الأحد 6 يوليو 2025

مقالات

أرنولد توينبي مؤرخ عالمي نزيه وشجاع واجه الصهيونية في كل مكان

  • 4-5-2025 | 14:56
طباعة

حكى المؤرخ المصري المعروف الدكتور محمد أنيس (1921-1986م) أنه دار بينه وبين المؤرخ الإنجليزي الكبير أرنولد توينبي (Arnold J. Toynbee) (1889-1975م) حوار، وقال: سألته: ماذا تقول عنك الدوائر الصهيونية؟ فضحك وقال: «يقولون إنني معادٍ لليهود (anti-Semitic)، والحقيقة أني لست كذلك، فلي أصدقاء كثيرون من اليهود في أوروبا وفي أمريكا، ولكني أعادي الصهيونية، وبالذات عدوانها على عرب فلسطين. إنهم يطاردونني أينما أذهب، فلا أذكر أنني وقفت ألقي محاضرة عامة إلا ويسألني أحد اليهود الصهاينة: مستر توينبي، هل قلت حقيقة إن اليهود فعلوا بالعرب ما فعله النازيون باليهود؟ وإجابتي دائمًا هي: نعم، أنا أعتقد ذلك».

ويُعتبر أرنولد توينبي من كبار المؤرخين في العصر الحديث، ومن القلائل أصحاب النظريات العامة في تفسير التاريخ. وقد طبقت شهرته الآفاق بنظريته في التحدي والاستجابة (Challenge and Response) لتفسير الحوادث التاريخية، وقد استطاع بمؤلفاته العديدة والقيمة أن يحتل موقعًا متميزًا بين مؤرخي العالم عبر عصور التاريخ الإنساني. وفي هذه المقالة محاولة لرصد معالم مواجهته للصهيونية. لقد كان توينبي يرى أن الجريمة التي ارتكبها اليهود الصهاينة في فلسطين أشد شناعةً من جرائم طرد اليهود واضطهادهم على أيدي نبوخذ نصر وتيتوس وهادريان ومحاكم التفتيش الإسبانية والبرتغالية؛ وذلك لأنهم في سنة 1948م كانوا يعرفون من تجربتهم الشخصية ماذا هم فاعلون. وكانت مأساتهم الكبرى أن الدرس الذي تلقوه على أيدي النازيين لم يعلمهم كيف يمكن أن يتجنبوا هذه السقطة، بل إن جريمتهم تعتبر أكبر لأنهم كانوا أكثر خبرةً ودرايةً من الألمان النازيين بمعنى الاضطهاد.

جذور مواجهة توينبي: إن رؤية توينبي المواجهة للصهيونية ترجع في جذورها إلى النتائج التي خرجت بها دراسته التاريخية الدقيقة التي عقدها في الجزء الثامن من كتابه المهم، الذي للأسف لم يُترجم إلى اللغة العربية حتى الآن، أقصد طبعًا كتابه المرجع (دراسة التاريخ A Study of History)، ذلك الكتاب الذي ظل توينبي يؤلف أجزاءه العشرة لأكثر من ربع قرن، تناول فيه كل الحضارات الإنسانية التي شهدتها الأرض. توينبي ممسكًا أحد أجزاء كتابه (دراسة التاريخ) قام توينبي بنقد الصهيونية وتفكيك دعاويها ومبرراتها المستندة في زعمها إلى التاريخ، مبيِّنًا أن اليهود يسردون التاريخ من وجهة نظرهم الكارهة للعالم، والتي تسيطر عليها فكرة شعب الله المختار، وأنهم بذلك يمكن وصفهم بأنهم جماعات متحجرة فكريًّا وروحيًّا، وقد ساعدهم على الوصول إلى هذا المستوى ما تعرضوا له أحيانًا من اضطهاد كانت له تأثيراته السلبية على النفسية اليهودية.

رأى توينبي أن نشأة الصهيونية ترجع إلى عاملين أساسيين مرتبطين بالغرب، وهما: معاداة السامية، وانتشار فكرة القومية بمدلولها الغربي ونزعة التوسع وراء البحار. وذكر أن نشأة الحركة الصهيونية كانت رد فعل لموقف الغرب من اليهود؛ إذ لم يكن أمام اليهود سوى أحد خيارين: إما إنشاء وطن قومي لليهود في أي مكان بالعالم، وإما أن يبقوا في الغرب متحملين كافة صنوف الاضطهاد مع محاولة التغلب عليها، واختارت الصهيونية الخيار الأول بعد استقرارها على تحديد فلسطين لتكون موطن هذا الوطن القومي، والذي كان اختيارًا متماشيًا مع التراث اليهودي الذي تتردد فيه كثيرًا نغمة العودة اليهودية إلى فلسطين منذ آخر الثورات اليهودية في القرن الثاني الميلادي، أي خلال ثمانية عشر قرنًا من الزمان. ويفرق توينبي هنا بين اليهودية القديمة والصهيونية الحديثة؛ فالأولى كانت عقيدتها وإيمانها المتوارث تاريخيًّا ممثلَين في الإيمان بأن أمر العودة موكول إلى الرب وإرادته، وليس إلى إرادة البشر وأعمالهم السياسية كما فعلت الصهيونية التي تناقضت بهذا السلوك مع التراث اليهودي التقليدي، مما يدل على اتصاف الصهيونية بالحماقة السياسية التي كانت مظهرًا عامًا للطبيعة الاستعمارية التي صبغت الحركة الصهيونية من حيث نشأتها وأسلوبها.

وعزا توينبي نجاح الحركة الصهيونية في اغتصاب فلسطين إلى إرادة الغرب الذي أراد أن يعوض اليهود عن المظالم التي تعرضوا لها على أيدي الغربيين أنفسهم. وهنا يوجه توينبي اتهامًا للغرب الذي قام بتعويض اليهود ليس على حسابه بل على حساب شعب بريء ليس غربيًّا لا يمكن تحميله ما حاق باليهود من مظالم، وتُعتبر جرائم الصهيونية في حق العرب أشنع من جريمة النازية في حق اليهود.

وأوضح توينبي أن كارثة فلسطين لا تتحمل بريطانيا وحدها مسؤوليتها، بل وتشاركها في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا. ويعلِّق توينبي على إنشاء إسرائيل بوصفها ثمرة للحركة الصهيونية قائلًا: إن هذا الإنشاء لن يعمل على حل المشكلة اليهودية، وقد يؤدي إلى العكس تمامًا من المراد من إنشائها؛ إذ يمكن أن يترتب على قيامها مشكلات كثيرة، يأتي في مقدمتها انقسام المجتمع اليهودي، سواء بين اليهود داخل فلسطين بعضهم البعض، أو بينهم وبين اليهود في العالم أي يهود الشتات، كما أن هذه الدولة الصهيونية ستتعرض إلى ضربة قاصمة تهدد وجودها إذا توقف يهود الشتات، وهم أغلبية اليهود، عن تقديم مساعداتهم لإسرائيل كنتيجة لهذه الحالة من الانقسام.

وأكد توينبي أنه لا يمكن للدولة الصهيونية القضاء على المقاومة الفلسطينية، أصحاب الحق الشرعي في البلاد؛ وذلك لأن الفلسطينيين ليسوا من القلة المتخلفة مثل الهنود الحمر أو سكان أستراليا الأصليين؛ فهم يتمتعون بالعدد الكبير والتراث الثقافي والانتماء لمحيط أوسع في العالم العربي. ورأى توينبي أن إسرائيل القائمة على الأفكار الصهيونية ليست إلا طبعة ثانية من الدولة الغربية العنصرية الحديثة، وتناول العدوان الصهيوني على فلسطين، والمظالم التي ألمت بشعب فلسطين على أيدي العصابات الصهيونية المجرمة. وقد دفعت نزاهة توينبي إلى توجيه الإدانة ليس فقط للحركة الصهيونية العالمية، بل كذلك إدانة حكومته الإنجليزية أيضًا، إذ قال: "إن الدولة التي تتحمل نصيب الأسد في المسؤولية الأساسية عن النكبة، وخاصة ما بين الحربين العالميتين، هي بريطانيا التي كانت الدولة المحتلة والمنتدبة التي أدارت شؤون فلسطين خلال الفترة من 1917 إلى 1948م".

مناظرة توينبي مع السفير الإسرائيلي بكندا:

