السبت 12 ابريل 2025

مقالات

محمود مراد.. مؤسس المسرح المدرسي في مصر

  • 10-4-2025 | 14:19
طباعة

ظهرت الأنشطة المسرحية المدرسية في مصر في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، في صورة عروض مسرحية للنصوص الأدبية العالمية، التي كانت مقررة على الطلاب، ولم تتجاوز هذا الشكل في النشاط الفني إلا عندما ظهر «محمود مراد» الذي أسبغ عليها الشرعية التعليمية، وأصبح المسرح المدرسي - بفضل جهوده - مقرراً دراسياً في جميع المدارس ابتداء من عام 1925. وهذا الدور الريادي ظل مجهولاً – لعموم الناس - لمدة مائة عام، لذلك خصصت هذه المقالة لهذا الرائد العظيم!!
ولد «محمود مراد» عام 1888 بمنيا القمح، وفي الثامنة التحق بمدرسة أولية، وفي الحادية عشرة التحق بمدرسة عباس الابتدائية ونال شهادتها عام 1904. وتلقى علومه الثانوية بعد ذلك في مدرسة التوفيقية ومدرسة الأقباط الكبرى، وحصل على شهادة الدراسة الثانوية قسم ثانٍ من منزله، حيث كان يشتغل بالتدريس في مدرستي السلحدار والإيرانية. وفي عام 1908 نال شهادة البكلوريا، والتحق بمدرسة المعلمين العليا ونال إجازة التدريس عام 1911، وتم تعيينه مدرساً بمدرسة محمد علي الأميرية، ثم نُقل عام 1912 مدرساً بمدرسة الناصرية الأميرية، ثم المدرسة الخديوية سنة 1914، ثم التوفيقية سنة 1915، فعباس الأميرية، فالخديوية، ثم السعيدية سنة 1920 فالخديوية مرة ثانية.

نشرت مجلة «المصور» عام 1929 بداية علاقة محمود مراد بالمسرح المدرسي، قائلة: "في سنة 1915 كانت رواية «قصة مدينتين» لتشارلز ديكنز مقررة على طلبة البكالوريا، وأن التلاميذ لجأوا إذ ذاك إلى أستاذهم محمود مراد أن يعمل على تخفيف عبئها عليهم بالقيام بتمثيلها. وكان الأستاذ محمد السباعي الكاتب الكبير قد سبق إلى ترجمتها، ووضعها فى قالب تمثيلي. ولم يتأخر مراد، بل أقدم على ذلك العمل وأسند إليه دور البطل فيها، وأتى بطفلته الصغيرة لتقوم بدور احتاج العمل إلى إظهاره".

وتوالت الحفلات المدرسية، ومنها حفلة وصفها الموسيقار «عبد الحميد توفيق زكي» في كتابه «أعلام الموسيقى المصرية عبر 150 سنة» قائلاً:

"كانت باكورة أعمال هذه الفرقة حفلة سمر، مثلت فيها بعض المشاهد المسرحية، وعزفت قطعا موسيقية.. وكان من بين التلاميذ الذين اشتركوا في إقامة هذه الحفلة بعض من سيكون لهم شأنهم الكبير في خدمة الفن وفي مقدمتهم الأستاذ محمد صلاح الدين، وزير الخارجية السابق ورئيس لجنة ترقية التمثيل والموسيقى سابقاً، وكذلك المهندس الدكتور أبو بكر خيرت مؤسس الكونسيرفاتوار وأخوه عمر خيرت، وهما أولاد الفنان الهاوي الكبير محمود بك خيرت المحامي والمترجم العظيم وزميل محمود مراد في تأسيس أول جماعة من أولاد الأسر الكريمة يفصحن بشجاعة أدبية عن هوايتهم للمسرح ألا وهي جمعية أنصار التمثيل. ويجدر بنا ونحن نؤرخ لمحمود مراد أن نذكر أنه أول أستاذ ينشئ في مدرسته فرقة تمثيلية من التلاميذ تمثل باللغة العربية، بعد أن كان التمثيل قاصراً في المدارس على أداء الروايات المقررة على التلاميذ باللغة الإنجليزية، وكان يقوم بإخراجها الأساتذة الإنجليز".

استمر «محمود مراد» في نشاطه المسرحي بالمدرسة الخديوية، حيث ألف وترجم وأخرج ومثل مع طلابه مسرحيات عديدة، منها «الجزاء الحق» و«الأساس فالبناء» و«ما وراء الستار» و«الوصي»، وقام بتمثيلها الطلاب: إبراهيم جلال، إبراهيم زين العابدين، إبراهيم كامل، إبراهيم مراد، أحمد الديب، أحمد حسني عمر، أحمد سعد، أحمد علام، أحمد كامل، أحمد مسعد، أحمد منصف، أسعد خليل، حامد بشير، حسن بيرم، خليل مظهر، رجائي محمد، سعيد عبد الوهاب، سيد منيب، صبحي عبد الملك، عبدالفتاح المغربي، عبد اللطيف شاش، على أبو بكر، فؤاد حجاج، محمد زكي، محمد علوي، محمود صبري، يوسف العطار.

نجاح عروض فرقة المدرسة الخديوية؛ جعلت وزارة المعارف تصدر قراراً رسمياً، كتب للفرقة شرعيتها الفنية والعلمية!! وحول هذه الشرعية الرسمية، قال «محمود مراد» في تقريره الرسمي الذي سنتحدث عنه لاحقاً، والمُقدم إلى الوزير: "وقد سرّ الوزارة انتشار مثل تلك الفرقة في المدارس؛ فأصدرت منشوراً تاريخه 6 نوفمبر سنة 1922؛ أجازت فيه إنشاء مثل هذه الفرقة، على شرط أن يكون بمحض اختيار الطلبة وأولياء أمورهم. وهذا نصه: يجوز لناظر المدرسة الموافقة على تأليف جمعيات فيها، لأغراض يقرها مثل الكشافة والنجارة والتصوير والموسيقى وما شابهها. وتكون لكل منها لجنة من التلاميذ والموظفين، تتولى جمع اشتراكات خاصة لكل جمعية، بشرط أن تكون اختيارية، وأن يكون وليّ طالب العضوية، قد وافق بالكتابة إلى الناظر على قبوله اشتراك ابنه، ودفع مبلغ الاشتراك المقرر".

بعد ذلك انطلق محمود مراد وطلابه حتى بلغوا الآفاق في نشاطهم المسرحي، الذي تحقق يوم الجمعة 19 يناير 1923، عندما عرضوا مسرحية «مجد رمسيس»، التي حضرها «يحيى إبراهيم باشا» وزير المعارف، وإسماعيل حسنين باشا وكيل الوزارة، والأساتذة «أوجيف بك» ناظر مدرسة الحقوق الملكية، ومحمد بك رشدي ناظر المدرسة السعدية، ومحمد بك فهمي، وكبار موظفي وزارة المعارف وغيرهم. وكان في استقبالهم المستر «فرانس» ناظر المدرسة، والأستاذ الكرداني بك وكيلها. وألقى محمود مراد كلمة عن فن التمثيل والغناء في مصر، وكيف ألّف فرقته المدرسية المسماة بفرقة التمثيل والموسيقي .. إلخ، وانتهى العرض الذي أعجب به الوزير داخل مسرح المدرسة، واقترح إعادة تمثيله في مسرح كبير ليحضره زملاؤه الوزراء، ولكن الوزارة تم حلها بسبب أزمة سياسية، وتولى وزير المعارف «يحيى إبراهيم باشا» رئاسة الوزارة الجديدة، فمثلت مسرحية «مجد رمسيس» في مسرح حديقة الأزبكية تحت رعاية رئيس الوزراء، وحضرها جميع الوزراء.

والمسرحية تدور أحداثها حول انتصارات مصر العسكرية على أعدائها شرق البحر الأحمر، التي حافظت على كبير كهنة آمون، حيث كان أجنبياً أسر في إحدى الحروب ودمغ صدره بدمغة الأسرى وتربى في مصر وآمن بدينها، وأتقن لغتها، حتى ارتقى في سلك الكهنوت فبلغ أعظم مراتبه، ولكنه بقيَّ كارهاً للأمة التي آوته وعلمته، وأعلت من مقامه، فكان يرسل الجواسيس إلى خارج مصر ويتصل بأعدائها، ويتمنى لجيوشها وقادتها الهزيمة. وكان جاسوسه الأخير، الذي عاد ومعه أخبار انتصارات الجيش المصري، فثار غضبه وتحركت حفيظته وقرر أن يوقع بقائدي النصر المصريين العظيمين «أونا سينو»، وينسب لهما زوراً خطابين مرسلين منهما إلى ملك الأعداء! وتنطلي الأكذوبة على الملك المصري ويدع للكاهن الأعظم أمر محاكمتهما؛ ولكن الجاسوس يعود إلى صوابه فيفضح الدسيسة، ويكشف عن دور الكاهن الأعظم الذي خان مصر.

