شخص ما عبقري اكتشف في زمن ما لم يحدده التاريخ،أن صياغة أي فكرة أو مبدأ في شكل حدوتة يكون له مفعول السحر في وصول الفكرة وتأثيرها في المتلقى أسرع ألف مرة من صياغة نفس الفكرة في شكل سردي أو دعائي أو إرشادي،حتى أن الكتب السماوية تمتلأ بقصص الأولين التى تحوي تفاصيل وأهدافا وموعظة يتبينها أصحاب الألباب، بالإضافه طبعا للاستمتاع بتفاصيل القصص، التي تتحدث وتسجل نواقص النفس البشرية وماتؤدي له من كوارث ومآس، بالإضافة إلى الاحتفاء بأصحاب الأنفس السوية أو الأقرب للسوية.
قبل اختراع الأدوات الحديثة في نقل الصوت أو الصورة كان هناك الراوى الذى يسرد الحكايات بأسلوب مشوق على جمع من الناس يعشقون تلك الحكايات ويتلهفون إلى سماعها ولو عدة مرات، ثم تطور الأمر إلى ظهور الرواية المكتوبة التى أدى اختراع الطباعة إلى زيادة الإقبال عليها، وانتشارها في أرجاء العالم، وتمر قرون حتى تظهر آلة السينما التى أتاحت أسلوبا جديدا ومبتكرا في فن صياغة الحواديت في أفلام سينمائية واسعة التأثير.
كان التطور الطبيعى لاستخدام الكاميرا في سرد القصص والحكايات بعدة أساليب تتأرجح بين التراجيديا والكوميديا، أن استحدثت طريقة جديدة تناسب اختراع التليفزيون الذى انتشر مع بداية الخمسينيات من القرن العشرين، في أنحاء العالم ووصل مصر والعالم العربى في الستينيات، وعرف العالم للمرة الأولى فكرة وجود المسلسلات التليفزيونية،التى انتشرت انتشارا واسعاً هدد الأفلام السينمائية في كثير من المناطق الجغرافية التى تناقص فيها دور العرض السينمائى! • كان التليفزيون المصرى من أهم مصادر تقديم الدراما التليفزيونية في العالم العربى، وقد تطورت الدراما ومرت بعدة مراحل أدت إلى إنشاء عدة ستوديوهات مجهزة بأحدث وسائل التصوير والمونتاج، كما ظهرت أجيال من كتاب السيناريو المحترفين الذين ساهموا في إثراء الشاشة بأنواع مختلفة من الدراما بعضها مأخوذ عن روايات محلية وعالمية، وبعضها مكتوب خصيصا للشاشة، وقد نتذكر من أحداث الماضى القريب، إنشاء قطاع الإنتاج، الذى قام بتقديم عشرات المسلسلات التى لاقت رواجا في أنحاء العالم العربى وكان لها تاثير كبير على تعلق الجماهير بالدراما واللهجة المصرية وأصبح الممثل المصرى له شعبية وجماهيرية في كل أنحاء الرقعة الجغرافية العربية، وأصبح التليفزيون العربى معملا لتفريخ نجوم التمثيل والتأليف والإخراج، من بين هؤلاء ظهر جيل نور الشريف،محمود يس، محمود عبدالعزيز،أحمد زكى وعشرات غيرهم وفى مجال التأليف ظهر أسامة أنور عكاشة، وحيد حامد، يسرى الجندى، محمد صفاء عامر وآخرون، وللأسف توقف هذا الزخم وهذا الثراء الإبداعى، في السنوات العشر الأخيرة نتيجة تغيرات كثيره منها توقف قطاع الإنتاج، وصوت القاهرة عن تقديم مزيد من الأعمال الدرامية الحديثة، ولكن لأن الإبداع المصرى لايتوقف فكانت الشركة المتحدة التى تتولى إنتاج مسلسلات حديثة طوال السنوات الأخيرة والملاحظ أن مستوى الأعمال التى تقدمها في حالة واضحة من الازدهار والتألق لاتخفى عن أعين وإدراك المتابع.
• موسم رمضان هو أفضل توقيت لعرض الأعمال الدرامية الحديثة لعدة اعتبارات منها كثافة المشاهدة وماينتج عنها من كثافة الإعلانات والمتابعات الصحفية والنقدية على مستوى العالم العربى، وربما يكون موسم 2025 هو ألاكثر نضجاً وكثافة واضحة في الأعمال الجيدة وبعضها بالغ الجودة، أعمال تتسم بالجرأة والإبداع والنضج الفنى، وربما يكون التخلص من عادة تقديم المسلسلات في 30 حلقة قد ساهم في تجنب المط والتطويل الذى كان يفسد الكثير من الأعمال الفنية، ويؤدى إلى شعور المتفرج بالضجر والملل، وقد شاهدنا هذا العام مايزيد على عشرة أعمال لايزيد عدد حلقاتها على 15 حلقة تم توزيع عرضها على النصف الأول والثانى من رمضان. • من أهم وأجمل ماتم تقديمه في موسم 2025 مسلسل ولاد الشمس، الذى منح فرصه البطولة المطلقة، لكل من أحمد مالك وطه دسوقى يساندهما حشد من الوجوه الطازجة مع نجم كبير وله مكانة متميزة بين أهم ممثلى هذا الزمن وهو محمود حميدة، واستطاع المسلسل أن يسلط الضوء على نماذج وقضايا تخص أطفال الملاجئ ودور الرعاية في مراحل حياتهم المختلفة، من بينها الأسر التى تعيد أبناءها بالتبنى إلى دور الرعاية مرة أخرى بعد أن يرزقوا بطفل بيولوجى من أصلابهم، المسلسل نال شعبية ضخمة لاستعراضه لحالات إنسانية بأسلوب منطقى واع بعيداً عن الميلودراما والمُتاجرة بآلام الأطفال اليتامى. المسلسل من تأليف مهاب طارق وإخراج شادى عبد السلام.
• وكان مسلسل 80 باكو من مفاجآت هذا الموسم وهو العمل الدرامى الأول للمخرجة كوثريونس وتأليف غاده عبدالعال ويتعامل المسلسل مع فتيات مكافحات يعملن في صالون لتصفيف شعر النساء تملكه السيدة لولا "انتصار" ولكل فتاة مشاكلها وأسلوبها في مواجهة أزمات الحياة وصراعاتها المريرة دون أن يقع العمل في هوة المبالغة أو التباكى وقد منح العمل فرصة ذهبية لتألق مجموعة من المواهب الشابة منهن هدى المفتى، ورحمة أحمد، دنيا سامى بالإضافه إلى أسطى الأداء الدرامى المتنوع "انتصار".
• ويعود المخرج المتميز تامر محسن بمسلسل قلبى ومفتاحه لينضم إلى قائمة من الأعمال التى لايمكن أن تنسى وهى تغوص في أعماق النفس البشرية لتستخرج ما بها من كنوز وصدمات وقد كان المسلسل فرصة لتقديم الفنان آسر يس في شخصية وأداء مختلف وكذلك مى عز الدين التى تستعيد وهجها بعد طول إخفاق، المسلسل يقدم نماذج إنسانية تعيش في منطقه اللبينى بالمريوطية التى تقترب من الأحياء الشعبية رغم مظاهر الثراء التى تغلف حياة بعض السكان، وقد منح المسلسل فرصة لاتتوفر كثيرا أمام أى مبدع غير أن محمد دياب نجح فوق ما يتوقع المتابع في تقديم دور أسعد التاجر الذى يبسط نفوذه على كل من يتعامل معه حتى زوجته التى يسىء معاملتها رغم عشقه لها، فهو لم يتعود الحب ولكنه يتوقع أن يستسلم الجميع لرغباته ونزعاته في السيطرة، المسلسل حقق نسبة مشاهدة عريضة وتعلق الجمهور بشخوصه وتابعوها بإعجاب وعناية فكان من الأعمال المبهرة في موسم رمضان 25 .
• لم يخب أحمد أمين الآمال المعقودة عليه في تقديم مسلسل كوميدى راق يعتمد على المواقف المتصاعدة لتقديم كوميديا مأخوذة من عبق التاريخ ومن مذكرات نشال تائب عاش في مرحلة الثلاثينيات من القرن العشرين، إبان الاستعمار الإنجليزى، وتحول النُص"أحمد أمين" من نشال يعمل لصالحه إلى صاحب فريق مقاومة يكبد المحتل خسائر في المال والأرواح، دون أن يتحول العمل إلى ضجيج صاخب عن حب الوطن ولم يحد مخرج المسلسل حسام علي عن النمط الكوميدى واستغل مجموعة المواهب التى استعان بها مثل صدقى صخر، حمزه العايلى، أسماء أبو اليزيد في صياغة عالم كامل في زمن يبعد عن عصرنا الحالى بمايزيد على مائة عام. • ولاشك أن لام شمسية كان درة التاج بين مسلسلات هذا العام عن نص شديد الوعى من تأليف مريم ناعوم وفريق سرد في كتابة السيناريو مع دراسة واعية وناضجة من مجموعة من خبراء في علم النفس، لمتابعة حالة طفل يتعرض للتحرش والاستغلال الجنسى، من قبل أقرب أقرباء العائلة مما يحدث شرخا في بنيان الأسرة والدائرة القريبة منها وقد أبدع المخرج كريم الشناوى في اختيار مجموعة من المبدعين ومنهم محمد شاهين وأمينة خليل والطفل على البيلى، وأحمد السعدنى، ويسرا اللوزى، أحدث المسلسل صدمة وعى لدى المشاهدين، وأيقظ الكثيرين من غفلتهم!! وهو أحد الأدوار الأساسية للدراما التليفزيونية التى لاتكتفى بتقديم المتعة، ولكن دورها يتجه إلى الوعى بأسلوب رقيق لايعلو إلى درجة الخطابة والإرشاد، وهو ما يمكن أن نلاحظه في مسلسلات قهوة المحطة، وظلم المصطبة، ومنتهى الصلاحية، وإخواتى وكلها أعمال تقدم متعة فنية خالصة مضافا إليها وعى بقضايا المجتمع ومشاكله المزمنة.