ودراسة توينبي للصهيونية ونقده لها جَرَّا عليه عداءات الدوائر الصهيونية وأشياعها ومطاردتها له في كل مكان يحاضر فيه في الجامعات والملتقيات العلمية والثقافية في الدول الأوروبية والأمريكية. وبسبب آرائه، تعرض توينبي لحملة وحشية من جانب الصهيونية في الغرب والأوساط الاستعمارية، وهاجموه في الصحف الغربية هجومًا عنيفًا، حتى إن أحد كبار الساسة والدبلوماسيين الإسرائيليين، وهو أبا إيبان Abba Eban (1915- 2002م)، وضع كتابًا خصصه بالكامل للهجوم على توينبي، وهو كتابه (Toynbee's Heresy) أي (هرطقة توينبي) أو (ضلال توينبي). أبا إيبان كتاب “هرطقة توينبي” في إحدى المرات، كان توينبي يلقي محاضرة في جامعة ماكجيل (McGill University) في مونتريال بكندا حول إسرائيل والعرب اللاجئين. وقال رأيه المعروف بصراحته المعهودة عنه: "إن معاملة اليهود للعرب في فلسطين سنة 1948م كانت مشابهة من الناحية الأخلاقية لقتل النازي لليهود أثناء الحرب العالمية". ولم يكد ينتهي توينبي من إلقاء محاضرته حتى استنجد الطلبة الصهاينة بسفير دولتهم في كندا، ياكوف هيرتزوج (Yakov Herzog)، فما كان من هذا السفير الإسرائيلي إلا أن احتج احتجاجًا عنيفًا على المحاضرة وطالب بإجراء مناقشة علنية أو مناظرة بينه وبين توينبي. وقد وافق توينبي على التحدي، وعقدت المناقشة في أواخر شهر يناير 1961م لمدة ساعتين، وضح للعيان فيها حجج توينبي القوية وتمكنه من أدوات الحجاج والبرهنة التاريخية في الرد على الأكاذيب الصهيونية، مثبتًا بالأدلة القوية والمقنعة أن اليهود لم يكن لهم تاريخيًّا وجود في فلسطين. قام توينبي بنبش تاريخ الوجود اليهودي في فلسطين، وأوضح أنه في عام 135م لم يكن هناك أي وجود يهودي ذي كيان في فلسطين، بل دخلوا فلسطين كأقلية. كما أضاف أنه منذ سنة 64 قبل الميلاد لم تكن هناك دولة يهودية في فلسطين. وأدان توينبي في مناظرته الصهاينة لارتكابهم مجزرة (دير ياسين) وقتلهم لأكثر من مائتين وخمسين عربيًّا وإلقاء جثثهم في بئر القرية وتغطيتها بالقمامة. ولم تكن هذه المذبحة المروعة لتثبت حقيقتها لولا شهادة الصليب الأحمر الدولي. هذه المذبحة التي اشتركت فيها عصابات (الهاجاناه Haganah) و(الأرجون Irrgun) بقيادة مناحم بيجين (Menachem Begin) بتاريخ 9 أبريل سنة 1948م. توينبي - مناحم بيجين وخلال حديث توينبي، كانت صيحات الصهاينة ترتفع ضده، واتهمه سفيرهم بالتحيز إلى العرب.

فرد عليه قائلًا: "إنني خدمت في كلتا الحربين العالميتين موظفًا مؤقتًا في وزارة الخارجية البريطانية، ولكنني لم أكن قط في مجال موالٍ للعرب، وإنما كنت على الدوام معارضًا للسياسة البريطانية بشأن فلسطين. إنني لست عربيًّا ولا يهوديًّا، فليست لي أية مصلحة شخصية في أن أحابي أحد الفريقين أو أن أحمل عليه. ولكنني أعتقد فيما يتعلق بالمشكلة القائمة بين الفلسطينيين العرب والصهيونيين أن الفلسطينيين العرب على صواب، وأن الصهيونية على خطأ". وكانت لهذه المناظرة أصداء عالمية واسعة، أبانت عن وجود مؤرخ عالمي نزيه ومنصف وشجاع لا يهاب أية قوة تقف أمام إبداء رأيه الذي يراه حقًّا جليًّا. هذا وفي الوقت نفسه، أثارت هذه المناظرة ضد توينبي تشنيعات الصهيونيين في كل أرجاء العالم، خاصة مع ما كان يذكره دائمًا من أن الحركة الصهيونية جمعت بين جنبيها أسوأ ما في الحضارة الغربية، ممثلًا في القومية العمياء والاستعمار، وأن ما ارتكبه الصهاينة في فلسطين يعتبر من أبشع الجرائم التي ارتكبت خلال القرون الخمسة الأخيرة بواسطة الغزاة والمستعمرين. وأكد في مناظرته للسفير الإسرائيلي أن تاريخ الصهيونية ليس سوى تاريخ سرقة ونهب واغتصاب بقوة السلاح، وأن ما فعله الصهاينة مع العرب في فلسطين أفظع مما فعله النازيون مع اليهود.

أرنولد توينبي في مصر: ومن أصداء هذه المناظرة أن اهتم العالم العربي بأخبار توينبي، وكان لتوينبي صلات سابقة بالعرب وتاريخهم، كما كان له تلاميذ من المؤرخين العرب، أبرزهم الأستاذ محمد شفيق غربال (1894- 1961م). المؤرخ المصري محمد شفيق غربال وقد حدث بعد المناظرة أن وجه شفيق غربال الدعوة لأستاذه توينبي لكي يزور مصر لقضاء الشتاء بها، ورحب توينبي بالدعوة التي ستجعله قريبًا من مسرح الأحداث. وبالفعل، قدم إلى مصر في السنة نفسها التي جرت فيها المناظرة السابقة، غير أن غربال كان قد وافته المنية قبل قدوم توينبي بفترة وجيزة. وصل توينبي إلى مصر في ديسمبر 1961م، استقبله فيها الزعيم جمال عبد الناصر وكبار رجال الدولة في مصر، وألقى مجموعة من المحاضرات، من بينها محاضرته في قاعة الاجتماعات الكبرى بجامعة القاهرة عن (القضية الفلسطينية). وفي هذه المحاضرة كرر بعض أفكاره التي ذكرها من قبل في كتابه (دراسة التاريخ)، غير أنه مما ينبغي ملاحظته في المحاضرة: لقاء الزعيم جمال عبدالناصر بأرنولد توينبي إبداؤه تعاطفه الواضح مع الجانب الفلسطيني؛ وما تعرض له من ظلم فادح ومأساة ارتكبتها الصهيونية في حقه، فقال عن ذلك: "المصير المؤلم لمليون من الرجال والنساء والأطفال الذين حرموا من ديارهم وممتلكاتهم، وأسوأ من هذا كله من مستقبلهم... إنها لمأساة من مآسي الضمير أن يرتكب أحفاد اليهود الذين طردوا مرة من بلادهم في حق عرب فلسطين في أيامنا هذه ألوان الاضطهاد التي عانى منها أجدادهم.. فأي أمل هناك للإنسانية إذا ما أنزلنا بغيرنا المظالم نفسها التي عانينا منها نحن أنفسنا". ومما قاله توينبي في محاضرته: "إن الأوضاع الراهنة في فلسطين تثير الآلام، لكن الفلسطينيين لم يتنازلوا عن حقوقهم، ومازالوا أصحاب الحق الشرعي في ديارهم وممتلكاتهم. ومازال لهم الحق في أن يعيشوا في ديارهم وبلادهم. وفي اعتقادي أن أية محاولة لتسوية قضية فلسطين لن تحرز نجاحًا إذا لم تحقق حقوق عرب فلسطين العادلة". أظهر توينبي في محاضرته رأيه في أن القضاء على الصهيونية في الشرق الأوسط وحل المشكلة الفلسطينية لن يتأتى إلا بحدوث وحدة عربية. وذكر ذلك على نحو واضح قائلًا: "إذا تطلعنا إلى المستقبل، لا يملك الفرد إلا أن يسأل نفسه كيف تستطيع الشعوب العربية الأخرى مساعدة فلسطين مساعدة فعالة. إنني أظن أن لا شيء يمكن أن يخدم قضية عرب فلسطين كحركة تعمل في سبيل قيام اتحاد وثيق وفعال للعالم العربي كله... وأنا على ثقة تامة من أن العالم العربي كله إذا تكلم بصوت واحد، فإن هذا الصوت سيسمعه العالم وسينصت إليه باهتمام أكثر مما يفعل. والواقع أنني أعتقد أن هذا الصوت العربي الموحد سيكون أكثر فعالية في تقصير أمد الفترة التي يعاني فيها الفلسطينيون العرب من الظلم الواقع عليهم الآن".

أرنولد توينبي في لقائه ببعض أساتذة الجامعات المصرية وبعد سيل الكتابات الصهيونية ضد توينبي من جراء ما ذكره في محاضراته بالقاهرة طلب توينبي من المسئولين المصريين تنظيم زيارة له لقطاع غزة، وفعلًا تحقق له طلبه، ومن الملفت للانتباه في زيارة توينبي لقطاع غزة قيامه بالتبرع للاجئين الفلسطينيين بنصف قيمة المكافآت المادية التي حصل عليها جراء محاضراته المصرية. لقد أثبت توينبي في مواقفه الكثيرة في مواجهة الصهيونية أنه مؤرخ مستقل يتصف بالنزاهة والإنصاف، وأنه كان يهدف إلى الحقيقة المجردة دون أي انحياز وطني أو ديني أو فكري، ولم يقع في أسر البيئة التي نشأ فيها ضاربًا بذلك المثل والنموذج في الشجاعة العلمية التي وقفت أمام الصهيونية وعدائها السافر واتهاماتها ومطاردتها لكل من ينقدها ويبين تهاوي الأسس التي قامت عليها وعوار سياساتها.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة