في أروقة التاريخ وإشراقة الحضارة، تتلألأ صور «نساء الإسلام» كنجومٍ سطعت في سماء الإيمان والعطاء، خلدهن إيمانهن و مواقفهن القوية دفاعًا عن ديننا الحنيف ينشدون ثواب الآخرة والهدى للبشرية كلها فتركن أثرًا كبيرًا محفوظًا في ذاكرتنا ووجداننا وهدى وبوصلة لنا في الطريق.
ومع بوابة «دار الهلال» في أيام شهر رمضان الكريم لعام 1446 هجريًا نقدم كل يوم حلقة من سلسلة «نساء في الإسلام» لتأخذنا إلى عمق النفوس، حيث تتجسد شجاعة المرأة وعزمها في مواجهة تقلبات الزمان،
في كل حلقةٍ، نكتشف حكاياتٍ نسجت بخيوط العزيمة والإيمان، رسمت بمسحاتٍ من النور ملامح الحضارة الإسلامية هنا، يتلاقى الجمال الروحي مع القوة الإنسانية، وتنبثق من رحم التحديات أروع معاني التضحية والكرامة، لتكون المرأة ركيزة لا غنى عنها في بناء حضارتنا وإرثها العريق.
ولقائنا في اليوم الرابع والعشرين من رمضان 1446 هجريًا الموافق 24 مارس 2025 ميلاديًا مع الصحابية الجليلة الزوجة الوفية.. زينب بنت الرسول رضي الله عنها
السيدة زينب بنت محمد بن عبد الله، هي أكبر بنات رسول الله من زوجته أم المؤمنين خديجة بنت خويلد ، واختُلف أيّهما أكبر هي أم القاسم.
وُلدت السيدة زينب بنت الرسول في مكة سنة 23 ق.هـ الموافق 600م، وذلك يعني قبل بعثة رسول الله محمد بعشر سنوات، وكان عمر الرسول يومئذٍ ثلاثين عامًا.
تزوّجت السيدة «زينب» من أبو العاص بن الربيع، ابن خالتها هالة بنت خويلد، و كانت السيدة خديجة بنت خويلد، قد طلبت رسول الله تزويجها إياه، فقد كانت «خديجة» تعدّه بمنزلة ولدها، و كان ذلك قبل بعثة رسول الله .
ولمّا بُعث النبي محمد، أسلمت «زينب» وبقي زوجها على دينه، وجعلت قريش تدعو أبا العاص لمفارقة زوجته «زينب»، فكان يردّ عليهم بقوله «لا والله، إنِّي لا أفارق صاحبتي، وما أحبُّ أنَّ لي بامرأتي امرأة من قريش»، فبقيت «زينب» عند زوجها كلٌّ على دينه.
الزوجة الوفية
أنجبت السيدة زينب بنت الرسول من زوجها «أبي العاص» ولدًا اسمه علي ومات وهو صغير وبنتًا اسمها «أمامة» لكن حصلت المشكلة بسبب اختلاف العقيدة بعد أن بعث النبي، لما أشرقت الأرض بنور ربها، آمنت «زينب» فيمن آمن، ولكن زوجها «أبا العاص» لم يكن من السهل عليه أن يترك ديه ! وأحس كلا الزوجين أن قوة أقوى من حبهما تحاول أن تفرق بينهما.
وأعلن «أبو العاص» التمرد والعصيان وقال: «لن ينال مما بيننا يا زينب أن تكوني على دينك وأثبت على ديني»، وأما السيدة «زينب» فقالت لزوجها: «مهلا قليلًا ياصاحبي لستُ حلأ لك وأنت على ذلك الدين، فأسلمني إلى أبي أو أسلم معي، لن تكون زينب لك بعد اليوم إلا أن تؤمن بما آمنت».
بعد هجرة رسول الله إلى المدينة المنورة، خرج «أبي العاص» مع قريش محاربًا ضد المسلمين في غزوة بدر سنة 2 هـ، وبقيت زوجته زينب في مكة، ومع انتهاء الغزوة لصالح المسلمين، وقع «أبو العاص» أسيرًا بأيدي المسلمين، وكان الذي أسره اسمه خِرَاش بن الصِّمَّة، ولما أرسل أهل مكة الأموال في فداء أسراهم، أرسلت زينب في فداءه بقلادة كانت أهدتها لها أمّها خديجة بنت خويلد، في ليلة عرسها فتأثر رسول الله لذلك، وقال لأصحابه الذين أسروه: «إن رأيتم أن تُطلقوا لها أسيرها وتردُّوا عليها مالها فافعلوا»، فأطلقوا سراحه وردّوا مالها،و كان النبي محمد قد اشترط على أبي العاص أن يخلّي سبيلها ويأذن لها بالهجرة إلى المدينة المنورة، فوفّى بذلك.
بعد إطلاق سراح زوج السيدة «زينب» وعند وصوله مكة أمرها زوجها باللحوق بأبيها في المدينة المنورة وفاءً لوعده، فبدأت زينب بالتجهّز للرحلة، وعَرضت هند بنت عتبة مساعدتها فرفضت وأنكرت تجهّزها خوفًا منها ، ولمّا انتهت من جهازها، جاءها أخو زوجها كنانة بن الربيع فحملها على بعير له فركبته وهي في هودج، فخرج بها نهارًا حاملًا قوسه معه يحرسها، فعلمت بذلك قريش ولحقوا بها، وكان أول من سبق إليها رجل يُدعى هبّار بن الأسود وآخر اسمه نَافِع بن عبد قيس، فأخافها هبّار برمح له وهي في الهودج، وتذكر الروايات أنّها كانت حاملًا، فلمّا خافت أسقطت حملها ، وتفاوض أبو سفيان مع كنانة بأن يرجع بها إلى مكة وينطلق بها سرًا ليلًا خوفًا من لئلا يتحدث أهل مكة بذلك، ففعل كنانة ذلك، وسلّمها لزيد بن حارثة ورجلٌ آخر كان النبي محمد قد أرسلهما بعد غزوة بدر بشهر لاصطحابها إلى المدينة.
وأرسل النبي محمد لاحقلًا سرية لقتل هبّار ونافع، فقال: «إنْ ظَفِرْتُمْ بِهَبَّارِ ابْن الْأَسْوَدِ، أَوْ الرَّجُلِ أي «نافع بن عبد قيس» الَّذِي سَبَقَ مَعَهُ إلَى زَيْنَبَ فَحَرَّقُوهُمَا بِالنَّارِ» ، ثمّ في اليوم التالي أرسل للسريّة: «إنِّي كُنْتُ أَمَرْتُكُمْ بِتَحْرِيقِ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ إنْ أَخَذْتُمُوهُمَا، ثُمَّ رَأَيْتُ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إلَّا اللَّهُ، فَإِنْ ظَفَرْتُمْ بِهِمَا فَاقْتُلُوهُمَا».
وبعد انتقال السيدة «زينب» للعيش في المدينة المنورة، بقي أبو العاص مقيمًا في مكة، وفي عام 8 هـ قبل فتح مكة بقليل، سافر أبو العاص بمالٍ له لبعض قريش متاجرًا إلى الشام، فلمّا عاد اعترضته أحد سرايا النبي محمد وأخذوا ما معه من مال، فذهب أبو العاص ودخل المدينة المنورة ليلاً، واستجار بـ «زينب» ، فصرخت بالناس فجرًا وهم يصلّون: «أيُّها النَّاس، إنِّي قد أَجَرتُ أَبَا العَاص بن الرَّبيع»، فأقرّ ذلك النبي محمد بقوله: « إنَّهُ يُجِيرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَدْنَاهُمْ» ، ثمّ طلب النبي محمد ممن أغاروا عليه وسلبوا ماله أن يردوا عليه ماله، ففعلوا، ثمّ عاد بأمواله كاملة إلى مكة وأعاد أموال قريش لهم، ثم أعلن إسلامه وعاد مهاجرًا إلى المدينة المنورة ، وعند وصوله المدينة المنورة ردّ النبي محمد ابنته زينب إلى أبي العاص كزوجة له بعقد نكاح ومهر جديدين، وقيل على عقد نكاحها الأول.
مثالًا رائعًا في الوفاء
وضربت السيدة زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم مثالًا رائعًا في الوفاء، حيث كانت وفية لزوجها، للدرجة التي فتحت قلب هذا الزوج للإسلام، تأثرا بأخلاق أبيها رسول الله ووفاء ابنته ، فما أعظم الوفاء.
تُوفيت السيدة زينب بنت الرسول في حياة أبيها فعام 7 هـ أو 8 هـ الموافق 629 م عن عمر يقارب الـ 29عامًا، وحزن عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم حزنًا عظيمًا ويُروى في سبب موتها أنّها مرضت بسبب ما تعرّضت له أثناء هجرتها إلى المدينة المنورة من إسقاط حملها، فلم يزل بها المرض حتى ماتت، وفارقت السيدة «زينب» الحياة بعد أن خلفت أطيب الذكرى وضربت أبلغ المثل في وفاء الزوجة.