الجمعة 30 مايو 2025

كنوزنا

انتهت تجربتي مع الماركسية عندما اكتشفت سعيهم إلى تحقيق الذات لا تحقيق العدالة

  • 10-5-2025 | 10:48

د. عبدالوهاب المسيري

طباعة
  • د. عبدالوهاب المسيري

نشأت في أسرة كانت تنتمى إلى ما يمكن تسميته «البورجوازية الكبيرة الريفية»، وهي بورجوازية كبيرة في دخلها وفي فرديتها، ولكنها كانت تعيش خارج الإسكندرية والقاهرة، أي تعيش في الريف، لم تتأثر بعناصر التغريب التي كانت تضرب بأطنابها في البورجوازية الحضرية، ولذا ظلت هذه البورجوازية الريفية محتفظة بالقيم المصرية والعربية والإسلامية، ولم تبحث عن الجاه والأبهة، ومعظم أعضاء هذه البورجوازية كانوا أعضاء في حزب الوفد أو علي الأقل متعاطفين معه (لم يكن والدي يشارك هذه الطبقة توجهاتها، فقد كان متعاطفاً للغاية مع الحزب السعدي!).

كما كانت دمنهور مدينة حديثة بها كثير من سمات المدن الحديثة، كما كانت دمنهور مدينة تجارية توجد فيها عائلات تجارية عريقة وكانت إلى جانب هذا، من أكثر المدن تصنيعاً في العالم (بالنسبة لعدد السكان) في النصف الأول من القرن العشرين (حسبما قرأت في إحدى الدراسات) بسبب وجود عدد كبير من محالج القطن فيها ولكن دمنهور، مع هذا، كانت على مستوى من المستويات قرية كبيرة.

في طريقنا إلى مدرسة دمنهور الثانوية كنا نمر على حقول يزرعها فلاحون نشتري منهم الطماطم أو الخس، والمدرسة ذاتها كانت توجد في وسط الأراضي الزراعية، وكانت دمنهور مركزاً للقرى المجاورة يأتيها الفلاحون يوم الإثنين (يوم السوق).

ودمنهور، باعتبارها مدينة/ قرية، كانت تعيش داخل إطار صارم من القيم والشعائر الدينية والعرفية التي تضبط حركة كل شىء: من يقبل يد من؟ من يفسح الطريق لمن؟ ما هي واجبات كبار العائلات، وما هي حقوقها، وما هي واجبات الأهالي وحقوقهم؟.

ومن المقولات الشائعة التي تكاد تكون بديهية أن المجتمع التقليدي يمحو الشخصية الفردية للمرء، ومما لا شك فيه أن عملية الضبط الاجتماعي المباشر في المجتمع التقليدي تضع حدوداً على الفردية، ومع هذا كان هناك كم هائل من الشخصيات ذات السمات الفذة في حياتي في مجتمع دمنهور التقليدي، ففي إطار أسرتي الممتدة، لم يكن أبي هو الشخصية الوحيدة الطاغية، كما هو الحال في الأسرة الدمنهورية، إذ كان هناك نماذج أخرى يمكنني أن أحذو حذوها ومن خلالها تمكنت من أن أتجاوز والدي وأن أتحرر منه.

ولعل هذا التنوع الذي يسم المجتمع التقليدي يعود إلى التسامح الذي يتسم به، وقد ظهر هذا التسامح في علاقتنا بالأقباط وكنت ألاحظ أصدقاء خالي الأقباط من أعضاء حزب الوفد، وكيف كانوا جميعاً يقفون صفاً واحداً ضد الإنجليز والملك، باختصار شديد، علاقتنا بإخواننا الأقباط في هذا المجتمع التقليدي كانت علاقة طيبة ومستقرة.

ومن أهم التجارب في حياتي الفكرية الوقت الذي قضيته في مقهى المسيري لصاحبها الأستاذ عبدالمعطي المسيري (رحمه الله)، ترددت عليها مرة أو مرتين قبل دخول الجامعة، وجلست على هامش جماعة الشعراء والفنانين والقصاصين والمفكرين والمثقفين ومحبي الثقافة، وبعد دخولي الجامعة أصبحت عضواً أساسياً في تلك الجماعة التي كانت تلتقي في المقهى، في جو كله مودة ودون استقطابات أيديولوجية ودون خوف أو وجل من التجريب أو الخطأ، فالمرء أمام أصدقائه لا يدعي ولا يضطر إلى موازنة الأمور بل يعبر عما بداخله في جرأة وهو يعرف أن ما سيقوله إما سيقابل بالإعجاب أو بالضحك والسخرية، وسخرية الأصدقاء مفعمة بالحب.

بين التعاقد والتراحم

كانت مدينة دمنهور مدينة تجارية حديثة تسود فيها العلاقات التعاقدية التي تسود في المدن والمجتمعات الحديثة (أي أنها كانت تنتمي لنمط الجيسيلشافت gesselleschaft على حد قول علماء الاجتماع الألمان)، ولكن تحت القشرة الحديثة كان يوجد مجتمع تقليدي، جماعة مترابطة متراحمة (جماينشافت gemeinschaft) لم تكن العلاقات فيها مبنية على المنفعة واللذة وحسب، إذ كانت هناك اعتبارات أخرى غير مادية وغير أنانية تشكل مكوناً أساسياً في هذه العلاقات (مثل العصبية والشرف).

ولعلنا لو درسنا خلفية كثير من المثقفين المصريين (وخصوصاً الثوريين) سنلاحظ أنهم عاشوا في مرحلة انتقال من المجتمع التراحمي إلى المجتمع التعاقدي، ولعل هذا يفسر الخلفية الريفية لكثير من مثقفي مصر ممن لعبوا دوراً في تاريخ مصر السياسي والثقافي الحديث.

ولأنني عشت هذا الانتقال بكل جوانبه (وتدعم إحساسي به حينما انتقلت من دمنهور إلى الإسكندرية ومن الإسكندرية إلى نيويورك، أي انتقلت من مجتمعات أقل تعاقدية إلى مجتمعات أكثر تعاقدية، إلى أن وصلت إلى مانهاتن قمة التعاقد) أقول بسبب هذا كله أصبحت ملاحظاً قوياً لعلاقات التعاقد والتراحم، وأصبح التناقض بينهما أحد أهم المقولات الأساسية في خريطتي الإدراكية للعالم.

فعلى سبيل المثال كنت ألاحظ علاقة والدي بالعمال داخل متجرنا وبكل من يعملون عندنا، كان والدي ولا شك هو صاحب العمل الذي يدفع لهم أجورهم، يقتر ويغدق عليهم حسبما يراه مناسباً، ولكن التفاوت الاقتصادي والصراع الطبقي كانا يقللا من حدتة العلاقات التقليدية التراحمية والواجبات الاجتماعية والأخلاقية الملقاة على عاتق والدي باعتباره (معلم كبير) وصاحب عمل، وأسلوب حياة العمال وصاحب العمل كان واحداً، الأعياد هي هي، والأحزان هي هي، واللغة هي هي، وطريقة الطعام هي هي، الجميع كانوا يحتفلون بمولد النبي، الجميع كانوا يلبسون بنفس الطريقة (فالملابس الغربية كانت لا تزال هامشية)، والجميع كانوا يصلون سوياً، وكان أولاد التجار والعمال والموظفين ينفضون عن أنفسهم انتماءاتهم الطبقية بعد الظهيرة ليشتركوا سوياً في اللعب، فلم تكن اللعب الإلكترونية الحديثة قد ظهرت بعد، وكان يعاد تشكيل الهرم الحاكم حسب المهارات الشخصية.

من الشك إلى الإيمان

وفي سن الخامسة عشرة، برغم أنني نشأت في مجتمع تقليدي زحف الشك إلى نفسي، وخلف في فراغا، فلم يعد من الممكن قبول الأطر القديمة، وكان لا بد أن يملأ هذا الفراغ العقائدي (أو الأيديولوجي)، وبما أنني كنت ثائراً ضد الظلم الاجتماعي كان من الحتمي تقريباً أن أتوجه للماركسية، وقد أعطاني صديقي سعيد البسيوني (أستاذي الحقيقي عبر حياتي) بعض الكتب عن هذا الموضوع، ثم فتحت المكتبات السوفييتية التي كانت تبيع الكتب السوفييتية و(الماركسية) بأسعار رخيصة، فاشترينا الكثير منها، وبدأت أقرأ فيها بنهم، وكان اهتمامي بالماركسية فكرياً في بداية الأمر إلى أن التقي بي أحد أعضاء (حدتو) وجندني عضواً في الحزب عام 1954، وفوجئت بتصعيدي في الحزب نظراً لمعرفتي باللغة الإنجليزية والمصادر الأولية للفكر الماركسي، وقد قمت بترجمة كتاب ماوتسي تونج عن التناقض عام 1957 (لعلها كانت أولى الترجمات إلى العربية)، ومن الطريف أنني بموضوعية كاملة كنت أبين لهم في الحزب أنه يجب ألا أصعد بسبب خلفيتي البورجوازية ولابد من اختباري والتأكد من "نقائي الأيديولوجي" ومع هذا، استمروا في تصعيدي ووجدتني مسئولاً عن خلية، وعضواً في لجنة منطقة الرمل (على ما أذكر)، وقد انتهت تجربتي الماركسية حين اكتشفت الاتجاهات النيتشوية عند كثير من الماركسيين، وأن ما كانوا يسعون إليه هو نوع من أنواع تحقيق الذات وليس تحقيق العدالة الاجتماعية.

المهم في تجربتي "الماركسية" القصيرة أنها أتاحت لي فرصة التعرف على بعض النماذج الإنسانية عن قرب كما أنني استوعبت بعض المقولات الماركسية مثل دور التاريخ واللحظة التاريخية في تحديد مواقف الأفراد وتوجيهاتهم، كما أن الماركسية دعمت من بعض الاتجاهات الكامنة في مثل رفض الظلم والاستغلال، والأكثر من هذا زودتني الماركسية بأرضية نقدية أقف عليها لأطل على بيئتي البورجوازية في مصر، ثم فيما بعد على بيئتي الأمريكية في الولايات المتحدة، فمن خلال الماركسية أمكنني الاحتفاظ بالبعد التقليدي وباستقلالي عما حولي وبمقدرتي على رؤيته في كليته، ومن ثم تجاوزه.

رحلتي الفكرية

ولكن رغم هذه الرحلة المادية في حياتي بدأ الشك يدخل إلى قلبي نتيجة لمجموعة من الهزات، حدثت أولى الهزات العنيفة حينما رزقني الله ابنتي نور، كانت لحظة ولادتها لحظة فارقة في حياتي إذ وجدت نفسي أنا العقلاني المادي وجهاً لوجه مع معجزة جعلتني أغرق في التأمل، طفلة تولد وبعد ولادتها بلحظات تنظر بعينيها الواسعتين من حولها، ثم ترتبط بأمها على الفور.

وبدأت أتأمل في هذا الكائن الجديد الذي دخل حياتي: هل يمكن أن يكون كل هذا نتيجة تفاعلات كيماوية وإنزيمات وغدد وعضلات؟ هل هذا الكل الإنساني هو جماع أعضائه المادية وثمرة الصدفة، أم أن هناك شيئاً ما يتجاوز السطح المادي؟ هل الإنسان فعلاً جزء من الطبيعة، لا يفصله فاصل عنها، خاضع لقوانينها وأهوائها (كما يقول المنهج المادي الصارم)، أم أن فيه أسراراً وأغواراً؟ وفوجئت أنني، رغم شكوكي الفلسفية وتصوراتي المادية، أكتب قصيدة تحاول استكناه هذا الحدث من خلال صور شعرية دينية، إذ أن الصور المادية لم تعد كافية، فقد أصبحت ظاهرة الإنسان بالنسبة لي ظاهرة غير مادية غير طبيعية، معجزة بكل المعايير المعروفة لدي، وهكذا ظهر هذا التناقض بين الإنساني والطبيعي، الذي يشكل حجر الزاوية في رؤيتي للعالم.

