في بيئتنا المعاصرة ما زال هناك غموض يكتنف كثيرا من المفاهيم لقضايا ينبغي أن تكون في دائرة الضوء وبؤرة الاهتمام؛ لأنها من صميم الثقافة العربية. من هذه القضايا (ثقافة التسامح) بما تعنيه هذه الثقافة من وعى وفكر ورؤية، وطريقة حوار، وآداب ومشروعية للآخر في الاختلاف..... إلخ
فقيمة التسامح من القيم الأصيلة في الثقافة العربية، ولا يمكن لأمة متحضرة أن ترتقي وهي غير مؤمنة بفضيلة التسامح، هذا التسامح الناتج عن منطقية الاختلاف في أغلب الأحوال، ولا شك أن الاختلاف قيمة مهمة من قيم الحياة، وسنة من سنن الكون، ومن المفترض أن يمثل منظومة تساعد الناس على أن تتآلف وتتقارب، تتناسق وتتناغم، لا تتنافر ولا تتعادى، وهذا يؤدي إلى الأمن المجتمعي، كما أن قيمة التسامح تساعد الناس على هدوء النفس، وليونة الرأي ورفض التشدد، وتقلل من الانحراف الفكري والسلوكي، فحيثما يوجد التسامح يهدأ الناس وتقل المشكلات ويتجسد الأمن المجتمعي، لأن التسامح يخلق راحة في النفس واعتدالا في السلوك
من المؤكد أن منظومة الحياة الطبيعية قائمة على الاختلاف، فدورة الكون والوجود قائمة على مجموعة من صفات التناقض، ومن هنا كانت الظلمة والنور، والأبيض والأسود، الصغير والكبير، الطويل والقصير، القوى والضعيف، العالم والجاهل، ومع ذلك ينبغي ترسيخ مبدأ التسامح بين جميع البشر، بعيدا عن التعصب والعنف، وفرض الرأي بالقوة والإجبار.
المشكلة إذن ليست في الاختلاف، لأن الاختلاف طبيعة بشرية، بل المشكلة فيما يحدث من عنف أو تعصب أو توتر، أو التمسك بالرأي، لو كان فاسدا.. فالاختلاف سمة بشرية موجودة في كل زمان ومكان، لا يقف على فئة معينة، ولا على أفراد محددين. وثقافة الاختلاف هي التي جددت الحياة الثقافية العربية دائما، وبنية الاختلاف على هذا بنية إيجابية واعدة بالتنوع، وهى دليل ثراء المجتمع المنتج لتلك البنية، على ألا يكون الاختلاف (خلافا)؛ لأن الخلاف يمثل نزعة شخصية لا موضوعية، وكلما اشتد سعير حمى الاختلاف ووهج التباين، ازداد جسد الثقافة صحة وبهاء وجمالاً
والمتأمل لهذه الظاهرة يستطيع أن يلمح عشرات الأسئلة حول قضية الاختلاف، تطل برأسها دائما، تومض وتختفي وتتوسل بالمثقف العربي أن يصنع حولها حوارا جادا مفيدا لعل الجميع يستفيدون من طرحها، ومن هذه الأسئلة:
هل الاختلاف ظاهرة صحية؟ هل هو حق مشروع للجميع؟ هل من حق أصحاب الرأي الادعاء بأن رأيهم حقيقة مطلقة، ولا تسامح مع الآخر فيما يؤمن به؟ وأن آراء غيرهم هي الباطل الذي لا مراء فيه؟ هل من حقي إلزام الآخرين برأيي قسرا؟ ثم ماذا لو كان رأيي مخالفا لرأي الجماعة؟ هل أظل متمسكا به، معاودا الكر والفر لإلزام الجميع به؟ أم يكون من الأفضل أن أعاود التأمل في رأيي متسامحا، فربما كنت أنا على خطأ.
وتأتي مشروعية الاختلاف في الأصل من الكتاب والسنة وأقوال السلف، ففي القرآن الكريم جاء قوله تعالى: "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين" [سورة هود الآية 117] وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "اختلاف أمتي رحمة"، وورد عن عبدالمؤمن الأنصاري قوله: قلت لأبى عبدالله إن قوما رووا أن رسول الله (ص) قال "إن اختلاف أمتي رحمة".. فقال: صدقوا. ويقول الإمام أبو حنيفة: (قولنا هذا رأى، وهو أحسن ما قدرنا عليه، فمن جاء بأحسن من قولنا فهو أولى بالصواب منا) هكذا كان يتسامح أبو حنيفة مع الآخر المختلف معه، وهو علم من أعلام الفقه، وهنا يجب أن نعرف أن التسامح صفة من صفات الأقوياء، فلا أظن ضعيفا متسامحا، ولا جاهلا متسامحا، فالتسامح زينة الفضائل ومطلب العقلاء.
