قبل خمسة وعشرين قرنا من الزمان قدم الفيلسوف الإغريقي أرسطو الأدوار الوظيفية الثلاثة التي يقوم بها الفن المسرحي والتي تتوزع حسب النوع الدرامي؛ وأوضح أن المسرح بوجه عام يضطلع بوظيفتين أساسيتين هما : الإمتاع والتعليم؛ امتاع المتلقي بوسائل العرض من متعة الاكتشاف التي يعيشها في الدراما إلى جانب المتعة التي يتلقاها سمعيا وبصريا، إلى جانب وظيفة التعليم التي تجعل المتلقي يعيش حيوات أخرى عاشها أبطال الدراما ويتعلم منهم فيزداد المتلقي خبرة إنسانية فوق خبرته التي يتلقاها من احتكاكه بالمواقف الحياتية المختلفة .
وإلى جانب هاتين الوظيفتين العامتين هناك وظيفة تختص بالفن التراجيدي؛ حيث أوضح أرسطو – خلال كتابه عن الشعر – أن الوظيفة التي تقوم عليها التراجيديا هي وظيفة تطهير المتفرج من انفعالي الخوف والشفقة عن طريق اثارتهما في نفسه، وهما انفعالان يجعلانه غير قادر على الحكم العقلي السليم في حياته الشخصية؛ وذلك عندما يشاهد المتلقي شخصية نبيلة تعاني أمامه لا بسبب خسة أخلاقية فيها وإنما بسبب خطأ في تكوينها لا تدركه .
أضف إلى ذلك الوظيفة التي يقوم عليها الفن الدرامي الكوميدي وهي وظيفة التطهير أيضا؛ ونعني بالتطهير الكوميدي هنا تطهير المتفرج من انفعال الغضب عن طريق اثارة انفعال الضحك في نفسه .
وبعد أرسطو جاء الشاعر الاتيني هوراس ليؤكد على أن الوظيفة الأساسية التي يقوم بها الفن المسرحي هي نفسها وظيفة الإمتاع والتعليم . وتستمر مسيرة آراء كتاب المسرح ونقاده خلال من عرفوا باسم شراح أرسطو في أوروبا للتأكيد على أن الإمتاع والتعليم هما الوظيفتين الأساسيتين الذي يضطلع بهما الفن المسرحي .
وربما لهذا السبب حرص نقاد المسرح – وبخاصة في المسرح الكلاسيكي الفرنسي – على أهمية أن تتوحد الكتابة المسرحية في ما يعرف باسم وحدة النوع؛ أي أن على الكاتب المسرحي أن يكتب إما تراجيديا خالصة أو كوميديا بكافة تفاصيلها، ورفضوا رفض تاما أن يخلط شعراء المسرح بيثن عناصر الكوميديا والتراجيديا في عمل مسرحي واحد .
ومع ظهور الرومانتيكية في فرنسا خلال القرن الثامن عشر يؤكد شعراء الرومانتيكية على ضرورة الخلط بين العناصر التراجيدية والكوميدية في عمل واحد للتأكيد على أن فن المسرح فن مشاكل للواقع ويشبهه، إذ أن الحياة لا تسير على خط تراجيدي واحد في حياة الإنسان أو على خط يمتليء بالفرح والسرور وأنه من الطبيعي أن يعيش الشعورين في حياة واحدة .
وهذا يعني أن المسرح الرومانتيكي يؤكد أيضا على أن غاية المسرح هي الإمتاع والتعليم أيضا دون الخوض في تفاصيل لا يعترف بها شعراء الرومانتيكية من انقسام الفن الدرامي إلى تراجيديا وكوميديا .
ويأتي التيار المسرحي الواقعي ليهتم أكثر بنغمة التأسي دون الإنغماس في الشعور التراجيدي أو الإنتقال إلى الكتابة الكوميدية؛ للتأكيد على أن الوظيفة الأساسية التي يقوم عليها الفن المسرحي هي الإمتاع وشرح عبر الحياة .
وتستمر هذه النغمة بالإعتراف بأن فن المسرح يرمي إلى المتعة والتعليم حتى نهاية أوائل القرن العشرين .
وخلال الثلث الثاني من القرن العشرين ظهرت مجموعة من التيارات المسرحية تستحدث دورا جديدا لفن المسرح وأساس اهتمامها هو عنصر السياسة؛ مثل المسرح الوثائقي الذي ابتكره رجل المسرح الألماني ارفن بسكاتور والذي كان يستهدف كشف اللثام عن أخطاء الحكام ومن جاء بعده مثل الشاعر والمخرج والمنظر الألماني برتولد بريشت الذي ابتكر تيارا جديدا من المسرح أسماه المسرح الملحمي ثم عدله في نهاية حياته باستحداث بعض التقنيات التي تضمن التأثير على المتفرج بالشكل المطلوب من خلال عملية إثارة وعيه لكي يكون جاهزا لتغيير الواقع المتردي . وهذا يعني أن بسكاتور وبريشت يتفقان في أن وظيفة المسرح هي إثارة وعي المتفرج وإشراك عقله وليس وجدانه في العملية المسرحية.
وفي وطننا العربي وبالتحديد في سوريا نهاية القرن التاسع عشر قدم الشاعر والموسيقي ورجل المسرح أحمد أبو خليل القباني مسرحه معتمدا على عنصري المتعة وإثارة الوعي معا من خلال مسرحه الموسيقي الذي يستلهم التراث الشعبي ليكشف مشكلات الواقع المتردي الذي يعيش فيه مجتمعه . وهو ما نقله إلى الإسكندرية حين أنشأ مسرحا وفرقة تقدم مسرحياته لكن مسرحه احترق بعد فترة مما اضطره إلى العودة إلى سوريا .
وخلال عشرينات القرن العشرين قدم الكاتب المستنير محمد تيمور مسرحيات تكشف المشكلات الإجتماعية التي يعاني منها المجتمع وهو ما تجلى أيضا في أوبريت الذي كتبه وقدمه سيد درويش بعنوان العشرة الطيبة والذي يستعرض أحوال المواطن المصري في تلك الفترة اجتماعيا وسياسيا . وهذا يكشف إلى أي مدى كان وعي المسرحيين العرب - منذ البداية – بقضية إثارة وعي المتفرج سياسيا واجتماعيا عن طريق الفن المسرحي ومن بعدهم جاء توفيق الحكيم ليقدم مجموعة من المسرحيات الكلاسيكية المستوحاة من الأساطير الإغريقية ليؤكد على ما طرحه سابقوه من أهمية المسرح في إثارة وعي جمهور المتفرجين .
وخلال فترة الستينات في مصر والتي يطلق عليها مرحلة العصر الذهبي للمسرح المصري قدم كتاب كثر أمثال محمود دياب ، ميخائيل رومان ، نجيب سرور ، ألفريد فرج ، يوسف إدريس ، وصلاح عبد الصبور ، وعبد الرحمن الشرقاوي مجموعة من المسرحيات التي تتعرض بشكل غير صريح للقضايا السياسية للمجتمع المصري؛ فرأينا قضية السيد والعبد في مسرحية الفرافير ليوسف إدريس التي قدمها عام 1964 ، كما قدم صلاح عبد الصبور قضية الخلاف مع السلطة كما في مسرحية مأساة الحلاج ، وما قدمه عبد الرحمن الشرقاوي من قضية خلاف البطل مع الحاكم كما في مسرحيتي الفتى مهران ومأساة جميلة، كما قدم محمود دياب نفس القضية في مسرحيته ليالي الحصاد .
إن كل هؤلاء الكتاب وغيرهم تعاملوا مع فن المسرح بوصفه وسيلة لجعل المتفرج فردا مستنيرا واعيا بكل ما يحيط من حوله من مشكلات؛ لتبرز قضية إثارة وعي المتفرج من جديد كدور أساسي يراه رواد المسرح في القرن العشرين في سوريا ومصر أمرا ضروريا لنهضة شعبهم ورفعة وطنهم .
إن الفرد المستنير بقضايا وطنه وموقعه من العالم وما يأمل له أن يصبح هذا الوطن في الصفوف الأولى بين أوطان الدنيا يسعى دائما وبدأب وبحرص على أن يقدم فنه المسرحي عملا يرقى بالفكر والوجدان معا، مدركا أن هناك أعمالا يمكن أن تؤخر مسيرة هذا الوطن أو تقدمه . ولهذا فإنه يجب أن يظل الإنتاج المسرحي بيد من يمتلكون حسا وطنيا سليما وعلما بفنون المسرح وموهبة لا حدود لها ليقدم عملا يفيد منه المجتمع ويجعله قادرا على العطاء متحليا بوعي فكري وقدرة عالية على تذوق الجمال، ليصبح جنبا إلى جنب كافة المؤسسات المعنية بتطوير هذا المجتمع وتقدمه .