فقد كان سابقا للقراء مجالات متعددة في البيوت والمآتم والحفلات والمناسبات الدينية في شهر رمضان وغيره تساعد على الاهتمام بالقراءة وتحسين الأداء الصوتي، حيث كان الاهتمام في كل عائلة وبيت بوجود القارئ بشكل يومي أو أسبوعي ليقرأ عليهم ما تيسر من القرآن الكريم تبركا بكتاب الله وحبّا في الاستماع إلى الأصوات الجميلة، وكان هذا من عادة كبار العلماء وأصحاب المناصب الكبرى، حتى ذكر الأستاذ محمود السعدني أنه كان لسعد زغلول قارئ خاص يستمع إليه ويرتاح إليه. 

 ثم مجال وجود القراء في المعازي ليجتمع الناس في القرية ومن خارج القرية على الاستماع إلى القراء وهم يتفنون في الأداء مما يجعله مطلوبا في المناسبات، ثم تعظم المنافسة في شهر رمضان في إحياء ليالي رمضان في التروايح والبيوت، وإقامة المسابقات ورصد الجوائز القَيّمة لها؛ لتكريم المتسابقين في الحفظ وحسن الصوت.

ويذكر الأستاذ عبدالعزيز البشري من أصداء رمضان القديمة في مصر، حيث كان لكل مسجد قارئ وعالم ومبتهل، ويذكر من أعاجيب الشيخ أحمد ندا وتفننه في استخدام المقامات في وقت السحر ودعائه وابتهاله الذي يجمع قلوب الناس ومشاعرهم وتعلقهم بالله ما يدلك على أهمية القارئ والمبتهل قديما وأثره في حياة المصريين. () ثم إقامة الحفلات لدى كبار البلد ويُدعى لها كبار القراء، كل هذا ساعد على رواج صناعة القراءة. 

وأحب أن أنبه إلى أمر مهم في تركيبة المجتمع المصري كان لها أثرها في رفع ثقافته وتنويره، وهي التواصل الذي كان بين العلماء على اختلاف اهتماماتهم العلمية، فكان بين القارئ وعلماء الموسيقى والمقامات تواصل واستفادة أدى إلى إلمام القارئ ببعض مبادئ الموسيقى والمقامات وكان لهذا أثره الطيب في تطوير المهارات الأدائية للقارئ بما لا يتنافى مع أحكام القراءة، كما أن الموسيقيين كانوا يحرصون على حضور حفلات القرآن لأمثال الشيخ مصطفى إسماعيل، ويتعجبون من حسن تنقله بين المقامات، فكان للذوق الشعبي أثره الطيب في التمييز بين الحسن والرديء، والأصيل من المواهب والدخيل، حتى يذكر الشيخ مصطفى إسماعيل أن الجمهور هو الذي علمه وساعده على الإبداع، حيث كان الجمهور من طبقات متعددة في الثقافة والعلم.

ثم كان افتتاح إذاعة القرآن الكريم التي كانت سببا مهما في تنافس القراء وشهرتهم محليا وعالميا بعد اختيار وانتقاء أفضل القراء حفظا وإتقانا وجمالا للصوت، وسطر الرعيل الأول من قراء الإذاعة أحرفا من نور في عالم التلاوة لا زلنا إلى اليوم نذكرهم ولا نجد مثيلا لهم في دولة التلاوة المصرية.

أسباب تراجع دولة التلاوة:

 وهنا يقف الناس سائلين ما الذي أصاب قراء الإذاعة اليوم وأدى إلى التراجع في الأداء القرآني؟

والإجابة: أنه ضعفت المعالم التي رصدتُها سابقًا والتي كانت من أسباب تفوق القراء المصريين على غيرهم، وطرأتْ ظواهر جديدة على ساحة المجتمع المصري حالت دون استمرار هذه الحالة السابقة:

 منها: عدم الاهتمام بالمواهب الناشئة في حفظ القرآن الكريم وانتقاء الأصوات الحسنة وتوجيهها إلى صقل الموهبة، حيث أصبح الناس يتوجهون إلى الاهتمام بنوعية معينة في التعليم لا تعطي مساحة كبيرة لحفظ القرآن، والاهتمام بالملكات الصوتية للأبناء، بل تهتم بالتعليم الذي يؤهل لكليات الطب والهندسة والصيدلة ...الخ.

 وكذلك أصبح الاهتمام بالحفظ دون الاهتمام بالصوت والأداء، وتقليد الشباب لغير المصريين من دول الخليج وغيرهم مما لا يتمتعون بأصالة القراءة المصرية، وهذا يتنافى مع صفة الذاتية في سمت المصريين.

هذا إلى جانب عدم الاعتناء بدراسة المقامات الصوتية، ومما أحمده قيام بعض القراء بعمل دورات ومؤسسات علمية ترعى المواهب وتأهيلها على مستوى الإتقان في القراءة وتعلم المقامات، وأرجو أن يعتنى بهذا بكثرة في ربوع مصر حتى يعود الذوق المصري لسابق عهده.

وأعتقد أن من الأسباب اختلال المعايير التي كان على أساسها يتم اختيار القراء قديما في إذاعة القرآن، فلم يكن يرتقي لمقام الإذاعة إلا من اتصف بالإبداع والإتقان مما جعلنا نسمع بعض الأصوات التي ليس لها من الرصانة والقوة ما كان للقراء قديما.

هذا وأسأل الله تعالى لمصرنا الحبيبة أن تعود لسابق عهدها رائدة في العلم والإقراء، وأن يوفق ولاة أمورنا لكل خير.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة