موليير مصر، أحد رواد جيل العظماء، أثرت إسهاماته الغزيرة والقيمة والمتفردة، وغير المسبوقة في تطوير المسرح المصري منذ نشأته على يد يعقوب صنوع، وعثمان جلال في منتصف القرن التاسع عشر.
هو فنان متعدد المواهب، قال عنه الشاعر الكبير صالح جودت في مقال له بمجلة الهلال عام 1953م إن حياته كمؤلف مسرحي وسينمائي وأديب شعبي تكاد تكون نصف تاريخ المسرح المصري الحديث، إنه دنيا واسعة يحار فيها القلم أهو ممثل أم شاعر أم زجال أم مؤلف مسرحي أم كاتب سينمائي أم صاحب مسرح أم مصلح اجتماعي، إنه كل ذلك وأكثر.
إنه الكاتب المسرحي الكبير بديع خيري، أول من كتب سيناريو للرسوم المتحركة في مصر، صاحب الفرقة المسرحية الشهيرة التي قدمت عمالقة المسرح المصري، كوَّن مع نجيب الريحاني أنجح ثنائي في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي.
تميزت أعماله المسرحية بالعمق الاجتماعي والروح الفكاهية، وساهمت في تشكيل الوعي الثقافي والاجتماعي في مصر والعالم العربي، وقدمت نوعًا جديدًا من المسرح، لم يكن منتشرًا من قبل، يجمع بين الكوميديا والنقد الاجتماعي، جعله ينال شعبية كبيرة بين جمهور المشاهدين.
ولد بديع خيري في 17 أغسطس عام 1893م، بحي المغربلين، أحد أشهر الأحياء الشعبية، التابع للدرب الأحمر بالقاهرة، والده تركى هاجر بمفرده من بلدته سكودار بتركيا إلى مصر، وعمل مراقبًا للحسابات في دائرة والدة الخديو عباس الثاني، وتزوج ابنة الشيخ الليثي أشهر تجار الغورية.
دخل الكتَّاب وحفظ القرآن، ألحقه أبوه بمدرسة أم عباس الابتدائية بحي مصر القديمة. وفى هذه المرحلة المبكرة برزت موهبته، وأظهر تفوقًا في اللغة العربية إلى درجة أن معلمه كان يناديه بالأستاذ، استهواه بريق هذا اللقب، ولم يكتف بما حققه في الحياة المدرسية، نشر في عمر الثالثة عشرة من عام 1906م قصيدة نشرها في جريدة:
الأفكار الأسبوعية: تحت اسم مستعار: ابن النيل: ثم انتقل إلى المدرسة الإلهامية بالحلمية الجديدة، وبعد حصوله على البكالوريا، التحق بمدرسة المعلمين العليا، وتخرج في عام 1914م، عمل مدرسًا للجغرافيا واللغة الإنجليزية بمدرسة رفاعة الطهطاوي بمدينة طهطا، ثم مدرسة السلطان حسين بشبرا، وظل يتنقل في مهنة التدريس بالمدارس الحرة قبل تمصيرها.
ولِعَ بديع خيري بالثقافة الشعبية، ارتاد مقاهي الجمالية والبغالة والإمام الشافعي، يجلس بين الناس يستمع إلى شاعر الربابة، يروي القصص والأشعار، ويتأمل ألوان الناس وصور الحياة، يحفظ التفاصيل ويطبعها في ذاكرته، يقول عنها: هي مدرستي الأولى في التأليف حتى لهجات البلاد العربية عرفتها وحفظتها في هذه المقاهي، إذ كان يتردد عليها أبناء تلك البلاد الشقيقة الذين يدرسون أو يتاجرون أو يسيحون في القاهرة.
تردد بديع خيري في فترة مبكرة من حياته على مسارح القاهرة: عماد الدين: ودار السلام: والكلوب المصري: في منطقة الحسين، وكانت تعرض تمثيليات شعبية، ثم تعرف على مسارح سلامة حجازي، ومنيرة المهدية، وعبدالرحمن رشدي، وجورج أبيض.
وفي عام 1912م، تعرف على سيد درويش، وأسس فن الأوبريت الراقص في مصر، وهو نوع خاص من الفن المسرحي، يقدم قضايا اجتماعية في قالب موسيقي، وعرض أول أوبريت له اسمه "الجنيه المصري".
اشترك بديع خيري في مسابقة الكتابة المسرحية، نظمتها دار الأوبرا التابعة لوزارة الأشغال في ذلك الوقت، والتي اشترطت أن تكون المسرحية مكتوبة باللغة العربية الفصحى، وتقدم لها بمسرحية "محمد علي وفتح السودان"، ونالت الجائزة الأولى ومقدارها "مائتا جنيه"، وطلبوا منه مقابلة طلعت حرب، الذي كان يتبنى فرقة عكاشة إخوان، ويشرف عليها ماليًا، وأمر طلعت حرب بعرضها على مسرح الأزبكية الذي أقامه خصيصًا من أجلها.
قادتني المصادفة لمشاهدة لقاء له مع المذيعة اللامعة، الراحلة سلوى حجازي في برنامجها " الفن والحياة" عل قناة ماسبيرو زمان، أجرته معه عام 1963م قبل ثلاث سنوات من رحيله، جذبني حديثه الممتع، وذكرياته عبر رحلته الطويلة مع الفن وبخاصة المسرح، والمحطات التي مرَّ بها، وتأثرت كثيرًا بجملته التي قالها تعليقا على رحيل نجله الممثل المسرحي عادل خيري في ريعان شبابه:
"المسرح هو الملاذ الآمن للنفس التي تعاني من الآلام"
وأكد أنه رغم الأحزان التي تعتصر قلبه، إلا أنه يؤمن بأن لديه رسالة يجب أن يقدمها كما يجب أن تكون، ويعطيها كل جهده وذلك لحبه للمسرح ولإيمانه به.
وذكر في حديثه: "العمل بالمسرح يخفف عني ويمنحني الوقت الذي انشغل فيه بتعمق من خلال الكتابة والابتعاد عن ذكريات تحز في نفسي".
وذكر بديع خيرى أن اهتمامه بالمسرح وفنونه منذ شبابه بدأ من خلال غرامه بالتمثيل الذي كان هوايته الأولى ولم يكن يتخيل يوما أن يتخلى عن التمثيل ليصبح كاتبًا للمسرح.
ففي عام 1916م تقدم إلى لجنة لاختبار المواهب في التمثيل، وكان من بين أعضاء اللجنة زكى طليمات، وجورج أبيض، لكنه رسب في اختبار الأداء، فأصيب بالإحباط، لكنه لم يستسلم، أسس فرقة اسماها "المصري للتمثيل العصري" وكتب لها اقتباسات عن مسرحيات أجنبية وعُرضت أعمالها على مسرح الإيجيبسيانا.
وفي عام 1917م أسس المسرح الأدبي، وألف بعض المسرحيات لفرقة عكاشة.
ثم اشترك مع مجموعة من زملائه في تكوين جمعية باسم أنصار التمثيل، ولم تكن ظروفهم المادية تسمح لهم بشراء مسرحية من كاتب كبير، ليقوم هو بكتابة نصوص كوميدية، تحمل واقعًا مصريًا خالصًا، وكانت أول مسرحياته عام 1918م (أما حتة ورطة)، وكان هذا العام علامة فارقة في حياة بديع خيري وتاريخ المسرح المصري.
كان نجيب الريحاني يسكن أعلى مسرح الإيجيبسيانا، المعروضة عليه المسرحية، وشاهدها مصادفة، أعجب بها وسأل عن مؤلفها، وطلب مقابلته في مكتبه، وطلب من بديع خيري أن يترك التدريس، ويتعاون معه، لكن بديع خيري أخبره أنه لن يتركه قبل أن يحقق نفسه أولًا، وكتب مسرحيتين له تحت اسم مستعار "جورج شفتيشي"، وكانت أولى مسرحياته "على كيفك" أول تعاون بينه وبين الريحاني.
عام 1929م سافر نجيب الريحاني وفرقته، في جولة فنية إلى البرازيل، فاتجه خيري إلى التعاون مع الفنان علي الكسار، وكتب له مسرحية "مين فيهم"، وبعد إعادة منيرة المهدية تكوين فرقتها، كتب لها خيري أوبريت "الغندورة"، وأدى نجاح الأوبريت إلى استمرارهما، كتب لها أوبريتات "قمر الزمان"، و"حورية هانم"، و"الحيلة"، كما قدم عدة أوبريتات لفرقة عكاشة.
بعد عودة نجيب من جولته في البرازيل استمر الثنائي بديع والريحاني يعملان معًا حتى رحيل نجيب الريحاني عن عالمنا في 8 يونيو 1949م، تركا فيها خلال هذه المسيرة تراثًا ضخمًا من الأعمال نحو 122 مسرحية وأوبريتًا استعراضيًا، منها على سبيل المثال لا الحصر: المحظوظ، وحسن ومرقص وكوهين، والفلوس، وأنا وأنت، ولو كنت ملك، و30 يوم في السجن، ومجلس الأنس، والدنيا على كف عفريت، والستات ما يعرفوش يكذبوا، ويا ما كان في نفسي، وقسمتي، والدلوعة…إلخ، وأرست هذه النماذج المسرحية المتطورة قواعد المسرح الكوميدي الاجتماعي سواء على المستوى المحلى في مصر أو في العالم العربي، واصل بديع خيري إدارة الفرقة وتقديم عروضه وتراثه الفني، الذي قدمه ابنه الأكبر: عادل بديع خيري: حتى وفاته المبكرة في عام 1963م، عن عمر لم يتجاوز الثانية والثلاثين.
تميزت أعمال بديع خيري بالتركيز على القضايا الاجتماعية والسياسية، والثورة عليها، وتوظيف الكوميديا كأداة لنقد الأوضاع السائدة في هذا الوقت، وكان من أشهر أعماله المسرحية في هذا السياق: العيال كبرت: و"إلا خمسة: ، والتي لا تزال تُعرض حتى الآن وتُعتبر من الكلاسيكيات في المسرح المصري، وأيضًا هناك المسرحيات الاستعراضية: الجنيه المصري، العشرة الطيبة، لزقة إنجليزي.
أحدث بديع خيري ثورة في فن المسرح المصري، كان سباقًا وشجاعًا في استخدام اللغة العامية في حواراته المسرحية، مما أضفى عليها طابعًا شعبيًا، جعلها أكثر قربًا من الجمهور، حيث كانت اللغة العربية الفصحى هي لغة الحوار السائدة في الأعمال الأدبية والمسرحية. لكنه أدرك بحكمته أن التواصل مع الجمهور يتطلب استخدام لغة قريبة، يفهمها الناس ويشعرون أنها تعبر عنهم.
امتلك بديع خيري قدرة فائقة على المزج بين الكوميديا والدراما، بدت واضحة على سبيل المثال في مسرحية: الدنيا لما تضحك:، تناول فيها موضوعات تتعلق بالحب والصداقة والخيانة، تميزت المسرحية بحبكة درامية متقنة، جمعت بين الجدية والفكاهة، وتمكن عبر فصولها الثلاثة من بناء تصاعد درامي، وحوار ممتع ومؤثر، شد انتباه الجمهور حتى نهاية المسرحية.
ويعد إدخاله للأغاني وتوظيفها في مسرحياته إضافة جيدة وجديدة، أضفت عليها حيوية وجعلتها أكثر جاذبية.
لم تقتصر إسهامات بديع خيري في تطوير المسرح المصري على لغة الحوار والشكل فقط، إنما امتدت إلى الموضوعات والقضايا التي تعكس واقع المجتمع المصري بكل ما فيه من تناقضات وتحديات، مثل الفقر والفساد والطبقية، عالجها بأسلوب ساخر، جعل الجمهور يتفاعل معها بشكل إيجابي، ولم تكن مجرد وسيلة للترفيه، بل كانت تهدف إلى توعية الجمهور وتحفيزه على التفكير في هذه القضايا التي تؤثر على حياتهم وهمهم اليومي. وتدليلًا على ذلك قدمت مسرحية: كشكش بيه: شخصية الرجل الريفي البسيط الذي يواجه تحديات الحياة في المدينة، ولم تكن مجرد عمل كوميدي يدعو للمتعة فقط، بل كانت تعكس التغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي حدثت في مصر في ذلك الوقت، سلط فيها خيري والريحاني الضوء على الفجوة بين الريف والمدينة، والتحديات التي يواجهها الأفراد في التكيف مع الحياة الحضرية.
في عام 1966م توقف قلم بديع خيري الساخر، ليرحل عن عالمنا، تاركًا وراءه أثرًا عميقًا في الثقافة العربية، وإرثًا غنيًا من أعماله، التي تُدرس في المعاهد الفنية، وما زلنا نستمتع بإعادة عرضها على شاشات التليفزيون أو على خشبة المسرح، دون ملل بنفس شغف رؤيتها للمرة الأولى، مسرحيات تعج بالحياة، تعكس الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي بشجاعة وصدق، حتي أنها أصبحت جزءًا لا يتجزأ من تراثنا وتكويننا الثقافي المصري.
إن بديع خيري لم يكن مجرد كاتب مسرحي، بل كان رمزًا من رموز النهضة الثقافية في مصر، وأسطورة ساهمت في تشكيل الهوية الفنية للمسرح المصري وتطويرها، ومصدرًا للإلهام لا ينضب معينه، يقتدي به الفنانون والمبدعون في العالم العربي في كل زمان.