الخميس 8 مايو 2025

مقالات

من العقاد إلى العرب: "قاطعوا إسرائيل"

  • 6-5-2025 | 12:32
طباعة

من خلال سلسلة «اخترنا لك» العدد 27، نُشر كتاب «الصهيونية العالمية» لكاتبنا الكبير عباس محمود العقاد، وقد قام بإعداد الكتاب للنشر الكاتب المصري محمد خليفة التونسي، الذي ترجم «بروتوكولات حكماء صهيون». وسلسلة «اخترنا لك» كانت تصدرها دار المعارف، وكان يقوم على إعدادها ونشرها عبد القادر حاتم، سهير القلماوي، حسين مؤنس، عبد الحميد يونس، علي أدهم، محمد يحيى عويس، ومحمد مصطفى عطا.

وقد قدم محمد خليفة التونسي - المولود في قرية تونس المصرية، والذي رثى العقاد بقصيدة بلغت أربعمائة وأربعين بيتاً عند وفاته - لهذا الكتاب مقدمةً في أربع صفحات ونصف تحت عنوان "بداءة العقاد والصهيونية"، تحدث فيها عن الكتاب وكيف جاء، وما جاء فيه، محللًا دون التطرق إلى محتوى الكتاب حتى لا يفقد القارئ شغف القراءة، وأطلق على ذلك توطئة احتراما للعقاد.

وجاء الكتاب في 172 صفحة، شاملةً الغلاف والفهرس والتقديم والتعقيب و27 عنوانًا رئيسًا، تناولت موضوعاتها: الصهيونية قبل الميلاد، الصهيونية من الميلاد إلى القرن التاسع عشر، الصهيونية منذ وعد بلفور، الصهيونية العالمية، الصهيونية العالمية جنايتهم على أنفسهم، الصهيونية العالمية دعوى الاضطهاد، الصهيونية العالمية والنبوغ، الصهيونية العالمية وطوابيرها الخمسة في ميادين السياسة والاقتصاد والثقافة والمجالس النيابية والمسألة الشرقية، الصهيونية العالمية وأساليبها في الوقت الحاضر، عصبية الصهيونية في ميدان الثقافة والسياسة، مصير الصهيونية موضحًا الأسباب الدولية ونفوذها المهدد وبنيتها المتناقضة ومصيرها في أعين أصدقائها، ومقاطعة العرب.

ثم تناول الاستعمار الصهيوني ومستقبل الصهيونية وعلاقة العقاد بالصهيونية، ليس بتأليف هذا العمل في منتصف خمسينيات القرن الماضي تقريبا فحسب، بل قدم أيضا لأول ترجمة عربية لبروتوكولات حكماء صهيون التي قام بها محمد خليفة التونسي المصري. ونعرض هنا لأهم ما تناوله العقاد في كتابه.

فند العقاد ما يحاول الصهاينة ترسيخه في الأذهان بخصوص أنها حركة دينية مرتبطة بالوعد لسيدنا إبراهيم بالأرض، وأثبت أنه عليه السلام ليس له علاقة بالأرض سوى أنه اشترى قبراً بماله في فلسطين، وأنها كانت في أيدي اليبوسيين العرب في عهده، ومن بعده في أيام سيدنا موسى، وحتى عندما جاء داوود وسليمان عليهما السلام كان حكمهما قصير المدة، ثم تعرض اليهود للسبي من الفرس.

يوضح أن الصهيونيين لم يألفوا أحداً ولم يألفهم أحد، منذ عُرف اسم العبريين في التاريخ، الذين نشأوا في جزيرة العرب مهد الشعوب السامية، على أرجح الآراء؛ فدب النزاع بينهم وبين جيرانهم، وهاجروا إلى جنوب العراق ثم إلى شماله في عصر يقارب عصر إبراهيم الخليل، ثم هاجروا إلى الصحراء السورية فدخلوا أرض كنعان، وهناك كان العرب وعشائر أخرى، وبدأ التاريخ يسمع بأنباء القتال بين هؤلاء جميعاً بعد دخول العبريين إلى أرضهم. بدأ التاريخ يسمع النزاع بين أتباع إبراهيم الخليل أنفسهم، فانقسموا إلى شطرين. ومنذ تلك الحقبة لا يعرف التاريخ لهؤلاء القوم فترة واحدة جمعتهم ألفة ووئام مع جيرانهم. فدخلوا مصر ونفر منهم المصريون، وعادوا إلى كنعان ونفر منهم الكنعانيون. وفي عهد سليمان عليه السلام، بنى لهم الهيكل فثاروا عليه ثم انقسموا بعده قسمين: إلى الشمال وإلى الجنوب، وحفظت كتبهم ما قاله الشماليون في الجنوبيين، وما قاله الجنوبيون في الشماليين، فإذا هي أشد وأشنع مما قاله أعداء الساميين فيهم أجمعين، من أقدمين ومحدثين. ثم سباهم البابليون وحملوهم إلى أرض بابل، فلم تنعقد الألفة بينهم هناك وبين جيرانهم. ولما تفرقوا في البلاد بعد هدم الهيكل، حدث لهم في كل بلد ما حدث في البلد الآخر: نفور وقتال وكراهية، وهو من المواضيع التي لا تنقطع الكتابة عنها والكلام فيها بين الغربيين والشرقيين، وبخاصة بعد اقتحامهم لأرض فلسطين، متواطئين مع ساداتهم المستعمرين ونصرائهم من المتعصبين.

وأكد العقاد أن "صهيون" التي وردت أحياناً بالسين وأحياناً بالزاي في الكتاب المقدس، ليس لها أصل متفق عليه في العبرية، وأكثر الشراح يرجحون أنها عربية الأصل من مادة الصون والتحصين، حيث إنها من الحصون والروابي العالية.

كما دحض العقاد فكرة الوعد بالأرض عند الصهيونية، فأكد أنها لديهم أمر سياسي وليس ديني، وتحكمت فيه الأهواء؛ فحولوه من إبراهيم عليه السلام إلى إسحاق عليه السلام حتى يخرج من سيدنا إسماعيل عليه السلام وأولاده، ثم حولوه إلى يعقوب عليه السلام لينحصر في أولاده، ثم حولوه إلى ذرية داوود لينحصر في مملكة الجنوب دون مملكة الشمال حيث كان الهيكل. وبدأ الأمر سياسيًا دون ما ورد في الكتاب المقدس. وأورد العقاد أن اليهود أثناء وجودهم في الأسر البابلي رأوا في كورش الفارسي - رغم أنه ليس يهوديًا - البطل الذي سيعيدهم إلى الأرض طبقًا لما أورده اليهود في تفسير المسيح في الإصحاح الخامس والأربعين من سفر أشعيا، ولم يؤمنوا بالمسيح عليه السلام وتفرقوا في الإمبراطورية الرومانية.

ويفسر العقاد عقدة الاضطهاد التي تعاني منها الصهيونية بأنها داء مزمن في اليهود، وسيبقى معهم في دويلتهم إسرائيل كما كان معهم في دولتهم القديمة؛ فمن الذي اضطهد اليهود في مملكة سليمان حتى انقسمت على أهلها، ثم انقسم كل شطر من شطريها على أهله؟ ومن الذي اضطهدهم يوم تمردوا على كل نبي من أنبيائهم، وكل قائد من قادتهم، وهم بعيدون عن سلطان غيرهم؟ إن القرآن الكريم قد وصفهم حقًا حيث قال عنهم: "تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتى". وفي الإصحاح الحادي والثلاثين من سفر التثنية يُقال لهم بلسان الرب: "إني عارف تمردكم ورقابكم الصلبة". وفي الإصحاح التاسع من سفر نحميا إنهم "أعطوا كتفًا معاندة، وصلبوا رقابهم ولم يسمعوا". وفي الإصحاح السابع عشر من سفر أرميا إنهم "قسوا أعناقهم لئلا يسمعوا ولئلا يعقلوا". وفي أعمال الرسل أنهم غلاظ الرقاب. وفي سفر الخروج "قال الرب لموسى: رأيت هذا الشعب وإذا هو شعب صلب الرقبة". وفي سفر التثنية يقول لهم موسى عليه السلام: «إني عارف تمردكم ورقابكم الصلبة»، ويقول موسى عليه السلام: "إلى متى يغفر الرب لهذه الجماعة الشريرة المتذمرة؟". وليس في العهد القديم سفر واحد خلا من وصف كهذا الوصف بمعناه أو بما هو أشد من معناه. ولم تتغير طبائعهم بمضي الزمن إلى أيام السيد المسيح، فإن السيد المسيح هو الذي يخاطب أورشليم قائلًا: "يا أورشليم، يا أورشليم، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها، كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحها، ولم تريدي".

