يحتفل المصريون اليوم، بذكرى انتصارات العاشر من رمضان المجيدة، ففي حرب السادس من أكتوبر 1973 حققت القوات المسلحة انتصارا عسكريا مجيدا، بعد خطة من الخداع الاستراتيجي وحلول عبقرية ابتكرها المهندسون العسكريون للتغلب على الساتر الترابي وتدميره في ساعات معدودة.
الخداع الإستراتيجي في حرب أكتوبر
بدأت خطة الخداع الاستراتيجي، بعد اجتماع الرئيس الراحل محمد أنور السادات مع رئيس المخابرات العامة والمخابرات الحربية ومستشار الأمن القومي والقائد العام للقوات المسلحة، في منتصف عام 1972، لوضع ملامح الخطة التي سمحت لمصر بالتفوق على التقدم التكنولوجي والتسليحي الإسرائيلي، وبدأت مصر تستعد للمعركة لتحقق عنصر المفاجئة، حيث اشتملت خطة الخداع على ستة محاور رئيسية.
أولها كانت إجراءات تتعلق بالجبهة الداخلية، ومنها استيراد مخزون استراتيجي من القمح، عن طريق قيام المخابرات العامة بتسريب معلومات بأن أمطار الشتاء قد غمرت صوامع القمح، وأفسدت ما بها، وتحوّل الأمر لفضيحة إعلامية استوردت مصر على أثرها الكميات المطلوبة. إخلاء المستشفيات تحسباً لحالات الطوارئ، عن طريق تسريح ضابط طبيب من الخدمة وتعيينه بمستشفى الدمرداش، ليعلن عن اكتشافه تلوث المستشفى بميكروب، ووجوب إخلائها من المرضى لإجراء عمليات التطهير، وفي اليوم التالى نشرت «الأهرام» الخبر معربة عن مخاوفها من أن يكون التلوّث قد وصل إلى مستشفيات أخرى، فصدر قرار بإجراء تفتيش على باقي المستشفيات، وأخليت باقي المستشفيات.
كذلك تم استيراد مصادر بديلة للإضاءة أثناء تقييد الإضاءة خلال الغارات، عن طريق تنسيق أحد المندوبين مع مهرب قطع غيار سيارات لتهريب صفقة كبيرة من المصابيح مختلفة الأحجام، وبمجرد وصول الشحنة كان رجال حرس الحدود في الانتظار، واستولوا عليها كاملة وتم عرضها بالمجمعات الاستهلاكية، ومن أجل تقليل الانتباه العام دعا الفريق أول أحمد إسماعيل جميع وزراء الحكومة يوم 27 سبتمبر 1973 لزيارة هيئة الأركان العامة لاطلاعهم على الجديد من الأجهزة المكتبية والحاسبات الآلية.
المحور الثاني في خطة الخداع، كان إجراءات تتعلق بنقل المعدات للجبهة، حيث تم نقل المعدات الثقيلة كالدبابات إلى الجبهة، عن طريق نقل ورش التصليح إلى الخطوط الأمامية، ودفع الدبابات إلى هناك في طوابير بحجة إصابتها بأعطال، كذلك تم نقل معدات العبور والقوارب المطاطية عن طريق تسريب المخابرات تقريراً يطلب فيه الخبراء استيراد كمية مضاعفة من معدات العبور مما أثار سخرية إسرائيل، وعندما وصلت الشحنة ميناء الإسكندرية، ظلّت ملقاة بإهمال على الرصيف حتى المساء وفي ظل إجراءات أمنية توحى بالاستهتار واللامبالاة، وأتت سيارات الجيش فنقلت نصف الكمية إلى منطقة صحراوية بضاحية (حلوان)، وتمّ تكديسها وتغطيتها على مرمى البصر فوق مصاطب لتبدو ضعف حجمها الأصلي، فيما قامت سيارات مقاولات مدنية بنقل الكمية الباقية للجبهة مباشرة .
وتضمن المحور الثالث إجراءات خداع ميدانية، ومنها توفير المخابرات لمعلومات حيوية سمحت ببناء نماذج لقطاعات خط بارليف في الصحراء الغربية لتدريب الجنود عليها وخداع الأقمار الصناعية لملء المعسكر بعدد من الخيام البالية والأكشاك الخشبية المتهالكة، ولافتات قديمة لشركات مدنية، وفي يوليو 1972 صدر قرارًا بتسريح 30 ألف من المجندين منذ عام 1967 وكان معظمهم خارج التشكيلات المقاتلة الفعلية، وفي مواقع خلفية.
ومن أهم ملامح هذه الإجراءات كان التمويه برفع درجة الاستعداد القصوى للجيش وإعلان حالة التأهب في المطارات والقواعد الجوية من 22 إلى 25 سبتمبر قبيل الحرب، مما يضطر إسرائيل لرفع درجة استعداد قواتها تحسباً لأي هجوم، ثم يعلن بعد ذلك أنه كان مجرد تدريب روتيني، حتى جاء يوم 6 أكتوبر 1973، فظنت المخابرات الإسرائيلية أنه مجرد تدريب آخر.
كذلك في أكتوبر 1973 تم الإعلان عن فتح باب رحلات العُمْرة لضباط القوات المسلحة والجنود، وكذا تنظيم دورات رياضية عسكرية مما يتنافى وفكرة الاستعداد للحرب، كذلك شوهد الجنود المصريون على الضفة الغربية للقناة صبيحة يوم الحرب وهم في حالة استرخاء وخمول.
وتضمن المحور الرابع إجراءات خداع سيادية، ومنها اختيار موعد هجوم تحتفل فيه إسرائيل بعيد الغفران اليهودي، وتغلق خلاله المصالح الحكومية بما فيها الإذاعة والتليفزيون كما اختير على أساس الظروف المناخية والسياسية المواتية، كما كان المجتمع الإسرائيلي منشغل بالمعارك الانتخابية التشريعية، هذا بخلاف الإعلان عن زيارة قائد القوات الجوية اللواء حسنى مبارك إلى ليبيا يوم 5 أكتوبر، ثم تقرر تأجيلها لعصر اليوم التالي 6 أكتوبر 1973، بخلاف توجيه المشير أحمد إسماعيل الدعوة إلى وزير الدفاع الروماني لزيارة مصر يوم الاثنين 8 أكتوبر وأعلن رسمياً أنه سيكون ف استقباله شخصياً لدى وصوله إلى مطار القاهرة، ثم أعلن رسمياً عن الاستعداد لاستقبال الأميرة مارجريت صباح الأحد 7 أكتوبر .
وفي المحور الخامس، تم تأمين تحركات واستعدادات القوات المسلحة ومنها كشف شبكات التجسس بما في ذلك شبكة هبة سليم وشبكة طناش راندوبولو، وتحييد دور الملحقين العسكريين وضباط المخابرات بالسفارات بوضعهم تحت رقابة صارمة لمنع وصولهم إلى معلومات تمس سرية الاستعداد للحرب، حتى وصل الأمر إلى ترحيل الملحق العسكري الإسباني مصاباً خلال معركة بالأيدي على متن طائرة إسعاف، لنقله تحركات سلاح الطيران المصري دقيقة بدقيقة .
وفي المحور السادس، تم توفير المعلومات السرية عن العدو وتضليله، من خلال طريق عملاء جهاز المخابرات العامة، ومنهم فعت الجمال «رأفت الهجان»، أحمد الهوان «جمعة الشوان».
استخدام اللغة النوبية
كما تم استخدام اللغة النوبية كنوع من الخداع والتمويه في الاتصال ونقل معلومات العدو والتي تم اقتراحها من الصول أحمد إدريس، وذلك لتشفير الرسائل الهامة بين القوات أثناء المعركة لتضليل معترضي تلك الرسائل .
حيث اقترح الصول أحمد إدريس استخدام اللغة النوبية في الشفرة؛ حيث إنه لا يعرف نطقها إلا النوبيين فقط، الذين يعلمونها لأولادهم، وأحفادهم جيلا بعد جيل، حيث إنها لا تكتب، ولكن تنطق فقط.
ففي أثناء خدمته في حرس الحدود في عام 1971م علم بانزعاج الرئيس السادات من تمكن العدو في الكثير من الأحيان من فك شفرة العمليات للجيش وعندما عاد قائد الكتيبة التي يخدم أدريس فيها، لاحظ وجود علامات الحيرة على القائد والضباط قام بالضحك وقال لهم: «نرطن بالنوبي لغة تتقال وملهاش حروف نكتبها بالعربي» كشفرة خلال الحرب لأنها لا يعرفها سوى النوبيين.
وبالفعل قرر الرئيس السادات استخدام الفكرة وطلب أن يجري الاستعانة بالنوبيين الذي تربوا في بلاد النوبة القديمة وقال له " استخدام اللغة النوبية ده سر لو طلع هحاكمك"، ولم يكن أحد يعلم بذلك السر سوى 5 أفراد في الجيش المصري، وبالفعل طورت الفكرة واستخدمت في حرب أكتوبر.
تدمير خط بارليف بخراطيم المياه
كذلك جاءت فكرة تحطيم خط بارليف بخراطيم المياه، وهي الفكرة التي اقترحها اللواء باقى زكى يوسف، الذي تولى بعد هزيمة 1967 رئاسة فرع مركبات الفرقة 19 مشاة غرب قناة السويس فى نطاق الجيش الثالث الميداني برتبة «مُقدّم »، ومستعينا بخبراته في تجريف الجبال فى أسوان، باستخدام قوة الماء الدافعة، اقترح فتح ثغرات فى الساتر الترابي بخراطيم المياه.
ونجحت القوات المصرية في تدمير خط بارليف وعبور قناة السويس في ست ساعات منذ بدء المعركة، حيث عمل سلاح المهندسين العسكريين على فتح ثغرات في الساتر الترابي باستخدام خراطيم مياه شديدة الدفع مع إنشاء الكباري لعبور القوات وتعطيل قنابل النابلم التي حصن بها الجيش الإسرائيلي خط بارليف على امتداد القناة.
وبدأت فرق المشاة وقوات قطاع بورسعيد العسكرى فى اقتحام قناة السويس مستخدمة حوالى الف قارب اقتحام مطاط 1500 سلم لتسلق خط بارليف، ووضع ثمانية الآف جندى أقدامهم على الضفة الشرقية للقناة و بدأوا فى تسلق الساتر الترابى المرتفع و اقتحام دفاعات العدو الحصينة، وبعد 8 ساعات من القتال تم فتح 60 ممر في الساتر الترابي على القناة وإنشاء 8 كبارى ثقيلة وبناء 4 كبارى خفيفة وبناء وتشغيل 30 معدية، وعادت أعلام مصر ترفرف من جديد على الضفة الشرقية للقناة.