استمرت المدرسة في تقديم عروضها الجديدة بقيادة «محمود مراد»، ومنها أوبريت «توت عنخ آمون» الذي عُرض على مسرح الكورسال في أبريل 1924 وقام بتأليفه محمود مراد، كما قام بوضع بعض ألحانه اقتباساً من ألحان الشيخ سيد درويش، وشاركه في وضع الألحان محمود رحمي، ومحمد عبدالوهاب. وقد نشرت جريدة «الأهرام» وصفاً ليوم عرضها، قائلة: "كان أمس موعد الحفلة التمثيلية التي أقامتها فرقة التمثيل والموسيقى الخاصة بالمدرسة الخديوية في مسرح الكورسال، تحت رعاية حضرة صاحب الدولة محمد سعيد باشا وزير المعارف العمومية؛ فوفد على دار المسرح جمع غفير من عامة القوم، ووجوه العاصمة. يتقدمهم صاحب المعالي أحمد مظلوم باشا رئيس مجلس النواب، وأصحاب الدولة والمعالي محمد سعيد باشا وزير الحقانية ووزير المعارف العمومية، ومرقص حنا باشا وزير الأشغال العمومية، ومحمد حبيب الغرابلي باشا وزير الأوقاف العمومية، وأصحاب السعادة والعزة حمد الباسل باشا وكيل مجلس النواب، والأستاذ عاطف بركات بك وكيل وزارة المعارف العمومية، والأستاذ صدقي حسين بك وكيل وزارة المالية، وكثيرون من أعضاء مجلس الشيوخ والنواب. وحضر فريق من السيدات الوطنيات والأجنبيات. وفي منتصف الساعة السادسة أقبل حضرة صاحب الدولة الرئيس الجليل [سعد زغلول] فاستقبل بالتصفيق الشديد والهتاف المتواصل، ووقف القوم إجلالاً واحتراماً وعزفت الموسيقى السلام الملكي. ثم وقف حضرة محمود مراد أفندي المدرس بالمدرسة الخديوية، وألقى كلمة عن الفنون الجميلة في مصر وأوروبا، وحلل رواية توت عنخ آمون، التي وضعها لتمثل في تلك الحفلة. فقوبلت كلمته بالاستحسان والتصفيق. ثم رفع الستار وبدأ أعضاء فرقة التمثيل في المدرسة الخديوية بتمثيل رواية توت عنخ آمون فأجادوا كل الإجادة من حيث الإلقاء والتمثيل. وأعجب الحاضرون بملابسهم الجميلة وبألحان الموسيقى، كما أعجبوا بمغزى الرواية السامي، وبمعانيها الراقية".

هذه الموهبة الفذة المسماة «محمود مراد» تبنتها الوزارة تبنياً علمياً مدروساً، حيث أرسلته إلى أوروبا في بعثتين صيفيتين عامي 1923 و1924 – بعد انتهاء كل عام دراسي - وكانت رحلته الأولى من مايو إلى أكتوبر 1923، ومهمته فيها "الموسيقى والتمثيل وحالهما الحاضرة في أوروبا، والطريقة التي يحسن أن تتخذها وزارة المعارف العمومية لإدخالهما في المدارس الأميرية، وإصلاح شأنها في مصر على وجه عام". أما رحلته الثانية، فكانت من يونيه إلى أكتوبر 1924، ومهمته فيها "انتدابه للسفر إلى لندن لاجتياز القسم الأرقى من الفنون التمثيلية والإلقاء، مع درس المستحدثات الفنية في لندن وباريس وميونيخ وفيينا". وكتب محمود مراد تقريرين عن الرحلتين، ما زالا محفوظين في دار الكتب المصرية تحت رمز «فنون جميلة، رقم 402».

وإذا نظرنا إلى التقرير الأول لرحلته الأولى، سنجده مرفقاً بخطاب – مؤرخ في 7/11/1923 - قال فيه محمود مراد: "حضرة صاحب المعالي وزير المعارف العمومية: اهتمت وزارة المعارف العمومية بأمر الفنون الجميلة يا صاحب المعالي بعد أن تفضل حضرة صاحب الدولة رئيس الوزراء فشمل الحركة الفنية التي أقوم بها في المدرسة الخديوية بعطف خاص. فانتدبتني للسفر إلى أوروبا لأزور معاهد التمثيل والموسيقى في ممالكها المختلفة لأزيد من معلوماتي الخاصة وأدرس نظم معاهدها ثم أعود فأرفع إلى وزارة المعارف تقريراً أقترح فيه خير الطُرق التي تتبع لتشجيع هذه الفنون في المدارس المصرية. وقد رأيت من واجبي أن لا يكون تقريري مقصوراً على الحال الفنية الحاضرة والمستقبلية في المدارس بل يشمل الحركة في مصر على وجه عام لتكون كلها تحت إشراف وزارة المعارف تشجيعاً للفنون الجميلة. وإني أتشرف اليوم برفع هذا التقرير إلى معاليكم، ومعاليكم خير من يعلم أنها أكبر عامل على تقديم الأخلاق وتهذيب النفوس وإننا في نهضتنا الحاضرة جديرون بأن نستعيد لمصر مجدها السابق أيام كانت بفضل علومها وفنونها سيدة العالم، أيام كانت تؤمها الطلبة من جميع الأنحاء رغبة في التحصيل".

وعندما نقرأ تفاصيل التقرير سنجده يبدأ بتمهيد، حدثنا فيه عن بداية الحركة الفنية المدرسية، وتوقفه عند عام 1919، عندما انتقل إلى المدرسة الخديوية، ووجد تشجيعاً من ناظرها الإنجليزي فرانس .. إلخ ما ذكرناه سابقاً؛ ولكن ما يهمني هو ختام التمهيد، الذي يؤكد على أن محمود مراد هو أول مصري وعربي اقترح إدخال الموسيقى والمسرح ضمن المقررات الدراسية في المدارس!! وفي ذلك قال مراد بعد حديثه عن تشجيع رئيس الوزراء: "اقترحت على دولته تقرير تدريس الموسيقى والتمثيل في المدارس الأميرية فتفضل بالموافقة".

وعندما بدأ في سرد تفاصيل رحلته الأولى إلى بلاد أوروبا، أثبت أنه أول مندوب فني في العالم؛ حيث إن مصر كانت أولى دول العالم في إيفاد مندوب فني لها إلى أوروبا!! وحول هذا المعنى، قال مراد: " اتبعت في جميع أدوار رحلتي الطريقة الوحيدة التي مكنتني من الاطلاع على كل ما أردت ومن مشاهدة التمثيل ليلاً وزيارة المدارس والمسارح على اختلاف أنواعها وطبقاتها نهاراً والحصول على المعلومات والمناهج والتقارير من مصادرها الرسمية وهي أني كنت أقصد الوزارة أو الإدارة المختصة بصفتي المندوب الفني للحكومة المصرية فأحصل على ترخيص رسمي بزيارة جميع تلك المعاهد وكنت حيثما ذهبت ألقى عطفاً وإعجاباً بعمل الحكومة المصرية باعتبارها أولى الحكومات في العالم التي أرسلت مندوباً لمثل هذا الغرض". أما المدن والبلدان الأوروبية، التي زارها محمود مراد وتفقد نظام مسارحها ومدارسها، ووقف على نظامها المسرحي والموسيقي، فهي:  النمسا، سويسرا، فرنسا، إنجلترا، إسكتلندا، بلجيكا، هولندا، المجر، ألمانيا، بفاريا، بروسيا، إيطاليا.

وفي تقريري رحلتيه أوصاف كثيرة، أقتبس منها هذا الوصف: ".. ثم عدت إلى إنجلترا حيث قضيت شهرين كاملين زرت فيهما مسارح عدة ومدارس كثيرة منها المعهد الملكي للموسيقى والكلية الملكية للموسيقى ومدرسة المعلمين للموسيقى ومدرسة جلدهول للموسيقى والمعهد الملكي للتمثيل ومدرسة إيست كروس وحضرت الحفلات الموسيقية التي أقامها طلبة المدارس في جهات متفرقة كما شهدت الحفلة التي أقامها طلبة مدارس مجلس لندن المحلي والتحقت بمعهد الفنون التمثيلية حيث تلقيت محاضرات فيما رأيتني في حاجة إلى الاستزادة منه. كما ألقيت خطباً فنية في أدنبره والمعهد الفني للتمثيل في لندن". وبناءً على ذلك، أقول: إن محمود مراد هو أول مبعوث حكومي -مصري أو عربي- إلى أوروبا لدراسة المسرح، وأعدّه رائداً للمسرح المدرسي -علمياً وعملياً- لأنه أول الدارسين المتخصصين في مجال المسرح المدرسي، وأول من أدخل المسرح ضمن المقررات الدراسية في المدارس المصرية أو العربية!!

عاد مراد من أوروبا وأصيب بمرض عضال ألزمه الفراش عدة أشهر حتى مات أواخر 1925، وأول نعي له كتبته مجلة المدرسة الخديوية، التي شهدت أمجاده، قائلة في ذهول: "أمات مراد وهو في مقتبل العمر؟ أمات وكانت آماله لا تزال تسبقه، أمات ولم ير ثمار العمل الجليل الذي سعى إليه وضحى نفسه من أجله، حتى حققه أخيراً!!، أمات مراد، وانطفأت تلك النفسية الملتهبة، والعزيمة التي لم يتغلب عليها إلا المرض والموت! أيها الإخوان، لا تقولوا إن مراداً قد مات، إنه لا يزال حيا بروحه خالدا بأعماله، ومؤلفاته!!".

أخبار الساعة

الاكثر قراءة