فالصهيونيون لم يعرفوا في تاريخهم شيئاً يسمى الولاء والإخلاص في الطاعة لمن يتولى شؤونهم، وكل ما عرفوه وعُرفوا به في تاريخهم الطويل هو طبيعة التمرد والعصيان، وقد جروا على أنفسهم الاضطهاد في كل بقعة وفي كل عصر وبين كل قبيلة، فليس من المعقول أن تكون العلة في غيرهم، وليس للأمم من حيلة معهم إلا أن تخضعهم في آخر الأمر أو تخضع لهم، وإنه لهو المستحيل.

خلال أيام الدولة الرومانية في العصور القديمة، كان اليهود يعزلون أنفسهم في أماكن خاصة بهم ويعملون في مجالات الصيرفة والتجارة والنقود، وكان الاستغلال سمة تلك التعاملات التي نتجت عنها أزمات متعددة أسقطت الدولة الرومانية، كما كان من عوامل سخط الفقراء والأغنياء على اليهود. وكانوا يصحبون الجيشين المتقاتلين لبيع المؤن وشراء الأسرى وتقديم القروض، وكانوا شركاء في كل فتنة وحرب، وهي أمور أدرك منها الأوروبيون أنهم غرباء عنهم وأنهم يريدون هدم المجتمع والكنيسة من الداخل.

يؤكد العقاد على أن الدين لم يكن أساسًا عند الصهيونية بدليل أن تيودور هرتزل كان مشروعه الأساسي تحويل اليهود إلى المسيحية من خلال مدرسة في فيينا، إلا أنهم وجدوا أن عصر الاستعمار والدسائس وضعف الدولة العثمانية، "رجل أوروبا المريض"، وحاجة أوروبا إلى الأموال اليهودية في الحرب العالمية الأولى جعل الصهيونية تعيد النظر في منهجها وتستفيد من تلك الحوادث، وجاءت فكرة الوطن القومي في نهاية المطاف؛ لذا كثرت الجمعيات المهتمة بتوفير الأموال لزيادة الروابط مع فلسطين وشراء الأرض وإرسال المهجرين إليها، رغم أن بعضهم راوده التجمع في أوغندا أو الأرجنتين أو البلقان أو الولايات المتحدة أو بالقرب من البحر الأسود. واستمروا طوال القرن التاسع عشر في هذا التخبط حتى استقروا في مؤتمر بال بسويسرا سنة 1897 على أن تكون فلسطين وطنًا قوميًّا لهم.

وأوضح العقاد نظرية التدرج عند الصهيونية من طمع إلى طمع، التي بدأت بطلب السكن فقط في فلسطين، وتدرجوا لإقامة الوطن ثم الدولة، ثم إنهم "لا يقنعون اليوم بما دون السيطرة الكاملة على جميع البلاد"، ووضح من تسمية الدولة الناشئة باسم إسرائيل أنهم يتطلعون إلى مملكة يهوذا في الجنوب. ووضح من دعوتهم ودعواهم على ألسنة المهوسين منهم أنهم يطمعون في الدولة التي رسمت حدودها في سفر التكوين "من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات"، والتي رسمت حدودها في كلام يشوع "من البرية ولبنان هذا إلى النهر الكبير نهر الفرات ... وإلى البحر الكبير نحو مغرب الشمس".

وكان من أكبر التحركات أن قدم حاييم ويزمان سر صناعة المتفجرات لبريطانيا مقابل دعم الصهيونية في الاستيلاء على فلسطين، فصدر وعد بلفور في 2 نوفمبر 1917. وكانت بريطانيا ترى أن وجود ثلاثة ملايين يهودي في فلسطين يوقف ثورة العرب على بريطانيا، وقال الصهيوني الكبير بن جوريون "من خان بريطانيا العظمى فقد خان الصهيونية"، لذا سار الدعم البريطاني الكبير للصهيونية بكل قوة لتمكينها من الاستيلاء على فلسطين.

كان صدور وعد بلفور إعلانًا بتغلب الفكرة القومية على الفكرة الدينية، وانتصار القوميين على معارضيهم، ولا يزالون منتصرين عليهم بقوة النجاح الموقوت، ولكنه نجاح لا يدوم، بل هو في الواقع نجاح مشؤوم. وهؤلاء الذين نجحوا اليوم بإنشاء دويلة إسرائيل قد أثاروا في نفوس أبناء دينهم عصبية لا طاقة لهم بإشباعها، وإذا كانت العزلة قد جرت عليهم عداوة الأمم في الماضي، فهي لا تنجيهم من تلك العداوة بعد شيوع أمرها.

وتناول العقاد جهود بريطانيا لصالح الصهيونية ضد العرب حتى أعلنت دولتها في مايو 1948، مفسرًا للحوادث وللتآمر الدولي ضد العرب لصالح الصهيونية التي انهالت عليها الأموال والدعم السياسي والهجرات من كل مكان، حتى وصل تعداد اليهود عند نهاية عام 1952 إلى أكثر من مليون وستمائة ألف يهودي.

وكما قال العقاد: "الخلاصة في كلمتين أن هؤلاء القوم الذين وصفهم القرآن بأنهم لا يعقلون – لم يصنعوا بالوطن القومي في فلسطين إلا أنهم جروا بأيديهم عداوة حامية كانوا مستريحين منها، وخلقوا للدول الكبرى مشكلة كانت في غنى عنها، وعادوا مرة أخرى يبحثون عن أوطان، ويحارون فيما ينتظرهم من مصير".

وأكد العقاد على أن الغربيين الذين يساعدون الصهيونية العالمية لا يساعدونها حبًا لها، فما في الناس أحد يحب الصهيونية، والصهيونيون أنفسهم لا يحب بعضهم بعضًا حتى في فلسطين. "وإنما المسألة هنا خدمة للمصالح الاستعمارية، وعداوة للإسلام وليست محبة للصهيونية".

وأخلاق الصهاينة منذ أقدم العصور هي العدوان والادعاء والأنانية، والصهيونية بغيضة إلى كل الناس بغيضة في كل بلد بغيضة في كل زمن، وفي العصور الحديثة اختلط الأمر على الباحثين فخلطوا بين الصهيونية وبين التعصب الديني لليهود، وهما شيئان منفصلان، وأطلقوا على بغض الصهيونية اسمًا جديدًا "كراهية السامية" Anti-Semitism، الذي حاول البعض استخدامه ضد الأمم الأخرى.

ويستشهد العقاد بشهادة الصهيوني دوجلاس ريد، صاحب جريدة "نيويورك تيمز"، الذي يقول إنه "ينفر من أساليب الإكراه التي يعمد إليها الصهيونيون في أمريكا، إذ يستخدمون الأسلحة الاقتصادية لإسكات من يخالفونهم، وأنه هو نفسه، وهو أمريكي يدين باليهودية – قد يتعرض للمتاعب من جراء هذه الشكوى".

الصهيونية إلى النهاية 

يقول العقاد: "إن علامات الفناء في الصهيونية لأنها بنية متناقضة، يصلحها من ناحية ما يفسدها من ناحية أخرى"، إنها هيئة عالمية ينطبق عليها مصير الشؤون العالمية من تغير وتبدل. فهي في الماضي كانت تهتم بالنواحي الاقتصادية، فلا يدرك الناس خطرها إلا وقت الأزمات والديون، وعندما اشتغلت بالسياسة أدرك الناس مساعيها العالمية. وهي في رأي العقاد "فاتحة الدمار لأن الهيئة التي تتحدى العالم كله منهزمة في النهاية بغير مراء".

والخبراء العسكريون يرون أن وضع إسرائيل كدولة الصهيونية يجعلها دائمًا في حالة استعداد للحرب بكل نفقاتها في ظل وجود حدود يبلغ مجموعها 600 ميل وعمق صغير لا يصل أكبر قطاع فيه إلى 20 ميلاً وأصغر قطاع يبلغ 7 أميال. وشعب قليل العدد، لذا جعلت التجنيد لديها يبدأ من سن 14 للنساء والرجال. وبقاء الجيش في حالة استعداد دائم، والتجنيد يكلف إسرائيل نصف ميزانيتها، وهو عبء فادح لا يتأتى لها أن تخفف منه ما دامت البلاد العربية تقاومها وتقاطعها. ومهما تصنع من ضروب الحيطة، فالأعباء أكبر. وإذا انهزم جيش إسرائيل في القتال، فهي هزيمة الصهيونية كلها وفناؤها بالعدد والعدة.

وهي نكبة لا يتعرض العرب لمثلها، لأن أعدادهم كبيرة ويستطيعون إن أرادوا أن يجندوا الجيش بعدد سكان إسرائيل، تلو الجيش، دون أن يستنفدوا ما عندهم من وسائل المقاومة والثبات.

تلك العصابة التي تسمى دولة إسرائيل، لا وجود لها - ولا يتأتى أن تبقى في الوجود إلا إذا عاشت على استغلال الشعوب من حولها. وليس من حولها شعوب تطمع في استغلالها غير الشعوب العربية. إننا نسمع عن التوازن العسكري بين إسرائيل والعرب، ونعلم أن هذا التوازن يقضي بحرمان العرب من كل قوة حربية تزيد على قوة إسرائيل. وإذا تساوى العرب وإسرائيل في القوة الحربية، فمعنى ذلك أن إسرائيل أقوى من العرب جميعًا، لأنها تتصرف في قوة واحدة بإرادة واحدة، ولها بذلك فرصة أسرع على الأقل من فرص العرب مجتمعين. ورغم ذلك، فإن ميزان القوى مع العرب لا يهم إسرائيل، وهي تعتقد أن الذين خلقوها سيبادرون إلى نصرتها ومعونتها إذا تعرضت للهزيمة في ميدان القتال.

إن التفوق العسكري لا يهم إسرائيل بمقدار ما تهمها القوة الصناعية والاقتصادية، لأنها لن تعيش بمواردها زمنًا طويلاً إلا إذا تفوقت على العرب في ميادين الصناعة والاقتصاد؛ فإما أن تظل عالة على التبرعات والمعونة الخارجية بغير انقطاع، أو تعيش بمواردها الصناعية ومرافقها التجارية والاقتصادية. وليس في استطاعتها أن تعيش بمواردها الصناعية وثروتها الاقتصادية حين يتقدم العرب في الصناعة، وحين تصبح لهم تجارة تناسب التقدم في الصناعة.

وذكر العقاد أن مجلة الشرق الأدنى في عدد خريف 1954 نشرت مقالًا تحت عنوان "اقتصاد إسرائيل المشوه" رأى أن اقتصاد إسرائيل يتمزق بسبب إغلاق قناة السويس وحرمانها من المواد الخام الرخيصة والأسواق القريبة التي يمكن أن يتم تصريف بضاعتها فيها. وسوف تضطر إلى تصريف منتجاتها في أسواق بعيدة لا تناصر قضية العرب. وقطع أنابيب البترول من العراق جعلها تستورد البترول بملايين الدولارات من فنزويلا والولايات المتحدة، وتكلفة استيراد البترول هي قيمة المعونة التي حصلت عليها من الولايات المتحدة.

إن لجوء إسرائيل إلى شراء الخامات من بلاد بعيدة يزيد خسارتها على أرباحها، ومصنوعاتها لن تجد من يشتريها بأثمانها الغالية، مع اشتداد المزاحمة في تلك الأسواق. لهذا تتهافت إسرائيل على مصالحة الأمم العربية، وفك الحصار الذي تضربه تلك الأمم عليها. ولا يكفيها أن ترغم الأمم العربية على مصالحتها وفتح أسواقها لمصنوعاتها، بل يلزمها أشد اللزوم أن ترغم العرب جميعًا على البقاء - مدى السنين - بغير صناعة تنافس الصناعة الصهيونية.

ويذكر العقاد: اتفق الجميع سواء من العرب أو الصهاينة "إن إسرائيل لا تحتمل البقاء مع مقاطعة العرب لها. فإذا قاطعها العرب وثابروا على مقاطعتها، فليس في الأرض قوة تنصرها عليهم. وليس بالعرب من حاجة إلى سلاح يدفعون به خطرها أمضى من هذا السلاح." وأكد العقاد على أن بقاء الصهيونية في فلسطين يتوقف على إرادة الأمم العربية "فلن تدوم الصهيونية في الشرق الأدنى إذا عملت أمم العرب على أن تموت ولا تدوم".

لقد وجدت إسرائيل لتخنق الحياة العربية من حولها، وتتقدم وحدها بصناعتها بين بلاد لا صناعة لها. إن تعجيز العرب أجمعين عن مجاراة إسرائيل وحدها في ميدان الصناعة والتقدم أفدح خطوب الاستعمار منذ وجد الاستعمار.

إن دولة الصهيونية لا تستطيع الاستمرار دون دعم الدول الكبرى التي تقدم لها السلاح والأموال والدعم السياسي. ورغم ذلك، لن تضمن لها تقلب السياسة ولا الداء المصاب به اليهود الذي شكا منه أنبياؤهم قديمًا وهو "داء الرقبة الغليظة وليس له دواء". أما الأمم العربية فهي في الحق ضعيفة أمام أنصار إسرائيل، ولكنها تحبط ما يعملون بعمل واحد، وهو المقاطعة "وليس للأمم العربية من خيار إلا هذه المقاطعة أو سيطرة إسرائيل عليها بما تأخذه من خيراتها وتستفيد من جهودها".

إن ثروة إسرائيل مثقلة بالتفاوت الكبير بين صادراتها ووارداتها، فوارِداتها خمسة أضعاف صادراتها، وما دامت المقاومة العربية محيطة بها من جميع جوانبها، فسوف تعاني ولن تستطيع الصمود. ودويلة الصهيونية تتأرجح بين الكفتين: كفة البقاء وكفة الفناء، وعامل واحد إذا بقي في كفة الفناء كانت له الغلبة في النهاية، وهو عامل المقاومة العربية.

والتناقض يضرب بمعوله في كيان إسرائيل. إنها لا تسع يهود العالم، ولا يهود العالم يرغبون جميعًا في الانتقال إليها؛ وإذا طال بإسرائيل عمرها وجاء اليوم الذي يتكرر فيه اضطهاد النازية والفاشية، فليس من البعيد أن تصد إسرائيل سيول الهجرة إليها، لأنها لا تستطيع أن تؤويهم، بل لا تريد إيواءهم باختيارها.

ويري العقاد في نهاية كتابه "الصهيونية العالمية" أن المسألة في جوهرها أكبر من مسألة الخلاف الحاضر بين العرب وإسرائيل وإنما هي مسألة الموازنة بين نتيجتين لا معدي عن إحداهما على تعاقب الأيام.

فإما أن تذهب إسرائيل من حيث أتت، وإما أن تبقى الأمم العربية فريسة لإسرائيل تأكل من لحمها ودمها وتحول بينها وبين التقدم، لكي تأمن مزاحمتها اليوم وغداً وإلى آخر الزمان في ميدان الصناعة والتجارة والارتقاء على الإجمال. وذهاب إسرائيل من حيث أتت أهون النتيجتين وأدناهما إلى المعقول، وذهابها من حيث أتت نتيجة محتومة في مصير صهيون.

وسيأتي اليوم الذي يعلم فيه الصهيونيون - كما يعلم غير الصهيونيين أن قيام إسرائيل نكبة عليهم ونكسة بهم.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة