لم تكن تصريحات رئيس مجلس الوزراء، في ختام جولته التفقدية لمنطقة شرق بورسعيد مجرد رد على "لغط" أثير حول عقد تطوير مع شركة موانئ أبوظبي بل جاءت في سياق أوسع من ذلك كرسالة متكاملة الأركان تحمل أبعادا سياسية وتنموية وإدارية تسعى الدولة من خلالها إلى تأكيد منهجها في الشفافية والمضي قدما في مشروع وطني للتنمية المتكاملة الرسالة كانت واضحة وهي أن التعاقد مع شركة موانئ أبوظبي لا يمثل خروجا عن السياق وإنما يأتي ضمن نموذج معمول به منذ سنوات ويعتمد عليه كوسيلة لتنمية المناطق الصناعية في إطار المنطقة الاقتصادية لقناة السويس فالحديث عن 14 مطورا صناعيا سبقوا هذا التعاقد وعن عقد مماثل قائم في شرق بورسعيد نفسها مقصود به دحض فكرة "الاستثناء" التي روج لها البعض والتأكيد على أن هذا التوجه جزء من رؤية استراتيجية لا تقتصر على شركة أو عقد بعينه.
لكن الأهم من ذلك أن رئيس الوزراء لم يكتف بالتبرير التقني بل حرص على تقديم البرهان المادي من قلب أرض سيناء في إشارة رمزية إلى جدية الدولة في تنفيذ مشاريعها من ناحية وإلى مركزية هذه البقعة في خريطة التنمية الوطنية من ناحية أخرى فالحديث من قلب المصنع وسط أعمال التشييد يعطي مصداقية لتلك السياسات التي طالما طعن البعض في جدواها أو نواياها.
رسائل عديدة حملها حديث رئيس الوزراء وكانت الإشارة إلى حجم التحديات التي واجهها المشروع على المستوى الجغرافي والهندسي والأرض الرخوة والسبخية التي كانت تغوص فيها المعدات والتي تحولت اليوم إلى قاعدة صناعية يبنى فيها أكبر مصنع عربات سكك حديدية في مصر وهذا التحول ليس إنجازا تقنيا فقط بل يعكس إرادة دولة تدرك أهمية الاستفادة من كل شبر من أرضها وتراهن على قدرتها في مواجهة العوائق الطبيعية كما البيروقراطية.
أما مصنع "نيرك" نفسه فهو أكثر من مجرد منشأة صناعية فهو تجسيد لسياسة توطين الصناعة الثقيلة وربط مشروعات النقل الكبرى بإنتاج وطني ما يعني خفض الاعتماد على الخارج وخلق فرص عمل وبناء قاعدة تكنولوجية مستقبلية وحين يخرج أول قطار مصري الصنع من هذا المصنع لصالح مشروع مترو الإسكندرية سيكون ذلك إعلانا واضحا عن نضج هذه الرؤية.
إن تصريحات رئيس الوزراء في شرق بورسعيد ليست إلا بيانا غير رسمي لملامح المرحلة المقبلة والتي تشمل تطويرا بشراكة دولية ضمن نموذج مؤسسي وتحت أعين الدولة ولم يعد الحديث عن التنمية مقتصرا على التصريحات والمؤتمرات بل بات مصحوبا بجولات ميدانية وإيضاحات في موقع العمل وعقود تتبع نمطا موحدا يحكمه منطق المصلحة العامة.
إن شرق بورسعيد ليست فقط مشروعا تنمويا بل رسالة سياسية مفادها أن التنمية في مصر أصبحت لها خريطة ولها منطق والأهم لها أرض تنبت فيها الآن.
وفي النهاية فإن ما قاله رئيس الوزراء وما عرضه على أرض الواقع في شرق بورسعيد لا يمكن قراءته بمعزل عن السياق الأوسع لتحولات الدولة المصرية في إدارة ملف التنمية فالدولة التي كانت لعقود أسيرة الرؤى المترددة والخطط المؤجلة تبدو اليوم أكثر ثقة في نهجها وأكثر حرصا على إشراك الرأي العام في تفاصيل قراراتها والخطاب الذي حمله مدبولي من قلب سيناء لم يكن دفاعا عن عقد بل تأكيد على مشروع وعلى قناعة راسخة بأن التنمية الحقيقية لا تتحقق بالشعارات بل بالفعل والتخطيط والقدرة على التنفيذ وسط التحديات إنها رسالة اطمئنان داخلي وشهادة ثقة خارجية في آن واحد.