ومن الأمور التي لاحظتها بشكل مباشر وهزت مقولاتي المرجعية أنني اكتشفت إبان إقامتي في الولايات المتحدة أن كل أصدقائي إما من أصل كاثوليكي أو يهودي (باستثناء أستاذي، فكان بروتستانتياً ولكن من جماعة بروتستانتية هامشية)، وأنا هنا أتحدث عن أصولتهم الدينية لا عن انتمائهم الديني الفعلي (فمعظمهم كانوا ملحدين أو غير مكترثين بالدين)، وبدأت هذه المسألة تحيرني، أي أنني اكتشفت الدين كمقولة تحليلية وليس مجرد جزء (غير حقيقي) من بناء فوقي ليس له أي أهمية في حد ذاته، ويمكن تفسيره (كشفه – فضحه) في إطار العناصر الاقتصادية، وأن المكون الديني ليس مجرد قشرة وإنما هو جزء من الكيان والهوية.

ومن الظواهر الأخرى التي استرعت انتباهي وأثارت قلقي في بداية الأمر أنني كنت دائماً أتصور أن الحضارة الغربية هي حضارة الفردية وأن حضارتنا هي الحضارة الشرقية الجمعية، هكذا تعلمنا وهكذا أدركنا الكون (وطبعاً كان هناك الأطروحات "العلمية" الجاهزة التي تفسر هذا: اقتصاد رأسمالي – فكر حركة الاستنارة – المسيحية الغربية... إلخ)، ولكنني حينما ذهبت إلى هناك، لاحظت أن ثمة نمطية مذهلة في أشكال الحياة، وفي الأنماط الإنسانية، فوجدت أن الشخصية السائدة شخصية برجماتية تبدأ بتأكيد ذاتها تماماً ولكنها تنتهي بالتكيف مع ما حولها وبالاستجابة المباشرة لما يأتيها من إشارات ونداءات وإعلانات وبيانات سياسية، وتعيد صياغة نفسها بسهولة وسرعة حسب آخر الصيحات.

وحينما قارنت بين الأنماط الأمريكية حولي والأنماط المصرية التي عرفتها في مصر (حتى أواخر الستينيات)، وجدت أن عالم الإنسان المصري أكثر امتلاء وأكثر صلابة، فهو قادر على الحب وعلى الكره، وعلى التعاون والتآمر، وعلى أن يسترجع ذكرياته وأن يتحمس لوطنه وذاته، وهو لا يصدق كل ما يقال له بسرعة، بل تجده يستمع إلى الإذاعات الأجنبية ليتحقق من صدق ما سمع، أما الإنسان الأمريكي، فهو مؤمن تماماً بكل ما يقال له، وما يقال له هو كبسولات إعلامية تزيده تبعية خارجية وهشاشة داخلية.

اللا عقل الغربي

وتوالى اهتزاز المقولات والأفكار المرجعية، كانت البارتيزان ريفيو من أشهر المجلات الفكرية في الولايات المتحدة، وكان رئيس تحريرها، الأستاذ وليام فيلبس من ضمن أساتذتي، وأعجب بي وكان يدعوني للحفلات التي تقيمها مما كان يتيح لي فرصة الحديث مع كبار الكتاب الأمريكيين ومع الشباب المثقفين الواعدين، فكنت أحدثهم بحماس شديد (باعتباري واحداً منهم) عن الإنسانية (الهيومانية) humanism والاستنارة والعقل والعقلانية الغربية، فكنت أفاجأ بأنهم يتحدثون عن اللا عقل واللا وعي والمخدرات والعبث والأساطير والفن البدائي والوعي الكوني والذوبان في الكون والبنيوية، كما لاحظت تزايد الإشارات السلبية إلي مفهوم الإنسانية الهيومانية والإشارات الساخرة إلي الاستنارة، واكتشفت ساعتها أنني الداعي الوحيد للاستنارة في صحراء اللا عقل الجليدية، واكتشفت أن الحضارة الغربية قد دخلت مرحلة جديدة، فالحضارة الغربية التي عرفناها ونشأنا على الإعجاب بها، بعقلانيتها وإنسانيتها، كانت تعالج سكرات الموت بعد أن سدد نيتشه ضربته الأولى، وبعد أن توالت الضربات من كيركجارد ونيتشه إلى هايدجر وهتلر.

أذكر جيداً أنني حينما بدأت التدريس في مصر عام 1969 أعطيت محاضرة عن الاستنارة الغربية نوهت فيها بمناقبها العديدة ولكنني في المحاضرة التالية كنت أدرس الشعر الإنجليزي الحديث، وكان الدور على قصيدة ت، س، إليوت "الأرض الخراب the waste land" وبينما كنت ألقي محاضرتي، أحسست بسخفي الشديد، إذ تساءلت كيف يمكن لحضارة الاستنارة أن تنتهي في ظلمات الأرض الخراب؟ كيف يمكن أن أبشر بالحضارة الغربية باعتبارها حضارة الاستنارة من الساعة التاسعة حتى الساعة التاسعة وخمس وخمسين دقيقة، ثم أبين لنفس الطالبات أنها في واقع الأمر حضارة الأرض الخراب من الساعة العاشرة حتى الساعة العاشرة وخمس وخمسين دقيقة؟ كان لا بد أن أجد تفسيراً كلياً قادراً على تفسير هذا التناقض، هذه الوحدة الكامنة خلف التنوع، بل خلف التناقض الظاهر الواضح!.

واستمر تسديد الضربات لإيماني بعقلانية الغرب، فقد تذكرت – شأني شأن الكثيرين من مثقفي العالم الثالث – الإمبريالية الغربية، وأنها هي التي كانت تعوق التحديث في بلادنا، وتتعاون مع النظم الفاسدة، وتقوم باستغلال خيرات آسيا وإفريقيا ونهب العالم، تساندها في ذلك القوة العسكرية والأيديولوجيات العنصرية مثل "عبء الرجل الأبيض" وهى أيديولوجيات أبعد ما تكون عن العقلانية.

وقد لاحظت (شأنى شأن أي عربى مقيم في الغرب) تأييد الغرب غير المتحفظ لإسرائيل (الدولة اليهودية) والتعاطف الكامل مع ضحايا النازية الذى يصاحبه في الوقت ذاته إنكار كامل للجرم الصهيوني الغربى ضد الفلسطينيين وعدم الاكتراث بضحايا الغارات الإسرائيلية، حيرنى هذا الأمر في البداية، وحاولت أن أهمشه عن طريق تصنيفه باعتباره مجرد "استثناء" للقاعدة العامة أو "انحراف" عن المسار الرئيسى، لكن التأييد الغربى للدولة الصهيونية كان من الشمول والقوة بحيث كان من المستحيل تفسيره على هذا الأساس.. وبدأت أرى تأييد الغرب لإسرائيل كجزء من نمط أكبر، وهو الإيمان الكامل بشريعة القوة والغاب لا شريعة العقل والعدالة.

ولم تكن الإمبريالية الغربية والتأييد الغربى للمشروع الصهيوني هو الأمر الوحيد اللا عقلاني في هذه الحضارة الغربية، إذ كان هناك دائما مشكلة الأمريكيين السود وما يتعرضون له من اضطهاد غير مفهوم.

ومن الأمور التي حيرتنى بعض الوقت إقبال الأمريكيين النهم (وأحياناً المرضى) على الجنس، وانشغالهم الشديد به لدرجة غير مألوفة (فالرئيس كلينتون ليس، بأية حال نموذحاً فريدا). بينما مجال الإشباع الجنسى متاح بشكل ديمقراطى مذهل. وهنا اهتزت مقولة مرجعية أخرى وتحول الجنس من كونه مجرد فعل جسدى لإشباع الرغبة الجنسية إلى موضوع للدراسة والتأمل، أي أصبح موضوعاً فلسفيا. وبدأت أسأل لعل الارتواء الجنسى مرتبط بمكونات أخرى غير مادية، ولعل هذه العناصر ليست مجرد قشرة وإنما لها علاقة قوية بالجنس والإشباع الجنسى، ولعل الجوع الذى أشاهده في الولايات المتحدة والذى ليس له أي تفسير مادى مباشر (هل يمكن تفسير سلوك الرئيس كلينتون بشكل مادى؟) لعله يعود إلى "رؤيتهم" المادية للجنس ، كما لو كان الجنس شيئاً طبيعياً مادياً، مسألة غدد وعضلات وحسب، مسألة محايدة تماما لا تختلف عن أي عملية بيولوجية أخرى (مثل تناول الطعام)، فهم لم يدركوا أن الجنس مسألة إنسانية مركبة مرتبطة برؤية الإنسان للكون وهويته الفردية، وأن عدم إدراكهم لهذه الحقيقة البسيطة العميقة، هو أحد أسباب عدم الارتواء، فهم يمارسون الجنس في إطار مادى، يترك كيانهم الإنسانى بلا إشباع (مرة أخرى التناقض بين الطبيعى والإنسانى) أو لعلهم أدركوا تركيبة الجنس على المستوى الفردى، أما على المستوى الاجتماعى وهو المستوى الذى يتحكم في رؤية الإنسان لنفسه، فالأمر جد مختلف، فالصوة التي تشيعها وسائل الإعلام هي صورة الجنس السهل المباشر، الذى لا يسبقه مقدمات ولا توجد بعده أي توابع: أطفال وعلاقات اجتماعية وتغير في الهوية.

