في زمنٍ لم يكن فيه الفصل بين الفن والعلم واضحًا، وُلد رجل جمع بين الاثنين في عبقرية لم تتكرر إنه ليوناردو دا فينشي، الذي تحوّل إلى أحد أعظم العقول في التاريخ الإنساني.
ولد دا فينشي في 15 أبريل 1452 في بلدة فينشي الصغيرة التابعة لجمهورية فلورنسا، ونشأ في بيئة ريفية ساهمت في تشكيل حسّه المرهف تجاه الطبيعة، منذ سنواته الأولى، أبدى شغفًا غير عادي بالرسم والملاحظة الدقيقة، لينتقل لاحقًا إلى فلورنسا، حيث تتلمذ على يد الفنان الكبير أندريا ديل فيروكيو، وهناك بدأت ملامح عبقريته تتشكل.
فنّان لا يشبه أحدًا
خلّد التاريخ ليوناردو دا فينشي كرسّام، لكن وصفه بذلك وحده فيه انتقاص، مع ذلك، لا يمكن المرور على فنه دون التوقف طويلاً أمام "الموناليزا"، التي لا تزال ابتسامتها الغامضة تثير جدلاً حتى اليوم، أو "العشاء الأخير"، التي تمثل لحظة إنسانية لاهوتية عظيمة مرسومة على جدار، بأسلوب يدمج بين العمق النفسي والتقنية المبتكرة.
عقل علمي متقد
بعيدًا عن الريشة والألوان، كان لدا فينشي دفترٌ لا يفارقه، يدوّن فيه ملاحظاته ورسوماته حول كل ما يراه، لم يكن عالِمًا بالمعنى التقليدي، بل مكتشفًا بالتجربة والملاحظ، من التشريح الدقيق للجسد البشري، إلى تصور آلات طيران ودبابات بدائية، ومخططات هندسية كانت تسبق زمنها بقرون.
ترك خلفه أكثر من 13 ألف صفحة من الملاحظات والرسومات، تشهد على عبقرية لم تُحتوَ في قالب واحد، ولعلّ أكثر ما يثير الدهشة أن معظم هذه الأفكار لم تُنفذ في حياته، لكن أثرها ظهر لاحقًا مع تطور العلم الحديث.
فيلسوف الجمال والمعرفة
لم تكن إنجازات دا فينشي محصورة في الفن والعلوم فقط، بل حمل رؤية فلسفية للعالم، كان يرى أن "الفن هو ابنة الطبيعة"، وأن الملاحظة الدقيقة أهم من النظريات المجردة، مزج في أعماله بين الحدس العقلي والحس الجمالي، مما جعله أيقونة لعصر النهضة بكل ما يحمله من قيم التعدد والبحث والاكتشاف.
توفي ليوناردو دا فينشي في 2 مايو 1519 في فرنسا، حيث أمضى سنواته الأخيرة في كنف الملك فرانسوا الأول، ورغم رحيله، لا تزال بصماته حاضرة في كل متحف، وكل كتاب علم، وكل فكرة تُحاول أن تجسر بين الفن والعلم.