التسامح أمان مجتمعي وثقافة تقلل من التطرف
لا شك أن التسامح مع النفس أو مع الآخر يصنع راحة نفسية ويجسد الأمان المجتمعي، لأن الإنسان -إن كان متسامحا- يكون ذا مزاج معتدل، كما أنه يكون حريصا على تقبل الآخر، مؤمنا بأهمية الاختلاف حسب طبيعة البشر، وهذا يؤدي إلى الأمان النفسي وبالتالي الأمان المجتمعي، ويقلل من التوتر ويصنع حالة من السلوك المعتدل، في هذه الحالة لا يحمل حقدا ولا مشاعر عدائية للآخرين، لأنه يؤمن أن الاختلاف سنة حياة.
مفهوم التسامح
تشكلت من مادة (س م ح) بعض المصطلحات، مثل (التسامح– المسامحة– التسمح) فالتسامح هو السلاسة والسهولة، وهو مرادف للتساهل، كما يقول الفيروزآباد، وفي الصحاح تسامحوا أي تساهلوا، وفي لسان العرب: وسمح وتسمّح فعل شيئا، فسهل له، وهو الجود كما قال ابن فارس، يقال: ورجل سمح أي جواد وقوم سمحاء ومساميح، وقد أشار ابن منظور أيضا إلى أن التسامح هو اللين في نحو قولنا: "أسمحت الدابة بعد استصعاب، لانت وانقادت"
ولا يبتعد مفهوم التسامح في العصر الحديث عما مضى من مفاهيم، فهو عند الدكتور أحمد مختار عمر التساهل والتهاون والكرم، وهو أيضا عنده التوسع، والتوسع هو استعمال اللفظ للدلالة على أكثر مما وضع له، وأضاف بعض النحاة أن الاتساع ضرب من الحذف، وقاموا بالتدليل على أن الحذف هو اتساع في القاعدة وهو تسمّح تستوعبه اللغة.
ومن هنا نجد معاني التسامح كثيرة متنوعة، منها: التساهل– الحلم– الصفح– العفو– اللين– الجود– الاتساع... إلخ.
والتسامح بمعناه الأخلاقي عند الفلاسفة هو: موقف فكري وعملي، يقضي بتقبل المواقف الفكرية والعلمية التي تصدر من الغير، أي أنه احترام المواقف المخالفة كما أنه "العفو عند المقدرة؛ وعدم رد الإساءة بالإساءة؛ والترفع عن الصغائر؛ والسمو بالنفس إلى مرتبة أخلاقية عالية؛ فهو مفهوم أخلاقي اجتماعي؛ دعا إليه كل الرسل والأنبياء والمصلحين؛ لما له من أهمية كبرى في تحقيق وحدة وتماسك المجتمعات؛ والقضاء على الخلافات بين الأفراد والجماعات، والتسامح يعني احترام ثقافة وعقيدة وقيم الآخرين، وهو ركيزة أساسية للعدل والحريات الإنسانية العامة"
ويمكن أن يكون التسامح نوعا من المروءة، ويظهر ذلك في كلام الشاعر أحمد شوقي حين يقول:
تسامحُ النفس معنىً من مروءتها…... بل المروءةُ في أسمى معانيها
تخلقِ الصفحَ تسعدْ في الحياةِ به… فالنفسُ يسِعدُها خلقٌ ويشقيها
ويقول الإمام الشافعي عن التسامح ورفض العداء
لما عفوت ولم أحقد على أحد أرحت نفسي من هم العداوات
إني أحيّ عدوي عند رؤيته لأدفع الشر عني بالتحيات
وأظهر البشر للإنسان أُبغضُه كما إن حشا قلبي محبات
الناس داء وداء الناس قربهم وفي اعتزالهم قطع المودات
كما أن التسامح يبقي على الصداقات ويقلل من العداوات والانحراف الفكري
قال تعالى "وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيم" [سورة: فصلت، الآية: 34]
وقال الشاعر:
وكنت إذا الصديق أراد غيظي وأشرقني على ظمأ بِرِيقِ
غفرت ذنوبه وكظمت غيظي مخافة أن أعيش بلا صديق
والمعنى (أشرقه بريقه أي ألزمه الحجة وتغلب عليه)
فالتسامح إذن قيمة مجسدة في التراث الحضاري العربي والإسلامي وله آثاره الإيجابية، ولهذا يشير المفكر المغربي محمد عابد الجابري إلى أن التجليات الأولى للتسامح توجد لدى الجيل الأول من المثقفين في الإسلام، ولهذا نطمع في أن يكون التسامح مجسدا بين الناس في العصر الحديث لتقليل المشكلات بين الناس، ليصيروا أكثر رقيا، ولصور التسامح المعددة في التراث العربي حديث آخر.