تشكلت إنسانياً وثقافياً في زمن ازدهار ثقافى عظيم، حيث كانت الثقافة متلازمة مع التعليم منذ مراحله الأولى، فكل فصل من فصول المدرسة الابتدائية كانت به مكتبة خشبية صغيرة على هيئة كتاب، بها قصص مصورة للأطفال، وقصص المكتبة الخضراء التى يضعها كامل كيلانى، ومعظمها مستسقى من حكايات ألف ليلة وليلة الشيقة الملائمة للصغار، وكان يرسم هذه الحكايات الفنان العظيم بيكار، فيلهب خيالنا بتجسيد هذه العوالم السحرية، ولم يكن وقتها قد ظهر التليفزيون بعد، ولم تكن أفلام ميكى ماوس، وتوم وجيرى متاحة إلا عند الذهاب إلى السينما، والتى كانت دور العرض تقدم عادة فيلماً عربيا، وآخر أجنبيا.
وكانت هناك دور عرض تقدم ثلاثة أفلام في بروجرام واحد مقابل ثلاثة قروش لكل تذكرة دخول.
في كل حى، كانت هناك مكتبة عامة يمكن استعارة الكتب منها لمدة أسبوعين، وهكذا كنت أفعل عندما صرت في المرحلة الإعدادية، فكنت خلال فترة الإجازة الصيفية أستعير الكتب من مكتبة الزيتون العامة، حيث ولدت وعشت بضاحية الزيتون، وكانت المكتبة قريبة لمنزلنا، فأذهب إليها وأعود محملة بكتاب أو كتابين، وهكذا .
قرأت كتاب العلم في فنجان، وجغرافية الجوع لجوزيه كاسترو، في هذه السن المبكرة.
سراى القبة الإعدادية مدرستى الجميلة والذى كان مبناها الأساسى مشيداً على غرار معبد فرعونى قديم وبمدخلها حديقة من نباتات الصبار النادرة، هذه المدرسة والتى كانت ناظرتها سيدة أرستقراطية جليلة هى محاسن حمدى، كان بهذه المدرسة مكتبة كبيرة، وكانت هناك حصة مخصصة للقراءة، ضمن البرنامج التعليمى الأسبوعى، فكان الفصل يذهب بكامل تلميذاته إلى المكتبة للاطلاع والقراءة لمدة ساعة أو ساعتين، وكانت أمينة المكتبة تعقد مسابقات شهرية للقراءة، وقد فزت مرة بسبب قراءتى لكتابين وتلخيصهما وحزت على مكافأة، كانت مجموعة من الكتب، منها كتاب العقاد عبقرية محمد، بسبب نجاحى في تلخيص مادة الكتابين.
على المستوى الأسرى، كان بيت خالة أمى هو الجنة بالنسبة لى، إذ كنا نذهب لزيارتها بصحبة أمى بين الحين والحين، خلال الإجازات أو الأعياد، ونمكث هناك لبضعة أيام، مثلما كانت العادة بين أفراد العائلات وقتها، ولقد كان لدى أبناء خالة أمي مكتبة ضخمة مخصص لها غرفة كاملة، والكتب فيها مجلدة بالورق المقوى وعناوينها مكتوبة بالحبر الذهبى، وكانت حجرة المكتبة لها مدخل خاص من داخل حجرة المسافرين، أى غرفة استقبال الضيوف، وكان المناخ السائد في منزل خالة أمى مناخاً ثقافيا بامتياز، إذ كان أبناء هذه الخالة من الرعيل الأول الذى تخرج في الجامعة المصرية عقب تأسيسها، وشاركوا في ثورة 1919، وعملوا مدرسين في المدرسة الخديوية الثانوية، ومدرسة إمبابة، وكان أصدقاؤهم حيث يسكنون في ميدان الكيت كات بإمبابة الدكتور شوقى ضيف وعبدالقادر المازني، الذى كانت أخته زينب المازنى، تسكن في الشقة المقابلة لخالة أمى قبل أن تنتقل للسكن فِى الدقى، وكذلك الشاعر محمود غنيم، والفنان بيكار الذى كان يسكن على النيل في إمبابة قبل انتقاله للسكن في الزمالك، وكانت العلاقات العائلية تسود بين هؤلاء، فكنا نزور عائلة الشاعر محمود غنيم في شبرا وأذكر أنه كان أزهرياً معمماً، لكن زوجته طنط حكمت لم تكن محجبة وكذلك ابنته أبلة تماضر رحمهما الله.
في هذا المنزل شاهدت أيضا فرق الفودفيل التى كانت تقدم عروضها في ملهى الكيت كات المقابل، وكنت أشاهد جزءاً يسيراً من هذه العروض خلال فصل الصيف، عندما تفتح الشبابيك بسبب حرارة الجو، وكان بيت خالتى يطل على ملهى الكيت كات من ناحية وسينما إمبابة الصيفى من ناحية ثانية، حيث نشاهد في الليل ومن الشرفة ولمدة أسبوع أفلاما حفظتها عن ظهر قلب، مثل ليلى بنت الفقراء، لليلى مراد، وعهد الهوى لفريد الأطرش، في هذا المناخ الثقافى العائلى، قرأت العبرات والنظرات، وتحت شجرة الزيزفون للمنفلوطى.
ولأول مرة لنجيب محفوظ، إذ كانت ابنة خالة أمى قارئة نهمة ومحبة للفنون ومتذوقة من الطراز الأول رغم أنها لم تتعلم إلا تعليماً أوليا، وقد أهدتنى بداية ونهاية لأقرأها ولم يكن نجيب محفوظ معروفاً بالقدر الكافي بعد.
كان الذهاب للسينما طقسا عائليا أسبوعيا، وكان بحى الزيتون وقتها سينما كليوباترا الصيفى، وسينما الزيتون الصيفى والشتوى، فكنا نذهب لمشاهدة ثلاثة أفلام في بروجرام واحد، إضافة إلى أفلام الكارتون، والأجمل كان مشاهدة جريدة مصر الناطقة، وهى جريدة إخبارية دعائية مصورة، تقدم ما يجرى في البلاد من حركة تنمية وعمران، وفى دور العرض هذه رأيت روائع السينما المصرية والعالمية، وكل ما أبكانا وأضحكنا، وشكل وجداننا على الخير والجمال.
وكنا نذهب أحيانا إلى سينما روكسى الصيفى أو سينما نورماندى لمشاهدة الأفلام الأجنبية الحديثة وأذكر أننى شاهدت وأنا بالمرحلة الثانوية فيلم الخريج لراستين هوفمان، وفيلم فجر يوم جديد ليوسف شاهين، وكنت وقتها تلميذة في مدرسة سراى القبة الثانوية، أما فيلم أبى فوق الشجرة، وفيلم سانجام الهندى الشهير، فكنا نذهب إليه بكامل عدد طالبات الفصل لمشاهدتهما مراراً وتكراراً، لتترسب بذاكراتنا كمراهقات أجمل المشاهد الرومانسية التى لا تنسى.
كانت برامج تعليم اللغة العربية بالمدارس، برامج رفيعة المستوى، فخلال المرحلة الابتدائية كنا ندرس رواية عمرون شاه لجاذبية صدقى.
وفى المرحلة الإعدادية قرر علينا كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع وهو أعظم كتاب قرأته في طفولتى وأكثرها تأثيراً في ضميرى ووجدانى حتى اليوم، وفى المرحلة الثانوية، كانت هناك واإسلاماه لعلى أحمد باكثير وهى من الروايات العظيمة، وكذلك على هامش السيرة لطه حسين، أما في كتاب النصوص فهناك أمرؤ القيس، والنابغة الذبيانى وقطرى ابن الفجاءة، ثم البارودى وشوقى والمتنبى والبحترى.
وهناك نثر من نوع شجرة الورد لأحمد أمين وغيرها.
كان تعليم، وكانت ثقافة، فكان أجمل تكوين.