تستند الوسطية على قيم التوازن، الاعتدال، والتفاهم المتبادل، وهى قيم يمكن للأدب، الترجمة، والثقافة بشكل عام أن يقوموا بدور مهم في ترسيخها، وفى بناء جسور التواصل بين الثقافات، وتجنب الغلو في التمسك بالهوية الثقافية والانكفاء على الذات، أو الارتماء في ثقافات الآخر بما يتنافى مع الثوابت الدينية والثقافية٠
ومفهوم الوسطية بشكل عام يعنى التوسط بين طرفين، والتوازن، والبعد عن الإفراط والتطرف. وهو مفهوم نجده في موروثنا الدينى والثقافى: "وجعلناكم أمة وسطا"، "والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا"، "ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط" (القرآن الكريم)، و"خير الأمور أوسطها"، وهو نهج يعبر عن التوازن بين القيم المختلفة بشكل يحقق الاعتدال في السلوك والأفكار والمواقف.
الوسطية في الثقافة والأدب
لا يخفى على أحد الدور المحورى والمؤثر الذى تلعبه الثقافة في المجتمعات المتقدمة، فالثقافة ركيزة مهمة في التأثير على تشكيل الهوية، والحفاظ على التراث والموروث، وهى تسهم في تشكيل الوجدان ومواجهة التحيزات الثقافية وقبول التنوع.
ويعتبر الأدب من المكونات المهمة في المنظومة الثقافية، وهو يؤدى دورا أساسيا في الحوار بين الشعوب؛ فمن خلال مرآة الأدب نتعرف على حياة الآخر وعاداته، وتقاليده، كما نتعرف على تجارب إنسانية قد نستمد منها العبر والدروس، والأدب من شأنه تعزيز ملكات الإبداع والتفكير النقدى، والمساهمة في بناء الوعى الاجتماعى، وإلقاء الضوء على قضايا المجتمع ومشاكله٠
وتتعدد وجوه الوسطية وأشكالها في الأدب والثقافة لعل من أهمها؛ تحقيق التوازن بين التراث والأصالة من جهة والحداثة من جهة أخرى، بين الخصوصية الثقافية والانفتاح على ثقافات الآخر، وبالإضافة إلى ذلك قبول التعددية الثقافية، والبحث عن الإنسانى المشترك، والابتعاد عن النوازع والأفكار المتطرفة.
وتواجه الوسطية في عالم اليوم الكثير من التحديات من قبل بعض التيارات الثقافية الدينية المتطرفة التي تدعو للأفكار المتطرفة وللانغلاق الثقافي، وعدم قبول الآخر المختلف ثقافيا ودينيا٠
ويقدم لنا التاريخ أمثلة على الدور الكبير الذى لعبته الوسطية في فترات تاريخية ارتبطت بتطلع الشعوب للنهضة والتقدم، ففي العصر الذهبى للحضارة الإسلامية (من القرن الثامن إلى الثالث عشر الميلادى)، اتجهت الحضارة العربية إلى الأخذ بالجديد والحديث من ثقافات الآخر والإفادة منها؛ مع الحفاظ على القيم الدينية والثقافية الموروثة، ولذا نشطت في ذلك الوقت حركة ترجمة عن الثقافات اليونانية، والرومانية، والهندية والصينية وغيرها.
وكذلك اتجهت الحضارة الأوربية في عصر النهضة إلى إحداث نوع من التوازن بين الدين والعلم، بين تراثها الكلاسيكى والتطلع إلى الأخذ من الحضارات الأخرى ومنها الحضارة العربية.
كما تقدم لنا فترة تطور الحضارة الأندلسية نموذجا للتعايش والتسامح الدينى والثقافى، حيث تعايشت وتلاقحت الثقافات الدينية الإسلامية والمسيحية واليهودية مع الحفاظ على الهوية الذاتية وكان نتاج ذلك حقبة من الازدهار في العلوم والفنون٠
وفى العصر الحديث هناك العديد من الأمثلة لدول حققت تقدما اقتصاديا واجتماعيا باتخاذها نهجا معتدلا وموقفا وسطيا بين الحفاظ على التراث والأصالة من جهة (الحفاظ على التراث الثقافي والتقاليد القومية والموسيقى والأزياء الشعبية وغيرها)، والأخذ بالحداثة والجديد ولا سيما في مجال التكنولوجيا وذلك مثل اليابان، الهند، ماليزيا.
الوسطية في الأدب تعنى الاعتدال في التفاعل مع الثقافات الأخرى مع الحفاظ على الهوية الذاتية، ويقدم الأدب العربى نموذجا لهذا التفاعل مع الثقافات الأخرى، فقد تفاعلت القصة الحديثة والرواية والمسرح في الأدب العربى مع فنون القصة والرواية والمسرح الأوروبي، وأخذت عنها التقنيات الحديثة مع الحفاظ على الموضوعات والقضايا المرتبطة بالواقع القومى الثقافي والهوية الذاتية، وبهذا اتخذت نهجا وسطيا بين القومى والعالمى٠
كذلك اتجه العديد من الأدباءالعرب إلى الأخذ عن نماذج الفكر الغربى وأساليب السرد الحديثة، مع الحفاظ على الموروث الثقافي والدينى والموضوعات القومية.
الوسطية في النصوص الأدبية
تتجسد الوسطية في النصوص الأدبية فى التوازن الفكرى من قبل الكاتب في الأعمال الأدبية، وعرضه مختلف الرؤى والأفكار بحيادية دون إملاء على القارئ أو فرض وجهة نظره الشخصية، ولاسيما في النصوص التي تتطرق لموضوعات دينية أو سياسية، والوسطية في الأعمال الأدبية تعنى أيضا تصوير الحياة بكل ما تحويه من مشاعر وأفكار متناقضة، وقيم إنسانية عامة مثل قيم السلام، الإيمان، التسامح، الإخلاص، والوفاء وغيرها من القيم التي استقرت عليها الأديان السماوية والثقافات٠
ويقدم لنا الأدب الروسى بثرائه العديد من الأمثلة التي تعكس مفهوم الوسطية في الفكر ومعالجة القضايا الحياتية – خاصة – فى مؤلفات القرن التاسع عشر، وذلك من خلال التطرق لقضايا الصراع بين القيم المتناقضة: الحرب والسلام، الخير والشر، الإيمان والشك الوفاء والخيانة وغيرها. ومن خلال معالجة هذه القضايا تتضح رؤية وسطية تؤكد على أن التوازن والاعتدال يكفلان حياة إنسانية سوية ومجتمع مستقر٠
سأتوقف هنا عند بعض الأمثلة:
في رواية "الجريمة والعقاب" يعكس دستويفسكى في شخصية البطل الرئيس رسكولنيكوف الصراع بين الخير والشر، بين الفكرة المتطرفة التي تبرر القتل من أجل المصلحة العامة والتي قادت رسكولنيكوف إلى الجريمة، وبين شعوره بالندم وتأنيب الضمير بعد الجريمة، ويتجسد الشر عند رسكولنيكوف في جريمة قتله للمرابية العجوز بهدف سرقتها، ثم تورطه في قتل شقيقتها٠ لكن صراع الخير مع الشر في داخل نفسه لم يدعه يتحمل وزر العذاب النفسى الرهيب الذى لازمه بعد الجريمة، وبات واضحا بالنسبة لرسكولنيكوف أن طريقه إلى الجريمة والشر كان طريقا خادعا لم ينل من ورائه سوى الموت الروحى والإحساس بالخوف بالمطاردة. يتساءل رسكولنيكوف بعد الجريمة: "وهل قتلت العجوز؟ لقد قتلت نفسى لا العجوز" (دستويفسكى، الجريمة والعقاب، موسكو، ١٩٧٠،ص٢٠٣). لقد جاء العقاب الحقيقى من داخل نفس رسكولنيكوف ومن ضميره حين ثاب إلى رشده عقب الجريمة، فكما يقول رسكولنيكوف نفسه: "إن من عنده ضمير فهو الذى يتعذب إذا وعى الغلطة، وهذا هو عقابه" (المرجع السابق ص ٢١٣)
وبعد سلسلة من العذاب والمعاناة تقدم رسكولنيكوف طوعا واعترف بجريمته وأدلى بتفاصيلها.
وبهذا الاعتراف عاد دستويفسكى ببطله إلى القيم الأخلاقية والروحانية لتحقيق التوازن النفسى، لقد أوضح دستويفسكى في شخص بطله الصراع بين "الفكرة" الأخلاقية المتطرفة التي قادت رسكولنيكوف إلى الجريمة: تبرير الجريمة من أجل المصلحة، والتي ربط البعض بينها وبين الفكر الاشتراكى آنذاك، والندم وتعذيب الضمير٠
وفى رواية "الأخوة كارمازوف" جسد دستويفسكى في شخصية الابن الأصغر أليوشا كارمازوف الصراع بين الإيمان والشك، فالعالم مملوء "بالظلام" "والإثم و"الآثمين". واليوشا يقع فريسة للشك والإغراء والتضليل، ساهم في هذا الشك جدال اليوشا مع أخيه إيفان الملحد، ويعبر اليوشا طريقا طويلا ومضنيا وراء "الحقيقة" التي يجدها أخيرا في الإيمان، والمعاناة وفى تقبل عذاب وآلام الآخرين، وفى الوسطية التي تعد مفتاحا للتعايش بين التناقضات.
أما فى رواية "أنا كارينينا" فقد صور تولستوى الصراع بين العواطف المتطرفة والقيم العائلية التقليدية؛ بين الخيانة والوفاء: خيانة أنا لزوجها وعلاقتها مع حبيبها فرونسكى، وخروجها على القيم التقليدية : الأسرة والواجب، غير أن انصراف أنا عن أسرتها وإخلالها بالتزامها الأخلاقى تجاه زوجها بات مصدرا للعذاب والآلام لها، وخصوصا بعد أن عاقبها زوجها بالحرمان من ابنها الوحيد، ومن جهة أخرى فإن " أنا" التي ضحت بأسرتها من أجل حبيبها سرعان ما تخدع في هذا الحب، بعد أن انصرف عنها حبيبها، وتلقى نفسها وحيدة معزولة، وبعد أن خسرت كل شيء لا تجد غير الانتحار أمامها سبيلا، وبهذه النهاية ألمح تولستوى في الرواية إلى ضرورة التوازن في العلاقات الإنسانية، مشيرا إلى أن التطرف في الحب والإخلال بالالتزام الأخلاقى يؤدى إلى الانهيار. (سبق لنا تناول روايات "الجريمة والعقاب"، "الأخوة كارمازوف"، "أنا كارينينا" في كتابنا " الرواية الروسية في القرن التاسع عشر"، عالم المعرفة، الكويت، ١٩٨١)
الوسطية في الترجمة
وتعتبر الترجمة جزءا مهما في منظومة الثقافة، إذ لا يخفى على أحد الدور الكبير الذى تقوم به الترجمة بوصفها جسرا مهما لنقل المعارف والفنون والجديد في العلم، وأداة فعالة لتعزيز الحوار بين الثقافات٠
وتعتبر الأمانة للنص الأصل والحفاظ على المضمون والأفكار والدلالات والسياق وترجمتها بأسلوب يعبر عن روح اللغة المتلقية من المتطلبات الأساسية في الترجمة، وفى تجربة الترجمات قد نقابل اتجاهين متعارضين، أحدهما يرى الأمانة في الترجمة في الالتزام الحرفى، والآخر يرى حق المترجم في التصرف بحرية في النص، وفي التدخل الإبداعى٠
ومن الملاحظ أن الحرفية في الترجمة قد تصطدم بمشكلة التعبير عن روح النص والدلالات والسياق الثقافي، وأيضا التعبير بأسلوب يتواءم مع خصوصيات التعبير في اللغة المتلقية، أما الترجمة الحرة فهى قد تضر بجماليات النص وتذهب ببعض أفكاره.
في هذا الإطار فإن الوسطية بين الاتجاهين المتعارضين تكمن فى تجنب الإفراط في الحرفية أو الترجمة الحرة تماما، مع الالتزام بدقة الترجمة وأمانتها التي تكفل نقل جانبي الشكل والمضمون في النص الأصل بشكل دقيق مع بعض الحرية فى التصرف والتدخل الإبداعى المحدود الذى يمكن من نقل السياقات الثقافية ودلالات النص، ويحافظ على روحه ويتيح مواءمته مع طبيعة اللغة المتلقية.
وتتضح أهمية هذا النهج – خاصة- عند ترجمة النصوص الأدبية والأمثال الشعبية؛ حيث لا تعطى الترجمة الحرفية فرصة التعبير عن المدلول الثقافي والسياق بشكل دقيق٠
كذلك تعنى الوسطية في الترجمة أن يتخذ المترجم موقفا وسطا محايدا عند نقله أفكار النص دون حذف أو زيادة وفق أفكاره وأيديولوجيته الخاصة.
سأتوقف في هذا السياق عند إحدى الدراسات التي تناولت نقد ترجمة رواية دستويفسكى "المساكين"، والتى توضح كيف يؤثر فكر المؤلف على طابع الترجمة.
كتب الدراسة الناقد فاروق خورشيد، وقامت بالترجمة الأديبة صوفى عبد الله، في هذه الدراسة يشير فاروق خورشيد إلى أن الترجمة قد أفقدت الرواية روحها وطابعها المميز "وتكفلت بتكفين الشخصيات، إذ أفقدتهم ما امتازوا به من جو خاص وما يعيشون فيه من حياة روسية … ولم يعد في الترجمة من معالم القصة الروسية إلا الأسماء والألقاب" ، ويرجع فاروق خورشيد السبب في ذلك إلى أن شخصيات دستويفسكى في الترجمة العربية قد تأثرت بالثقافة الإسلامية لمترجمة الرواية صوفى عبد الله.
الوسطية في الترجمة تتحقق حين ينحى المترجم قناعاته وأفكاره الخاصة، ويترجم بموضوعية أفكار كاتب النص.
ما من شك في أن الوسطية في مختلف مناحى الحياة تكفل التوازن والاستقرار، وتعزز من قدرة الإنسان على التكيف مع التحديات، وعلى تحقيق السلم الداخلى والخارجى في آن واحد.