الأربعاء 2 ابريل 2025

مقالات

حفلات الأفراح في مدينة القاهرة في القرن التاسع عشر

  • 1-4-2025 | 13:19
طباعة

كان لحفلات الأفراح في تلك الفترة بهجة بالغة، فقد كان أكابر القوم من السراة والأعيان يبالغون في تفخيمها وتعظيمها، ويتنافسون في مظاهر البذخ والاسراف فيها، ويبذرون المال بغير حساب، سواء في المآدب أو الزينات، ولا يكتفون بليلة واحدة، بل يحيون في العادة ثلاث ليالي، بينما كانت أفراح الطبقة الفقيرة تتسم بالبساطة.

وكان الزواج حدثًا مهمًا من أحداث المجتمع المصري، حتى لقد بلغ من أهميته أن الرجل الأعزب كان محرمًا عليه السكن بين العائلات والأسرة المتزوجة فلا يسكن لذلك غير الخانات والفنادق والوكالات، كما كان ينظر إلى الرجل الذي يصل لسن الزواج ولم يتزوج أو تكون لديه جارية بغير احترام، وكانت بعض فتيات العائلات الكريمة تشترط كل واحدة منهن أن تكون الزوجة الوحيدة لزوجها، وكذلك كان قليل من الآباء من الطبقة الوسطى أو الطبقات العالية هم الذين يقبلون إعطاء بناتهن إلى رجل عرف عنه أنه طلق عدة مرات.

وجدير بالذكر أن الخاطبة أو الأسرة هي التي كانت تختار العروس، ولم يكن لأي من الخطيبين رأي في إتمام ما يحدث، فلا العريس رأى العروس قبل أن يخطبها ولا هي رأته أو كلمته قبل ذلك، بل كانا غالبًا لا يعرفان شيئًا عن بعضهما إلا ما ترويه الخاطبة أو الأسرة فقط، بل لقد كان الغلو في ذلك يصل إلى حد أن بعض أفراد أسرة الخطيب نفسها لا تعرف شيئًا عن خطيبة ابنها إلا ما ترويه الخاطبة، وقد كان لهذه العادة عيبها، إذ كان يحدث نفور بين الزوجين أحيانًا حتى في ليلة الزفاف كنتيجة لعدم تعارفهما قبل أن يكونا أسرة.

ويصف أحد الأجانب الذين زاروا مصر في منتصف القرن التاسع عشر موكب عرس مر أمام فندق "أوريان" الذي يعيش فيه بالقاهرة قائلًا " الطبالون فوق ظهور الحمير، والصبية فوق صهوات الجياد مرتدين ثيابًا باذخة، والنساء محجبات بخُمر سوداء يُطلقن الزغاريد، ومصارعان عاريا الجذعين يرتديان سراولين قصيرين من الجلد دهنا جسديهما بالزيت يؤديان حركات غريبة، ولاعبون يتبارزون بالعصى، وراقص يدعى حسن البلبيسي ارتدى ثيابًا نسائية مطرزة وأسدل شعره المضفور على منكبيه وزجج حاجبيه بالكحل وألصق في ظهر سترته دنانير مذهبة، وشد حول وسطه حزامًا من تمائم مربعة ذهبية، وراح يدق الصاجات، بينما يتحوى تحوى الموج ببطنه وفخذيه، ثم يختم عرضه بانحناءه وهو في سرواله المنتفش، وتبدو العروس تحت ظله حريرية حمراء تحف بها امرأتان نجلاوي العيون، وهي محجبة الوجه بخمار أحمر معتمرة بغطاء رأس مخروطي، فتبدو كتمثال لُف بلفائف قد أثقلتها، فلا تستطيع السير."

ويمكن القول أن احتفالات الزواج في القاهرة في القرن التاسع عشر كانت عادة مصحوبة بالمنشدين والراقصات والطبالين والعبيد، وأحيانًا بمجموعة من المصارعين يؤدون الألعاب والحركات الغريبة، ومجموعة من اللاعبين يتبارزون بالعصى، وأحيانًا يرتدي الراقصون ثيابًا نسائية.

ومن أهم الأفراح في النصف الأول من القرن التاسع عشر حفل زواج إسماعيل باشا ابن محمد علي بابنة عارف بك، ومحمد بك الدفتردار على نظلة هانم الأبنة الكبرى لمحمد علي في المحرم من عام 1229هـ (يناير 1814م) وكامل باشا على زينب هانم صغرى بنات محمد علي في ديسمبر عام 1845م.

أفراح الأنجال:

بلغت بعض الأفراح في النصف الثاني من القرن التاسع عشر من البهاء والروعة ما جعلها أحاديث الناس يتناقلوها جيلًا بعد جيل، ومن أشهر أفراح تلك الفترة أفراح الأنجال وهي الأفراح التي أقامها الخديو إسماعيل احتفالًا بزواج أنجاله الأمراء، إذ عقد لولي عهده محمد توفيق باشا (الخديو) على الأميرة أمينة هانم (أم المحسنين) كريمة إلهامي باشا ابن عباس باشا الأول، وللأمير حسين (السلطان الحسين) على الأمية عين الحياة بنت الأمير أحمد رفعت ابن إبراهيم باشا، والأمير حسن باشا على الأميرة خديجة هانم بنت الأمير محمد علي الصغير بن محمد علي باشا الكبير، وزواج أختهم الأميرة فاطمة هانم بالأمير طوسون بن محمد سعيد باشا، وقد بدأ بالاحتفال بزواجهم ابتداء من 15 يناير سنة 1873م ولمدة أربعين يومًا متصلة، باعتبار عشرة أيام لكل فرح منها.

أما عن الاحتفالات الأسطورية فقد بدأت من القصر العالي بالمنيرة مقر والده الخديو إسماعيل، وزينت شوارع القاهرة الهامة خاصة المؤدية إلى القصر العالي، وإلى سراي الجزيرة مقر حفلات (الخديو إسماعيل) المفضل، وسراي القبة مقر ولي العهد الأمير محمد توفيق، بالفوانيس الملونة وأقواس النصر وعزفت الفرق الموسيقية في الميادين ونصبت المسارح في الشوارع للتمثيل والألعاب البهلوانية وأُطلقت الصواريخ والألعاب النارية.

وعمّت الفرحة وقتها مدينة القاهرة، وكانت الأنوار الساطعة في المنطقة المحيطة بالقصر العالي أثناء الأفراح سببًا في تسمية الحي بعد ذلك بـ (المنيرة) وخصصت ليالي الفرح للمغنيين فدعى مشهورو المغنيين كعبده  الحامولي ومحمد عثمان للغناء في السرادقات المنصوبة في ساحة القصر العالي وكذلك السيدة ألماظ والوردانية والأسطة ساكنة وكانت الوالدة (أم الخديو) تغدق عليهم العطايا والهبات بكثرة.

ومن الأدوار التي كان يغنيها عبده الحامولي في تلك الحفلات:

أشكي لمين غيرك حبك                             أنا العليل وأنت الطبيب

اسمح وداويني بقربك                               واصنع جميل إياك أطيب

ومقطوعة أخرى مطلعها:

حبيبي هجرني شوفوه لي يا ناس                    شرد مني وفي ايده الكاس

كوى قلبي ده يصح يا ناس                           اترجاه يعمل معروف

ومن طريف ما يروي أن أحد المعتمدين السياسيين مر بصيوان عبده الحامولي ليسمع الغناء المصري، فلما وصل إلى سمعه الدور الأخير طلب أحد مرافقيه أن يترجم له معناه، فلما ترجم له الشطر الأول " حبيبي هجرني شوفوه لي يا ناس" ضحك حتى كاد يستلقي على ظهره ثم قال " المصريين دول شعب عنده اعتزاز وأنفه حتى في الحب يهجره الحبيب فيكلف الناس بالبحث عنه ولا يجتهد هو في أن يبحث بنفسه ويستعطفه.

ولمناسبة هذه الأفراح دعا الخديو إسماعيل تلاميذ جميع المدارس وطلبتها للاشتراك فيها بتناول الطعام ومشاهدة الألعاب وسماع الأغاني وكانت تقدم الذبائح والخبز إلى بعض الفقراء والمحتاجين، وإلى البعض الآخر في أماكن مخصوصة، منها اللحوم، والديكة الرومية، والدجاج والخبز والحلوى وغيرها، وكانت الصواريخ تطلق من حديقة الأزبكية.

وجدير بالذكر أن هذا الفرح كان أشهر أفراح القرن التاسع عشر وكان الطرب طوال ليالي أفراح الأنجال يعم كل مكان، ولم تر القاهرة في ماضيها شبيهًا لتلك الأفراح والليالي الملاح.

وأخيرًا يمكن القول بأن الشعب المصري شعب مُحب للمرح، وكان أهل القاهرة شغوفين بكل أنواع المراسم العامة والاحتفالات والاستعراضات، حتى ليظن البعض أن حفلات الزفاف هي ذرائع يلتمسها الناس لاشباع نفوسهم من المرح والاستماع إلى الموسيقى

أخبار الساعة

الاكثر قراءة