الإمبريالية النفسية

وكان لإدراك الإمبريالية النفسية أثره العميق على . والإمبريالية النفسية هي إمبريالية قررت توسيع رقعة السوق لا عن طريق الانتشار الأفقى في الخارج (الذى يتطلب القوة العسكرية) وإنما عن طريق الانتشار الرأسى داخل النفس البشرية ذاتها، التي تتحول إلى سوق دائم الاتساع تسيطر عليه هذه الإمبريالية وتوجهه وتطرح فيه كما هائلا من السلع، ثم تلقى في روع الفرد (الذى يقف عارياً ضعيفا وحيدا أمام وسائل الإعلام) أن هذه السلع لا تحقق "منفعة" وحسب بل و "سعادته" (أي لذته) ايضاً. وقد نجحت هذه الإمبريالية في تسخير كل الطاقات خاصة صناع الصور image  وسيطرت بشكل شبه كامل على الإنسان الأمريكي.، وقد وصلت إلى الولايات المتحدة في وقت كانت تهيمن فيه مدرسة النقد الجديد    New Criticism على كثير من أقسام الأدب الإنجليزى. ومدرسة النقد الجديد تركز على قراءة النصوص وتبتعد بقدر الإمكان عن التفسيرات التاريخية والاجتماعية (دون أن تهملها تماما). فالنص الأدبى- حسب تصور دعاة هذه المدرسة- بناء مكثف بذاته يشبه إناء الزهور، يمكن فهمه من الداخل دون حاجة إلى فهم سياقه أو خلفيته التاريخية. وكانوا يرون أن داخل كل عمل فنى عظيم يوجد إدراك للتناقض Paradox الذى يسم الوجود الإنسانى. بل إنهم كانوا يرون أن ما يميز الظاهرة الإنسانية عن الظاهرة الطبيعية هو هذا التناقض الذى يوسع لغة الشعر التعبير عنه، فهى يمكنها الحديث عن الشيء ونقيضه في ذات الوقت، على عكس لغة العلم المجردة التي لا يمكنها التعامل إلا مع القوانين العلمية المجردة ومع الشيء أو نقيضه، ومن هنا يصبح الشعر والمجاز مسائل لصيقة بالوجود الإنسانى ذاته، ولا يمكن التعبير عن المشاعر الإنسانية إلا من خلالها، ورغم أننى لم أتبن رؤية مفكرى النقد الجديد للنص الأدبى باعتباره كياناً مستقلا، مكتفياً بذاته، ولا للتناقض باعتباره الصورة المجازية الأساسية. وحاولت دائماً أن أرى النص الأدبى باعتباره تعبيراً عن لحظة تاريخية يحتوى على عناصر مركبة عديدة، قد يكون التناقض أحدها، ولكنه ليس بالضرورة أهمها، على الرغم من كل هذا فقد تأثرت تأثراً عميقاً بمقولات مدرسة النقد الجديد النقدية والفلسفية، خاصة هذا التمييز بين الظاهرة العلمية (الطبيعية المادية) والظاهرة الإنسانية، وهذا الشك العميق في العلم باعتباره نموذجاً قاصراً عن التعبير عما هو إنسانى.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة