عاد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في الـ20 من يناير الماضي، ظانًا أن الظروف قد تهيأت لتنفيذ ما عجز عن تحقيقه في فترة ولايته الأولى، فحاول الدفع نحو تهجير الفلسطينيين بحجة أن ذلك يتضمن تحقيق مستقبل أفضل لهم، إلا أن الرد الذي قوبل به هذا الطرح جعله يعود منتكسًا على عقبيه.
وخلال الـ100 يوم الأولى من تنصيبه رئيسًا للولايات المتحدة للمرة الثانية، أبدى الرئيس الأمريكي عزمًا تجاه تهجير فلسطينيي قطاع غزة، في خطة استهدفت منح حليفة بلاده، إسرائيل، ما عجزت عن تحقيقه ميدانيًا، وذلك على الرغم من زعمه أن بلاده ستتولى السيطرة على هذه الأرض العربية.
فكرة التهجير
لم تمضِ خمسُ أيامٍ على وصول الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، إلى البيت الأبيض، حتى طالب بإعادة توطين فلسطينيي قطاع غزة في دول مجاورة مثل مصر والأردن، تحت ذريعة "عدم وجود أماكن صالحة للسكن في قطاع غزة"، بعد أن دمرته حرب الإبادة الإسرائيلية.
وقوبل مقترح الرئيس الأمريكي برفض قاطع على الصعيد الدولي، بما في ذلك من مصر والأردن، اللذين أسماهما كوجهة محتملة للفلسطينيين، لما في ذلك من انتهاك واضح لحقوق الشعب الفلسطيني.
وهدد الرئيس الأمريكي بقطع المساعدات عن مصر والأردن، في محاولة لدفع البلدين نحو قبول خطة تهجير الفلسطينيين، غير أن ذلك لم يزدهم إلا إصرارًا.
وعند لقائه مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في الرابع من فبراير الماضي، أكد أن تهجير الفلسطينيين من غزة سيكون دائمًا، تحت ذريعة أنه مهدم.
وفاجأ ترامب العالم بأكمله، حين قال: "إن الولايات المتحدة ستتولى السيطرة على قطاع غزة، بهدف تفكيك الأسلحة غير المنفجرة، وتحويل القطاع إلى 'ريفييرا الشرق الأوسط'"، على حد قوله.
وزعم في ذات الوقت أنه "يرى في تملك الولايات المتحدة لغزة حلًا طويل الأمد للحرب المدمرة التي شهدها القطاع".
وقد رحب رئيس الوزراء الإسرائيلي بخطة الرئيس الأمريكي، معتبرًا أن السيطرة الأمريكية على غزة "قد تغير التاريخ".
في المقابل، أكدت السلطة الفلسطينية، أن دعوات الرئيس الأمريكي بتهجير فلسطينيي قطاع غزة تمثل انتهاكًا خطيرًا للقانون الدولي، مشددة على أن السلام والاستقرار في المنطقة لن يتحققا دون إقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس على حدود الرابع من حزيران لعام 1967، على أساس حل الدولتين.
كما أعربت حركة حماس عن رفض مقترح الرئيس الأمريكي، الذي وصفته بأنه محاولة مكشوفة لتصفية القضية الفلسطينية والتنكر لحقوق الشعب الفلسطيني.
نحو إقناع مصر الأردن
كان ترامب عازمًا بلا شك على تنفيذ مقترح تهجير فلسطينيي قطاع غزة، وكان واثقًا أيضًا أنه سيتمكن من فعل ذلك من خلال زيادة الضغط على الأطراف المعنية.
وفي لقائه مع ملك الأردن، عبد الله الثاني، في الـ11 من فبراير الماضي، جدد ترامب مطالبه للأردن ومصر لقبول فكرة تهجير فلسطينيي قطاع غزة.
بيد أن ملك الأردن أكد على الموقف العربي الثابت من هذه القضية، معلنًا رفضه لخطة تهجير الفلسطينيين سواء من غزة أو الضفة الغربية، موضحًا أن مصر تعمل على إعداد خطة بشأن قطاع غزة.
وبالتزامن، أكدت مصر رفضها لأي طرح يتصل بتهجير الفلسطينيين من أرضهم، مشددة على مواصلة دعمها لصمود الشعب الفلسطيني على أرضه وتمسكه بحقوقه المشروعة في وطنه، وبمبادئ القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني.
وأمام هذا الموقف المصري الأردني، أكد ترامب، في الـ21 من فبراير الماضي، أن البلدين رفضا المقترح بشكل قاطع، ثم شدد على أنه لن يفرض خطته في هذا السياق، بل سيكتفي بالتوصية بها.
ومع ذلك، قام الرئيس الأمريكي في الـ25 من ذلك الشهر بنشر فيديو تم إنشاؤه باستخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي، يروج لتنفيذ خطته التي تقضي بتهجير الفلسطينيين من غزة، حيث يتضمن الفيديو مشاهد لأطفال حفاة الأقدام يمشون عبر أنقاض القطاع، وذلك قبل أن يسيروا نحو أفق ناطحات السحاب التي تصطف على ساحل غزة، في إشارة إلى الحال التي ستصبح عليه غزة حال تنفيذ خطة ترامب.
وهكذا، ظلت الخطة الأمريكية بتهجير فلسطينيي غزة مطروحة، بحجة أن بلدهم مدمر، بينما حاولت الدول العربية بقيادة مصر دحض هذه الحجة من خلال طرح خطة تتضمن إعادة إعمار القطاع الفلسطيني، دون مغادرة أهله، وذلك خلال القمة العربية الطارئة التي عُقدت في القاهرة في الرابع من مارس الماضي.
وردًا على الخطة العربية، قالت الولايات المتحدة، إن الرئيس دونالد ترامب يتمسك برؤيته لإعادة بناء غزة، في إشارة إلى طرح التهجير، وذلك رغم ما حظيت به هذه الخطة من دعم دولي.
لكن ترامب عاد ليؤكد، في الـ12 من مارس الماضي، أنه "لن يُطرد أي فلسطيني من قطاع غزة"، متراجعًا بذلك عن خطة التهجير التي قدمها.
هل تراجع عن طرح التهجير؟
قد يبدو في العلن أن الولايات المتحدة بقيادة دونالد ترامب تناست طرح تهجير الفلسطينيين، لكن في السر، لا تزال تدفع إليه، ذلك ما يراه الدكتور مختار غباشي، الخبير السياسي والاستراتيجي، حيث يوضح أن واشنطن رفعت يديها عن تنفيذ هذا الطرح، وقد تركت هذه المهمة لإسرائيل.
وقال الدكتور مختار غباشي، في حديث لـ"دار الهلال"، إن فكرة تهجير الفلسطينيين لا تزال تراود ذهن الرئيس الأمريكي، غير أن إثارتها تتم بشكل غير مُعلن، مؤكدًا أنه خلق لنفسه أزمة عندما تحدث عن خطته تجاه قطاع غزة بشكل علني.
ويدعم وجهة نظره بالإشارة إلى أن الرئيس دونالد ترامب ترك الباب مفتوحًا على مصراعيه أمام إسرائيل لتفعل في قطاع غزة ما تريد، وذلك من خلال دعمها للتنصل من اتفاق وقف إطلاق النار الذي كان مُبرمًا مع حركة حماس في الـ18 من مارس الماضي.
وأكد أن الأمر الوحيد الذي قد يبرهن على أن الولايات المتحدة أغلقت صفحة تهجير الفلسطينيين هو أن تدفعها نحو وقف اعتداءاتها في قطاع غزة والضفة الغربية، لكن ذلك لم يحدث.
وأوضح الخبير السياسي والاستراتيجي، أن الرئيس الأمريكي، حين طرح خطة التهجير علنًا، كان يريد أن يظفر بمباركة إقليمية ودولية، لكنه فوجئ برفض قاطع، ما دفعه للعدول عن تصريحاته بهذا الخصوص، وفي المقابل، أوعز لإسرائيل بأن تنكل بالفلسطينيين.
وأضاف أن من المستحيل أن تمارس إسرائيل حربها هذه على قطاع غزة ليوم واحد فقط دون إذن أمريكي ورضا من الرئيس دونالد ترامب تحديدًا. وعليه، يؤكد أن الإدارة الأمريكية ماضية في طرح التهجير، ولكن ليس بشكل "معلن ممنهج"، حيث إن الضغط على أهالي غزة، وحصارهم، وقطع الإمدادات الإنسانية والغذائية عنهم، لا يفسر إلا أنه مسعى تجاه تهجيرهم.
وأوضح أن الخطة المصرية بشأن إعادة إعمار قطاع غزة، التي قُدمت في القمة العربية الطارئة في الرابع من شهر مارس الماضي، موقوفة، رغم أنها طرحت عندما طلب الرئيس الأمريكي من الدول الرافضة لموضوع تهجير الفلسطينيين طرح خطتها البديلة.
وقال إن هذه الخطة "موقوفة" على تحقيق وقف دائم لإطلاق النار وإعلان انتهاء الحرب، وانسحاب إسرائيل من قطاع غزة، وفتح المعابر بدون قيد أو شرط. وما دامت هذه الأمور الثلاثة لم تتحقق، فلا توجد خطة، مشيرًا إلى تفاقم الأوضاع الإنسانية في القطاع جراء الحصار الإسرائيلي المستمر منذ نحو شهرين.
وحول مزاعم ترامب الأخيرة بأنه طلب من زعيم الحكومة الإسرائيلية إدخال المساعدات إلى قطاع غزة، أضاف الدكتور مختار غباشي دون تردد، إنه "يكذب"، لأن ذلك لن يتحقق إلا عبر وقف الحرب وفتح المعابر.