في أروقة التاريخ وإشراقة الحضارة، تتلألأ صور «نساء الإسلام» كنجومٍ سطعت في سماء الإيمان والعطاء، خلدهن إيمانهن و مواقفهن القوية دفاعًا عن ديننا الحنيف ينشدون ثواب الآخرة والهدى للبشرية كلها فتركن أثرًا كبيرًا محفوظًا في ذاكرتنا ووجداننا وهدى وبوصلة لنا في الطريق.
ومع بوابة «دار الهلال» في أيام شهر رمضان الكريم لعام 1446 هجريًا نقدم كل يوم حلقة من سلسلة «نساء في الإسلام» لتأخذنا إلى عمق النفوس، حيث تتجسد شجاعة المرأة وعزمها في مواجهة تقلبات الزمان، في كل حلقةٍ، نكتشف حكاياتٍ نسجت بخيوط العزيمة والإيمان، رسمت بمسحاتٍ من النور ملامح الحضارة الإسلامية هنا، يتلاقى الجمال الروحي مع القوة الإنسانية، وتنبثق من رحم التحديات أروع معاني التضحية والكرامة، لتكون المرأة ركيزة لا غنى عنها في بناء حضارتنا وإرثها العريق.
ولقاءنا في اليوم الرابع عشر من رمضان 1446 هجريًا الموافق 14 مارس 2025 ميلاديًا مع الصحابية الجليلة.. أم المؤمنين السيدة «مارية القبطية».. قلب في بيت النبوة وذكرى باقية
كانت السيدة مارية بنت شمعون القبطية، رضى الله عنها، جارية أهداها ملك مصر المقوقس القبطي إلى النبي صلى الله عليه وسلم هي وأختها سيرين، وذلك في العام السابع للهجرة، فكانت من سراريه، وأنجبت له ولدًا سماه الرسول «إبراهيم»، فمات صغيرًا، وقالوا: أعتقها ولدها، واختلف الكثيرون في أمر السيدة «مارية القبطية» هل كانت زوجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أم ملك يمين؟ وخص رسول الله الصحابي حسَّان بن ثابت، رضي الله عنه بأختها سيرين، فولدت له عبد الرحمن.
الميلاد والنشأة في أرض النيل
وُلدت «مارية القبطية» بصعيد مصر لأم مسيحية رومية، وأب مسيحي مصري، بعد أن تم صلح الحديبية بين المسلمين وبين المشركين في مكة، وبدأ رسول الله في الدعوة إلى الإسلام فكتب إلى ملوك العالم يدعوهم إلى الإسلام ، فاختار من أصحابه من لهم معرفة وخبرة وأرسلهم إلى الملوك الذين من بينهم.. «هرقل» ملك الروم و«كسرى أبرويز» ملك فارس و «المقوقس» ملك مصر و «النجاشي» ملك الحبشة ، وتلقى هؤلاء الملوك الرسائل وردوا عليها ردًا جميلًا، ما عدا «كسرى» ملك فارس، الذي مزق الكتاب فدعا عليه الرسول صلى الله عليه وسلم أن يمزق الله ملكه» .
«مارية القبطية».. من القصر المصري إلى المدينة المنورة
ولقد أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابي «حاطب بن أبي بلتعة» رضي الله عنه إلى «المقوقس» حاكم الإسكندرية والنائب العام للدولة البيزنطية في مصر، وكان حاطبًا رضي الله عنه معروفًا بحكمته وبلاغته وفصاحته فأخذ حاطب كتاب الرسول صلى الله عليه و سلم إلى مصر وبعد ان دخل على «المقوقس» الذي رحب به، و أخذ يستمع إلى كلمات «حاطب»، واُعجب «المقوقس» بمقالة حاطب، فقال لحاطب:«إني قد نظرت في أمر هذا النبي فوجدته لا يأمر بمزهودٍ فيه، ولا ينهي عن مرغوب فيه، ولم أجدهُ بالساحر الضال، ولا الكاهن الكاذب، ووجدت معه آية النبوة و سأنظر» و أخذ «المقوقس» كتاب النبي محمد بن عبد الله وختم عليه، وكتب إلى النبي:
«بسم الله الرحمن الرحيم، إلى محمد بن عبد الله، من المقوقس عظيم القبط، سلام عليك، أما بعد فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه، وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبيًا بقى، وكنت أظن أنه سيخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك، وبعثت إليك بجاريتين لهما مكان في القبط عظيم، وبكسوة، وأهديتُ إليك بغلة لتركبها والسلام عليك».
وكانت الهدية جاريتين هما.. مارية بنت شمعون القبطية وأختها سيرين بنت شمعون، وألف مثقال ذهبًا وعشرين ثوبًا وبغلته «دلدل» وشيخ كبير يسمى «مابور»، ، وحمل حاطب الرسالة والهدايا التي كانت من بينها الجاريتان الجميلتان «مارية»وشقيقتها «سيرين» وكان معهما ابن عمهما «مأبور».
وكانت «مارية» قد سمعت مثل كل المصريين عن نبي الإسلام الذي انطلق برسالته من أرض العرب مختارا من الله، فتربى داخلها شوق للتعرف على هذا الدين ورؤية الرسول الذي اصطفاه الله لرسالته من بين بني البشر.إلى أن جاء حاطب بن بلتعة،و فى طريق العودة إلى رسول الله تحدث حاطب إلى الجاريتين عن الإسلام ورسوله ، مما جعلهما تنسيان وحشة الطريق وهما تبتعدان عن الوطن للمرة الأولى منذ أن ولدتا، ويذكر أن رسول الله لما رأى «مارية» استبقاها سريرة له، وأهدى شقيقتها «سيرين» إلى شاعره حسان بن ثابت، الأنصاري الذي تزوجها فأنجبت له «عبد الرحمن» فصارت حرة.
اتسمت السيدة «مارية» بجمالها وأنها كانت تتمتع بطلعة بهية مشرقة، مما جعل الرسول«صلى الله عليه وسلم» يقضي في بيتها أغلب أوقات فراغه وكان رسول الله يقص لها تاريخ السابقين من الأنبياء، ويهدئ من روعها في غربتها، بزواج أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام من السيدة هاجر المصرية، و توجهت «مارية» إلى الله بالدعاء أن يجعلها ذات مكرمة مثل «هاجر» المصرية فتلد لرسول الله ابنًا، واستجابت السماء لها ، وتحركت أحشاؤها بالجنين، الذي سعد به رسول الله .
«مارية الفقبطية».. أم إبراهيم
اهتم رسول الله بـ «مارية» التي شعرت أنها بحملها تميزت وولدت «مارية» إبراهيم، فصارت بولادتها حرة ، وسعدت بوليدها وسعد الرسول بابنه إبراهيم سعادة لا مثيل لها ، خاصة وهو في هذا العمر المتقدم، إلا أن الله تعالى أراد أن يسترد وديعته ، فمرض إبراهيم، وهو في نهاية عامه الثاني، وحزن الرسول الكريم، لمرض ابنه ، وعندما رآه يعاني سكرات الموت وضعه في حجره، لا يملك من الأمر شيئا أمام إرادة الله، وصعدت روح إبراهيم إلى الله ، ودمعت عينا أباه رسول الله، وقال:«إن العين لتدمع والقلب ليحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون»، وواسى، محمد، أم إبراهيم «مارية»، وهدأ من روعها.
خرج رسول الله الأب وراء ابنه المحمول إلى البقيع، بعد أن صلى الله عليه وحمله بيده وأودعه ثرى البقيع، وحدث في هذا اليوم أن انكسفت الشمس، فقال البعض:«إن الشمس انكسفت لموت إبراهيم» ولما علم رسول الله، صلى بالناس صلاة الكسوف، وقال فيهم :«إن الشمس والقمر، آيتان من آيات الله، لا ينخسفان لموت أحد، ولا لحياة أحد ، فإذا رأيتم ذلك، فادعوا الله، وكبروا، وتصدقوا».
و للسيدة «مارية القبطية» شأن كبير عند رسول الله، وفي صحيح الإمام مسلم بن الحجاج قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إنكم ستفتحون مصر، وهي أرض يسمى فيها القيراط، فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها، فإن لهم ذمة ورحمًا»، أو ذمة وصهرًا». وفي رواية: «استوصوا بأهل مصر خيرًا، فإن لهم نسبًا وصهرًا»، والنسب من جهة «هاجر» أم إسماعيل، والصهر من جهة «مارية القبطية»
شأن كبير في الإسلام
وكان للسيدة «مارية القبطية» شأن كبير في الآيات وفي أحداث السيرة النبوية، و«أنزل الله صدر سورة التحريم بسبب «مارية القبطية» وقد أوردها العلماء والفقهاء والمحدثون والمفسرون في أحاديثهم وتصنيفهم«، وقد توفي الرسول وهو راض عن مارية، وكانت«مارية» شديدة الحرص على اكتساب مرضاة الرسول.
عاشت السيدة «مارية» ما يقارب الخمس سنوات في ظلال الخلافة الراشدة، وتوفيت رضي الله عنها في المحرم من السنة السادسة عشر في خلافة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله، ودعا »الفاروق» الناس وجمعهم للصلاة عليها فاجتمع عدد كبير من الصحابة من المهاجرين والأنصار ليشهدوا جنازة «مارية القبطية»، ودفنت إلى جانب نساء أهل البيت النبوي، وإلى جانب ابنها إبراهيم في البقيع بالمدينة المنورة.