كان جدى "عبد اللطيف" من هواة الفرفشة، فرفوش من يومه، ومعروف بقفشاته اللطيفة، فإذا أذن العصر إيذانا بدخول المغرب، يفرش الحصير فى الشارع تحت الشباك المنخفض وفوقه مباشرة قلة مياه تستقبل ريح العصارى الرطبة، فتبترد مياهها ..
كانت قلته وحده لاشريك له فى مائها، يغني لها، على طريقة الرقيقة فايزة أحمد: "قالي سلامة إيدك دا انتي قُلة العطشان"، تدعكها جدتى "روحية" ببعض دقيق الذرة الخشن ليمتص أيه روائح تغير ماؤها، وتملأها حتى شفتها تحسبا لرشحها وتغلفها ببفتة بيضاء من شاش، وتضع فى فمها نعنانة، وتتركها فى مهب النسيم العليل الذى يهب من بهو الدار.
كانت القلة تنتظره، فإذا ما اهل علينا بالبالطو الأصفر مثل بالطو المخبرين فوق جلباب من مشتقات الأبيض بطاقية قماش تخفى راسا اصلعا بجوانب تخفى شعرا ابيضا ناعما لحسه الزمان دون أن يدرى جدى.
استقبل القلة يعب منها ما يروى عطشه، ثم يدلف إلى القاعة، غرفة جدتى فى آخر الدار، يتخفف من ثيابه، ويصلى ثلاث ركعات المغرب، قبل ان يفترش مكانه أمام الدار.
تجر جدتى شكل الجد اللطيف، أبو صلاح صليت المغرب، يرد الحمد لله، تشاكسه، يا رجل قوم صلى، يا وليه صليت، تلاقيك لا صليت ولا ركعتها فى يومك، ياوليه حرام عليكى، قومى قومى هات العشاء، تشهق عشاء المغرب، لما المغرب يدن، يا وليه المغرب اذن وصليته، طيب، يغمض عينيه الواسعتين فى حالة استرخاء عجيب، تخال انه غاف، ولكنه كالذئب ينام بعين واحدة، والتانية ترقب الحركة فى الحارة، تحدق فى المارة، فإذا سمع سلام عليكم، اعتدل ليرد السلام، وإذا كان صوت أنثوى، عمل فيها متناوم خشية أذن جدتى المرهفة.
كانت لها أذنا صغيرة ولكنها تسمع دبة النمل تحت الحصير المفروش، تخال أنها تراقبه وتضعه دوما تحت الاختبار، عارفاه بصباص وبتاع نسوان، وزمان عشق رقاصة، وكانت دوما تستقزه، يارجل يا بتاع الرقصات، كان يتنرفز بشدة، وعلى جوانب فمه ابتسامة هاربة، وكانه يتذكر الأيام الخوالى وهو يقطع المسافات وراء الرقاصة التى خلبت لبه.
كانت تذكره بابن عروس، ولم افهم منه صغيرا حكاية ابن عروس هذا الذى حفظ جدى منه ابياتا كان ينشدها اذا ما راق مزاجه، "يا بت يا أم الشعر الأحمر لميه، وزودى له من العطر ياما، ده الفارس اللى انت قتلتيه صبحتى عياله يتامى"، ويدق على فخذه، كنت غرا مستمتعا بنظم جدى، ويزيدنى انبساطا عندما ينداح فى النظم، "اللى حبنا حبيناه وصار متعنا متاعه، ومن كرهنا كرهنا يحرم علينا اجتماعه".
(مقطع من رواية قيد النشر)